أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

على مدار 8 سنوات من الحرب في اليمن، كان ينظر إلى الأزمة اليمنية باعتبارها واحدة من حالات الصراع الإقليمي، وبالتالى فإن أي عملية تسوية للصراع يتعين أن تكون في سياق الحل الإقليمي. وعندما بدأ مسار التقارب السعودي-الإيراني بوساطة صينية في مارس 2023، بدا أن هناك انفراجة في هذا الملف. وكوسيط إقليمي، ساعدت سلطنة عمان، على التوازي، في بناء تقارب على مستوى ثنائي ما بين السعودية والحوثيين. وفيما تواصل طهران والرياض مسار التقارب خطوة خطوة، حيث بدأ الطرفان في تبادل الزيارات رفيعة المستوى، إضافة إلى قرب استئناف العمل الدبلوماسي، فإن مسار التقارب الثنائي بين الرياض والحوثيين سرعان ما تراجع. وعلى الرغم من الارتباط ما بين المسارين، في ظل الاعتقاد بأن طهران تمتلك القدرة على التأثير في القرار الحوثي، إلا أنه يعتقد أن طهران ستدير الملف وفق هذه النظرية، بل على العكس من ذلك ستعزز من موقف الحركة الحوثية للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب عند الوصول إلى طاولة الحوار.

على الجانب الآخر، هناك استحقاقات أوسع للوصول إلى عملية التسوية اليمنية تتطلب العمل على أكثر من مسار. فالتقارب ما بين طهران والرياض كجزء من تقارب عربي يتجاوز الملف اليمني حتى وإن كان يشكل ملفاً محورياً في تلك العلاقة، فقد شكلت السياسة الإقليمية الإيرانية عامل تهديد للعالم العربي، كما أن التقارب الثنائي السعودي-الحوثي لا يمثل سوى أحد محاور العمل على تسوية الأزمة اليمنية متعددة الملفات والأطراف. ومع ذلك، تنظر الحركة الحوثية إلى أن الأزمة اليمنية تنحصر في صنعاء، وأنها باتت تمثل السلطة والدولة في اليمن انطلاقاً من نظرتها إلى كونها الطرف المنتصر في الحرب وعليه أن يملي شروطه، كما تمتلك أدوات القوة لفرض هذه المعادلة، وبالتالى لا حاجة للوساطة مع الشرعية كطرف في الأزمة، وبالتبعية تتنصل من مرجعيات التسوية.

ويصعب قبول الرياض أو أي قوة إقليمية أو دولية بهذه الصيغة باستثناء طهران، ومع توجه الرياض للانسحاب من الحرب في اليمن التي كلّفتها الكثير من الأعباء، فإن فائض دورها الإقليمي يمكن استثماره في ملفات أخرى، بالإضافة إلى أولويات الشأن الداخلي، لا سيما مشروع التنمية في إطار رؤية 2030، وتعزيز وضعها الدفاعي تجاه المهددات والمخاطر التي شكلتها الحركة الحوثية في الفترة السابقة.

أما على الصعيد اليمني، فعلى الأرجح تواجه الرياض تحديات أخرى منها هشاشة وضع مجلس القيادة الرئاسي في ظل تنامي الخلافات ما بين مكوناته خاصة الانتقالى الجنوبي الذي يسعى إلى فك الارتباط الاقتصادي مع الحكومة عبر وقف تحويل الإيرادات إلى البنك المركزي في عدن، كخطوة تالية بعد مؤتمر  الانتقالى الذي ركز على العمل على استعادة دولة الجنوب ما يهدد مشروع الوحدة الهش بطبيعة الحال، وفي المقابل يعارض "المؤتمر الجامع" في حضرموت هذه الخطوات ويشكل بدوره تحدياً لمشروع الانتقالى الجنوبي، ومن ثم تتحول الأطراف إلى مراكز قوة متباينة لكل منها مشروعه السياسي الخاص.

وفق هذه التطورات، لا يعتقد أن الأزمة اليمنية باتجاه عملية تسوية سياسية بالشكل التقليدي الذي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل انقلاب الحوثيين (سبتمبر 2014)، ولا يعتقد أن أي طرف يمني بمقدوره أن يترجم مشروعه بالقوة، فلا الحركة الحوثية يمكنها بناء دويلة داخل الدولة في مناطق نفوذها، ومواصلة المساعي إلى قضم المزيد من مناطق الشرعية لا سيما المناطق التي تحتوي على موارد الطاقة كمأرب والجوف وشبوه، ولا الانتقالى يمكنه أيضاً العودة إلى تشكيل دولة الجنوب ما قبل الوحدة رغم الخطوات المتوالية في هذا الإتجاه، ورغم تبنيه لقضية الجنوب وهي قضية تم التوافق على أنها قضية مظلمة تاريخية، حيث يتعين معالجة إخفاقات ما بعد الوحدة 1994، لكن لا اتفاق على أن تكون المعالجة بالانفصال، وفي الوقت ذاته لا يوجد طرف يؤيد مشروع الدولة الاتحادية على نحو ما كان يتبنى مشروع الحوار الوطني، بل إن محاولة وضع المشروعات السياسية على أرضية مشروع الأقاليم ستضاعف من أزمة الدولة الهشة.

كاستنتاج أوّلي، لا يعتقد أن اليمن باتجاه عملية تسوية سياسية حتى وإن كان هناك حراك في هذا الاتجاه، بقدر ما يعتقد أن هناك عملية إعادة تشكل، ويمكن أن تكون هناك تسوية في بعض الملفات وتصعيد في ملفات أخرى، لكن من الصعوبة بمكان تصور أن اليمن بصدد عملية تسوية شاملة في الأفق المنظور. 

رؤى مختلفة

لم تظهر انعكاسات التقارب السعودي-الإيراني على الأزمة اليمنية بعد، وهناك هدنة–غير رسمية-في وضع حرج في اليمن. فالسعودية (قائد تحالف دعم استعادة الشرعية) أوقفت التصعيد المسلح على مناطق السيطرة الحوثية منذ أبريل 2022 ضمن عملية إعادة هيكلة شاملة للملف اليمني، واكبها إعادة هيكلة السلطة بتشكيل مجلس القيادة الرئاسي. وفي المقابل، أوقفت الحركة الحوثية التصعيد المتبادل مع السعودية، إلا أن تلك الهدنة لم تشمل الجبهة الداخلية، حيث استمرت الحركة الحوثية في التصعيد على الجبهات المتعددة في اليمن، وربما استفادت من تجميد التحالف لعملياته العسكرية والدعم الذي كان يقدمه لقوات الشرعية في مواصلة تعزيز قدراتها العسكرية، مع التركيز على التوسع في بناء المزيد من القواعد العسكرية على الحدود مع السعودية وخصومها المحليين. وفي المقابل أيضاً، تعمل الرياض على بناء القدرات الدفاعية في إطار ضبط أمن الحدود المشتركة مع اليمن.

وينظر الطرفان (السعودية والحوثيون) لاستحقاقات المرحلة الحالية بشكل مختلف، وهو ما يمكن تناوله في سياق استعراض رؤية ومواقف الطرفين على النحو التالي:

1- المنظور الحوثي للمرحلة المقبلة

تنظر الحركة الحوثية إلى أن المرحلة المقبلة ليست مرحلة إنهاء الصراع الشامل في اليمن، وإنما مرحلة إنهاء التصعيد المسلح مع السعودية. ويمكن تناول هذا المنظور بشكل من التفصيل في سياق النقاط التالية:

أ- الحصول على مقابل استحقاقات الهدنة مقدماً: فالحركة الحوثية وعلى نحو ما سلفت الإشارة لا تزال تتعاطى مع المرحلة الحالية باعتبارها مرحلة إدارة تهدئة أو إدارة هدنة مؤقتة ومرحلية مع السعودية لها استحقاقات معينة ومعلنة كتحويل الرواتب وزيادة الرحلات الخارجية عبر مطار صنعاء ورفع القيود عن ميناء الحديدة، وأن تطوير هذه الخطوة سيكون له مقابل أعلى، حيث سيتعين على الرياض–وفق المنظور الحوثي–الاعتراف الرسمي بشرعية الحركة الحوثية ليس مجرد سلطة أمر واقع في صنعاء، وفي المقابل لذلك تدرك الرياض أن تلك الشروط لا تعني مجرد تلبية استحقاقات (خفض التصعيد) ومقاربة لتطوير الهدنة إلى عملية تسوية بقدر ما تعني شرعنة وضع الحوثيين، وبالتالي فإن الطرفين يدركان جيداً دوافع وأهداف كل خطوة وتداعياتها، وهو ما يفسر عدم التقدم على الجانبين، وكمقابل لذلك عادت أجواء التصعيد الإعلامي ما بين الطرفين، كما تلوح الحركة عبر رسائل متوالية من خلال منصاتها الإعلامية والقيادات السياسية والعسكرية بالعودة للتصعيد العسكري مرة أخرى.

ب- هيمنة ذهنية "المنتصر": ينطوي الخطاب الحوثي على عملية استعراض قوة بشكل عام، بالإضافة إلى التلويح بالعودة للتصعيد المسلح، حيث يشير خطاب الحركة إلى أنه يتعين التعامل مع الرياض وفق سياسة (الند للند)، إذ تطالب السعودية بالجلوس على الجانب الآخر من طاولة مشاورات الحل السياسي، وبالتبعية تتجاهل الحركة وجود السلطة الشرعية بالأساس كطرف في المفاوضات وتسعى إلى إقصائها، كما يتجاهل الحوثيون المرجعيات المعلنة لعملية التسوية السياسية (المبادرة الخليجية- وثيقة الحوار الوطني- القرار الأممي 2216) إضافة إلى تلميح الحركة بأنها ستحدد من هي القوى الوطنية التي يمكنها المشاركة في (مشاورات وطنية) في المستقبل، وبالتالي تتعاطى الحركة مع الوضع الراهن على اعتبار أنها الطرف المنتصر في الحرب، ومن ثم هي الطرف الذي يمكنه فرض شروطه على الآخرين.

ج- مشروع الحركة غير مطروح للتفاوض: تواصل الحركة الحوثية التأكيد على أن مشروعها السياسي بكل أبعاده (الأيديولوجية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. إلخ) هو مشروع غير قابل للتصفية، وتستفيد في المرحلة الحالية في تعزيز قدراتها في كافة هذه المحاور، عبر الاستفادة الاقتصادية، حيث تعزز الجباية وهيمنة نخبتها على الاقتصاد غير الرسمي، ودعم عمليات التعبئة على الجبهة الداخلية، وعلى المستوى الأيديولوجي توسعت الحركة في مشروع المدارس الصيفية ومعسكرات الأشبال، حيث تركز على تربية جيل من النشء موالي لأفكارها ومعتقداتها ومستعد لحمل السلاح دفاعاً عن هذا المشروع، بالإضافة إلى المشروعات الخاصة بالأضرحة والمزارات الدينية وغيرها من المظاهر الطائفية الجديدة.

د- تجاهل القضايا الأمنية ونزع السلاح: تعمل الحركة على تعزيز قدراتها العسكرية في إطار بناء توازنات عسكرية جديدة لتقويض أي مبادرة للحديث عن نزع سلاح أو حتى تناول القضية في أي مفاوضات، بالإضافة إلى الاستمرار في الضغط على الجبهات الداخلية وتعزيز عامل الردع إن جاز التعبير في مقابل السعودية. فعلى سبيل المثال، نشرت الحركة صواريخ باليستية في منطقتي الجوف ومأرب، وذلك في إطار التأكيد على أنها ستواصل استهداف جبهات (مأرب وشبوه) التي فشلت الحركة  على مدار سنوات في اختراقها، مع الأخذ في الاعتبار أن منطقة الجوف هي منطقة محاذية أيضاً للحدود السعودية، كما تصعد الحركة جنوباً ضد قوات الانتقالي على الخط الفاصل بين مناطق انتشار الطرفين، ربما كرسالة للتصعيد ضد مشروع الانتقالي السياسي من جهة وللضغط على قوات الانتقالي لإضعاف جبهة (شبوه)، وعلى التوازي تصعد ضد قوات الساحل الغربي في الساحل وتعز في محاولة لإعاقة مساعي قوات الساحل اختراق حصار تعز من جبهة المخا.

2- الرؤية السعودية لعملية التسوية: على الرغم من منح العملية السياسية في اليمن أولوية، إلا أن الرؤية السعودية لا تقتصر على ملف التسوية وإنما تمتد إلى ترتيب الملف اليمني بشكل عام، ويمكن مناقشة هذا السياق في النقاط التالية:

أ- الخروج من دائرة الصراع في اليمن: من المتصور أن الرياض تريد طي صفحة الصراع المسلح في اليمن، للتفرغ لمشروعها الإقليمي والتنموي، فقد كلّفها الصراع في اليمن الكثير من الأعباء الاقتصادية في الوقت الذي تسعى فيه إلى التركيز على مشروعها للتنمية في إطار رؤية 2030، وبالتالي فإن استمرار الحرب في اليمن أو بقاء اليمن كجبهة صراع خلفية يشكل تحدياً. كما تسعى الرياض إلى تنمية دورها الإقليمي كوسيط للسلام في ملفات الصراعات والأزمات الإقليمية بشكل عام، حيث تدفع مسارات التسوية السياسية في سوريا ولبنان والسودان إلى جانب رفع مستوى الانفتاح على العراق، ولاعتبارات سياسية وجيوسياسية للمصالح السعودية من الأهمية بمكان استقرار اليمن.

ب- لعب دور الوسيط في تسوية الصراع اليمني: بالنظر إلى رصيدها السابق في هذا الصدد، فالسعودية هى القوة التي بدأت عملية سياسية في اليمن في أعقاب ثورة 2011، حيث عملت على نقل السلطة عام 2012 من الرئيس السابق على عبد الله صالح إلى نائبه (الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي) في إطار المبادرة الخليجية، كما ساهمت في دفع مسار الحوار الوطني، وصولاً إلى عملية تشكيل المجلس الرئاسي (أبريل 2022)، كما تستفيد الرياض من التقارب مع إيران في هذا التوجه. ومع ذلك، فإن الرياض لا تزال بحاجة إلى رؤية متكاملة للانتقال من دائرة الصراع إلى دائرة تسوية شاملة للأزمة، حتى لا تسعى إلى حل أزمة في اليمن فتظهر أزمة أخرى، فعلى سبيل المثال، لا يمكن حل أزمة الحوثيين والشرعية فتظهر أزمة الجنوب.

ج- التحرك في إطار الحل الإقليمي: تعارض الرياض الموقف الذي تصدره الحركة الحوثية (نداً لند)، فالمسألة هنا لا تتعلق فقط بمشروعية السلطة التي تسعى الرياض إلى إعادتها إلى صنعاء، ولكن مشروع السلطة الذي تسعى الحركة الحوثية إلى فرضه، في إطار مشروعها السلالي، أو بالأحرى طبعة مطورة من النظام الإمامي الذي تمت الإطاحة به في ستينات القرن الماضي.

على الجانب الآخر، ألمحت تقارير سعودية إلى أن هناك رؤية لدى الرياض تتمثل في خطة انتقال سياسي (خريطة طريق لعامين أو ثلاثة) لتسوية الأزمة، تستند إلى مرجعيات الحل السياسي، ومشاركة كافة القوى الوطنية اليمنية في العملية السياسية، لكن يظل هذا الطرح هو مجرد تصور لآليات وهيكل العملية ولكنه لا يشكل مضمون العملية السياسية شديدة التعقيد في الحالة اليمنية.

دلالات متعددة

تعكس محصلة هذه المواقف عدداً من الدلالات الرئيسية المرحلية التي تؤكد على فرضية التسوية المستحيلة ومنها على سبيل المثال:

1- لا ينسجم الرهان الحوثي مع السياسة السعودية تجاه التعامل مع ملف الأزمة اليمنية بشكل عام، فالتعارض ما بين الطرفين واضح تماماً، وبحكم ما آلت إليه الأوضاع وموازين القوى بعد ثماني سنوات على الصراع لا يمكن اعتبار المحدد الحاكم هو عامل الهزيمة والنصر، فمن الجائز القول بأن الحركة الحوثية حافظت على مناطق السيطرة على قطاع من شمال البلاد، لكن هذا المساحة لا تعني أن معادلة موازين القوى والسيطرة والانتشار تميل لصالحها، فقد فشلت في السيطرة على مصادر الطاقة في مأرب وشبوه، كما أن القوات الحكومية وقوات الانتقالي وقوات الساحل الغربي تستحوذ على مساحة أكبر من المناطق المحررة من الحوثيين وبالتالي تميل معادلة موازين القوى شبه المستقرة لصالحهم ولا يمكن تجاوزها.

2- يصعب فرض المنطق الحوثي (الند للند) في إطار العلاقة ما بين الحركة الحوثية والسعودية على نحو ما ترغب الأولى، إذ أنها تعد الوكيل الإيراني في اليمن ضمن شبكة الوكلاء الإقليميين لصالح إيران، وبما أن هناك عملية تسوية إقليمية ما بين السعودية وإيران، فالمنطقي أن دور الحركة الحوثية في اليمن ينحصر في كونها أحد الأطراف السياسية وليس الطرف المهيمن الذي يجب أن يُخضِع الآخرين لشروطه، بينما معادلة "الند للند" يمكن أن تكون مقبولة في إطار هذه العلاقة وليس في إطار علاقة مع فصيل أو وكيل.

3- تعيد الرياض ترتيب المشهد اليمني من الداخل، وفي هذا السياق تشير العديد من التقارير إلى أن الشرعية ربما لا تتفق كلية مع تحركات الرياض الأخيرة، وعلى الجانب الآخر تبدي الرياض تحفظات تجاه تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي، وتعزيز وضع المؤتمر الجامع في حضرموت، وهو الوضع الذي ينطوي على تحدٍ بالنسبة لخطة الرياض تجاه اليمن بشكل عام، من حيث إدارة التوازنات بين القوى اليمنية التي لم تنسجم بالقدر الكافي في إطار تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، ومن المتصور أن الحركة الحوثية تستفيد من هذا الوضع، كما تستفيد من استمرار عدم تشبيك القوى المسلحة تحت مظلة القوات المسلحة الوطنية.

4- من غير الواضح ما هو مصير تحالف دعم الشرعية، فهل تعني مبادرة الرياض إلى التهدئة والتفاوض مع الحركة الحوثية أن التحالف انتهى، أم أنه لا يزال قائماً، وفي حال عودة الحركة الحوثية للتصعيد مرة أخرى ضد الرياض، فهل ستشارك دول التحالف في التصدي لذلك أم لا؟. كذلك من الواضح أن التحالف كان يتولى العمليات العسكرية، في حين أن مجلس التعاون الخليجي ومنذ بدء الأزمة اليمنية كان يتولى عملية التسوية والتي أنتجت المبادرة الخليجية 2012، ثم مبادرة تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، إلا أن مخرجات هذه العملية جزئية طالما أن إيران التي تشكل الفاعل الإقليمي المؤثر خارج المشهد، وفي ظل التقارب الإيراني–السعودي قد يكون من الممكن العودة إلى مسار جنيف بمشاركة طهران لتسوية الملف بحيث تشكل الوسيط الإقليمي إلى جانب كل من مسقط والرياض في دفع تلك المفاوضات إلى الأمام، والاتفاق على خريطة طريق. ولا يمكن أن تتحجج إيران بأن القرار يمني أو حوثي في هذا السياق.

5- لا توجد أوراق ضغط قوية على الحركة الحوثية لتقديم تنازلات تجاه عملية التسوية، فإيران لا تسعى إلى الضغط على الحركة لتقديم تنازلات، بل على العكس ستغير إيران فقط من تكتيكاتها في مقاربة موقفها من الأزمة اليمنية، وما لم تكسبه الحركة الحوثية بالحرب ستسعى إلى الحصول عليه عبر طاولة التفاوض، بعباره أخرى لن تساهم إيران في تصفية المشروع الحوثي بل على العكس ستعمل على تمكينه بأدوات مختلفة.

6- يصعب إطلاق عملية تسوية سياسية بدون إدراج كافة الملفات ذات الصلة والمتعلقة بشكل الدولة بما يتضمنه ذلك من جملة من القضايا التي تتشابك مع المشروع الحوثي، مثل النظام السياسي وملف السلاح، والقضايا الأخرى الخاصة بالجنوب، ومن المتصور أن المرجعيات الثلاثة بحاجة إلى إعادة النظر فيها بحكم المتغيرات التي طالت المشهد اليمني والتحولات التي أفرزتها سنوات الأزمة، فضلاً عن أنه لا يمكن تجاهل وضع الحركة الحوثية السياسي والعسكري، أخذاً في الاعتبار أنها لا تشكل سوى أحد أطراف المعادلة.

7- لا تزال جبهة الشرعية ضعيفة، على الرغم من التحسينات الهيكلية التي جرت في إطار مؤتمر مجلس التعاون الخليجي، كما أن ملف إدماج كافة القوى السياسية والعسكرية تحت مظلة الشرعية لم ينضج بعد ومن دون اصطفاف هذه القوة فإن ميزان الشرعية سيظل مختلاً وستستفيد الحركة الحوثية من هذه الثغرات، كما لا يمكن إطلاق عملية تسوية سياسية من دون إجماع وطني، وتظل هناك فرصة للشرعية لتعزيز وضع المناطق المحررة التي تضررت خلال فترة الأزمة، بحيث يمكن أن تشكل النموذج الجاذب لشكل الدولة والنظام السياسي والتنمية والتطور، في مقابل مشروع الحوثي الذي يهدف إلى إعادة اليمن إلى الخلف لأكثر من نصف قرن. مع الأخذ في الاعتبار أن هناك معركة هوية تديرها الشرعية خارج سياق البيانات الرسمية وردود الفعل، في حين أن الحركة الحوثية في موقع ضعيف في هذه المعادلة، بغض النظر عن مظاهر التعبئة الطائفية، فالمليشيا لا تمتلك مرجعية دينية، ولا تزال تراهن على الحاضنة الزيدية التي لم تستوعب بدورها المشروع الحوثي لكن الحاضنة الزيدية لا تجد سنداً قوياً في مواجهة التغول الحوثي.

8- لا تزال الشرعية رهينة مشروع الجمهورية الأولى، على الرغم من أن نظام الجمهورية على مدار أربعة عقود لم يقدم دولة عصرية حديثة وظلت ولاءات ما دون الدولة هي المتحكم الفعلي في مفاصل الدولة بغض النظر عن أشكالها. وفي حين لم تعد تلك الأدوات متاحة بالأساس بحكم إضعاف الصراع والأزمة لها، إلا أنه لا يزال من غير الواضح ما هي الأدوات السياسية البديلة التي يمكنها هزيمة المشروع الحوثي، خاصة وأنها لم تترجم في المناطق المحررة، التي تحولت إلى مراكز قوى في عدن وحضرموت، ودخلت في سياق تنافس فرعي حول مشروع دولة الجنوب والدولة المركزية.

استنتاجات رئيسية

من المتصور أن أطراف الصراع في اليمن وصلت إلى مرحلة الإنهاك، فلا يعتقد أن السعودية ترغب في الاستمرار في حرب تستنزف قدراتها ومواردها بلا طائل، كما أن موقف الحوثيين من عملية وقف التصعيد مع الرياض وهدوء جبهات السيطرة الخاصة بها وفتح الأجواء قد ينطوي على مكاسب متعددة، وربما يمكن القول إن هذا الجيل القيادى في الحركة استشعر خلال فترة الهدنة معنى هذه المكاسب، حيث يتم تحويل أمراء الحرب إلى النخبة الرأسمالية الجديدة في صنعاء. ولا يمكن للحوثيين فرض معادلة سلام مع الخارج ومواصلة الصراع في الداخل، وبالتالى فإن خيارات الحركة مقيدة ما بين السلام والحرب، ومع ذلك فإن غياب عملية سياسية في الأفق يعني استمرار الفوضى في اليمن، وهي فوضى لا تقتصر تداعياتها على أطراف الصراع وإنما تمتد خارج بيئة الصراع ذاتها.

وبعد 8 سنوات على الحرب، بات من المستحيل التعويل على الحسم العسكري، فالرياض تسعى إلى مغادرة دائرة الصراع، لكن من الأهمية بمكان النظر إلى تكلفة ذلك، فإنهاء وجود التحالف العربي من دون عملية سياسية متماسكة سيؤدي إلى انكشاف الشرعية أمام الحركة الحوثية، خاصة وأن الشرعية لا تزال "حالة فصائلية" بما يعني أن الشرعية نفسها تعاني صراع تعدد المشروعات السياسية رغم تشكيل مظلة مجلس القيادة الرئاسي، ويؤخذ في الاعتبار أن السعودية حالت دون تمدد الحوثيين خارج دائرة جغرافيا الانقلاب السياسي في صنعاء، كما أن الإمارات أفشلت التمدد جنوباً، فضلاً عن تأمين عملية عدم الانكشاف الاقتصادي للشرعية، ومع ذلك هناك حالة من الزبائنية لدى بعض فصائل الشرعية التي تسعى إلى تمويل مشروعاتها الخاصة في إطار دائرة الاستقطاب الإقليمي الضيقة.

كذلك يعتقد أن إطلاق مسار تسوية سياسية من دون تفاهمات أو ترتيبات أمنية سيشكل معادلة تهدد أي عملية سلام أو تسوية ممكنة في المستقبل، خاصة وأن الحركة الحوثية تعيد بناء قدراتها العسكرية، وتضاعف من عامل الردع، مستفيدة من تجميد التحالف لعملياته العسكرية، وتتعامل كما لو كانت في مرحلة استراحة محارب، وبالتالي فإن أي مسار سياسي يتطلب أن يتوازى مع مسار عسكري، بالإضافة إلى المسار الاقتصادي والمسار الإنساني لمعالجة التدهور المستمر في المشهد اليمني.

وإلى جانب ما سبق، يمكن النظر إلى أن معادلة القوى الدولية في الأزمة اليمنية هى معادلة صعبة ومعقدة، فالأطراف المنخرطة دولياً ليست محل توافق بين أطراف العملية السياسية، ففي كل الخطابات الحوثية الرسمية يتم تحميل الولايات المتحدة مسئولية فشل عملية السلام أو التسوية السياسية على الرغم من أنه لا توجد عملية سياسية بالأساس، كما أن تقاطع الدورين الأمريكي والصيني في الإقليم سيقود إلى حالة الاستقطاب التي ستقود بدورها إلى استدارة في الصراع وليس تسويته، ومن ثم يحتاج اليمن إلى عملية سياسية مدعومة دولياً.

ومع ذلك، لا يمكن التقليل من دور الولايات المتحدة بالتعاون مع القوى العربية المعنية بأمن الخليج والبحر الأحمر في تقويض تدفق الأسلحة الإيرانية إلى اليمن، ولا يعتقد أن الحركة الحوثية بمقدورها إنتاج الأسلحة أو تطويرها على نحو ما تصدره إعلامياً، وبدون دعم إيراني ستتعرض الحركة الحوثية لانكشاف عسكري في المستقبل.

وفي الأخير، لا يعتقد أن عملية تسوية الأزمة اليمنية ممكنة في ظل غموض طبيعة المرحلة الراهنة، ما بين إدارة الهدنة وتعثر تطويرها إلى عملية تسوية سياسية في المستقبل، وتقاطع مشروعات كافة الأطراف المعنية (المحلية والإقليمية) مع عملية التسوية. وفي المقابل، يمكن القول إن إهدار فرصة تطوير التهدئة الحالية إلى عملية سياسية سيشكل صعوبة في اقتناص فرصة مماثلة في المستقبل، ومع ذلك لا يعتقد أن السيناريو التالي في اليمن هو سيناريو التسوية السياسية، فالأقرب إلى الواقع هو الاستمرار في عملية إعادة تشكيل خريطة اليمن كساحة لتوازنات القوى وجماعات المصالح والمشروعات الجهوية التي تستند لاعتبارات يشكلها مزيج من العصبيات التي تفرضها الانتماءات الأوّلية ما قبل الدولة، وبالتالي تكمن معضلة اليمن ليس فقط في إنهاء دورة الصراع والانتقال لدورة التسوية، وإنما أيضاً في غياب معيار الدولة الوطنية التي يتصارع الجميع بإسمها.