د. محمد فايز فرحات

رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام

 

تسع سنوات تقريبا مرت بين ثورة يونيو 2013 ودعوة رئيس الجمهورية، عبدالفتاح السيسى، إلى «حوار سياسى حول أولويات العمل الوطنى»، والذى عُقدت جلسته الافتتاحية فى الثالث من مايو 2023، وانطلقت أعمال لجانه المختلفة فى الرابع عشر من الشهر نفسه. هناك علاقة قوية تربط الحوار الوطنى بثورة يونيو، تجعل الحوار الوطنى امتدادا طبيعيا للثورة، فى سياق فلسفة واحدة، حكمت الثورة منذ لحظتها الأولى، وحكمت عمل الدولة المصرية طوال السنوات العشر الماضية، وهى الفلسفة نفسها التى حكمت الحوار الوطني.

ثورة يونيو جاءت لتنهى مشروعا لتنظيم إرهابى نجح، اعتمادا على قدراته التنظيمية، فى استغلال أحداث يناير 2011 فى السيطرة على المؤسسة التشريعية ثم الوصول إلى الرئاسة، لينتقل بعدها إلى محاولة استكمال مشروعه فى الهيمنة على باقى مؤسسات الدولة، وصولا إلى تغيير الهوية الوطنية. التنظيم استغل فى هذا السياق ثلاث أدوات أساسية. الأولى، هى الطموح الذى ارتبط بأحداث يناير لدى فئة كبيرة من المصريين فى التغيير من خلال قطع الصلة بنظام ما قبل يناير. الثانية، هى التغلغل الذى حققه التنظيم داخل المجتمع قبل يناير، من خلال الاستثمار فى العمل النقابى والأعمال الخيرية وبعض الأعمال الخدمية، الأمر الذى سهل لهم توظيف هذا الاستثمار وتحويله إلى مورد سياسى فى الاستفتاءات والانتخابات التى أُجريت عقب يناير. الثالثة، هى التوظيف البراجماتى للمكون الإجرائى فى الديمقراطية (صندوق الانتخابات)، دونما اعتبار للمكونات والأسس الحقيقية لبناء الديمقراطية (الأطر الدستورية والتشريعية، والثقافة الديمقراطية). الثورة -وما نتج بعدها من سياسات- نجحت ليس فقط فى إزاحة هذا المشروع والقضاء على هذا التنظيم وعلى موجة الإرهاب التى دشنها أصحابه بعد الثورة، لكنها وضعت أيضا أسسا مهمة للعمل السياسى فى مصر، أبرزها عدم التوظيف السياسى للدين. وإذا كانت ثورة يونيو مثلت فى أحد أبعادها عزلا لهذا الفصيل الإرهابى، فقد جاء الحوار الوطنى ليؤكد هذا العزل مرة أخرى من خلال وضع مرجعيات محددة تضمن استبعاد هذا الفصيل من الحوار، رغم محاولاته استغلال الحوار للعودة مرة أخرى للحياة السياسية. كما مثل الحوار الوطنى إطارا مهما لإعادة اللحمة إلى تحالف يونيو الذى وقف وراء الثورة، وهو ما عكسه -ولو جزئيا- تشكيل مجلس أمناء الحوار، وتأكد بشكل أكثر وضوحا فى الجلسة الافتتاحية للحوار الوطنى، ثم داخل لجان الحوار بمحاوره الثلاثة؛ السياسى والاقتصادى والمجتمعي. وإذا كان التنظيم الإرهابى قد قام مشروعه على إقصاء الجميع، باستثناء حلفائه من التنظيمات الإرهابية الأخرى، على نحو ما عكسه مشهد الاحتفال بالذكرى 39 لنصر أكتوبر 1973 العظيم فى استاد القاهرة، فى أكتوبر 2012، والذى كان أقرب إلى الاحتفال بذكرى السادس من أكتوبر 1981 (اغتيال الرئيس محمد أنور السادات) وليس أكتوبر 1973، فإن ثورة يونيو جاءت لتنهى هذا المنحى الإقصائى الخطير. ثم جاء الحوار الوطنى ليعمل على إعادة بناء المشهد السياسى مرة أخرى من خلال منحى احتوائى لكل القوى السياسية الوطنية باستثناء هذا الفصيل الإرهابي.

من ناحية ثانية، فإن إحدى الظواهر الأساسية التى ارتبطت بأحداث يناير 2011 هى إعطاء القوى السياسية أولوية قصوى للسياسة فى معناها البسيط المباشر، على حساب أى أولويات أخرى لا تقل أهمية. فى هذا السياق، تم التركيز على أولوية الديمقراطية وإهمال أى أولويات أخرى، وعلى رأسها التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأغفلت القوى السياسية درسا دوليا مهما مفاده أنه لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية دون مستوى معقول من التنمية، إذ لا يمكن اختزال الديمقراطية فى الجانب الإجرائى فقط، وهو ما أثبتته خبرة عمل صناديق الاستفتاءات والانتخابات خلال العامين التاليين على أحداث يناير، ونجاح التنظيم الإرهابى فى استغلال هذا الجانب الإجرائى فى الوصول إلى السلطة. وجاءت ثورة يونيو لتؤسس لتصحيح وإعادة ترتيب أولويات المجتمع المصري. وإذا كانت عملية إزاحة التنظيم ونظامه قد فرضت أولويتين رئيسيتين خلال السنوات العشر الماضية؛ هما إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية، وتفكيك بنية الإرهاب، فقد أضيفت إليهما أولوية ثالثة هى التنمية. وقد عملت الدولة على هذه الأولويات الثلاث بالتوازي. لا يمكن فهم دعوة السيد الرئيس السيسى إلى الحوار الوطنى كآلية لتحديد أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة المقبلة، عبر توافق بين القوى السياسية الوطنية نفسها التى كانت جزءا من مشهد 30 يونيو، بمعزل عن فلسفة ثورة يونيو؛ فإذا كانت الأخيرة قد فرضت العمل وفق أولويات حتمية ليست موضوعا للخلاف، فإن المرحلة المقبلة تستند إلى توافق على خريطة أولويات جديدة، وهو ما يفسر عودة رئيس الجمهورية، وقائد ثورة يونيو، إلى المجتمع والقوى السياسية للتوافق على هذه الأولويات. وإذا كانت فلسفة الحوار الوطنى هى تعزيز عملية الإصلاح السياسى وفق أولويات محددة، فإنه لم يكن من الممكن الانتقال إلى هذا الهدف دونما تثبيت مؤسسات الدولة الوطنية وتفكيك بنية الإرهاب، بل لم يكن من الممكن الانتقال إلى إصلاح حقيقى مستدام دونما تدشين مشروع تنموى، فى إطار رؤية أكثر عقلانية ووضوحا لمسألة الإصلاح وللعلاقة بين قضية الديمقراطية والتنمية، بما تتضمنه الأخيرة من أبعاد عدة، منها تنمية الريف المصرى وتحريره من حالة التهميش التاريخى التى تعرض لها عقودا طويلة.

وتظل العلاقة الأقوى والأبرز بين 30 يونيو والحوار الوطنى هى دور الرئيس السيسى، قائد الثورة والداعى للحوار الوطنى، الأمر الذى يفسر لنا وحدة الفلسفة والرؤية، والتى جعلت من الحوار الوطنى امتدادا طبيعيا للثورة، ومحطة مهمة فى المشروع الإصلاحى فى مصر.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 21 يونيو 2023.