صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أولت الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، أهمية كبيرة للتعليم بحسبانه ركيزة التنمية الشاملة فى أبعادها المختلفة، على أساس أن تنمية العنصر البشرى وإعداده بصورة تجعله قادرا على أن يكون جزءا فاعلا فى مسيرة التنمية، يعد هو الطريق الأمثل لنهضة شاملة تؤسس على دور كبير تلعبه أجيال متعددة حصلت على خدمة تعليمية متطورة تواكب متغيرات البيئة وسوق العمل، بما يؤدى فى النهاية إلى إعداد عنصر بشرى قادر على الاستجابة لمتطلبات عملية التنمية المستدامة.

انطلاقًا من هذا التصور، اتجهت الدولة إلى تطوير العديد من خطط النهوض بالتعليم فى مراحله المختلفة، مع إعطاء أولوية لمرحلة التعليم قبل الجامعى؛ كونها المرحلة التأسيسية التى من خلالها يكتسب الطالب قواعد القراءة والكتابة وتنمية المهارات وتطوير الفكر، وهى مرحلة تعد من أهم مراحل التعليم فى حياة الإنسان. وفى إطارخطط الدولة -على مدار السنوات الماضية- بشأن تطوير منظومة التعليم، يمكن القول إن ثمة جهودًا حثيثة تبذلها الحكومة فى مجال تطوير منظومة الخدمات التعليمية تشير إليها العديد من إحصاءات الأجهزة الرسمية المنوط بها رقابة عمل الوزارات المعنية بالخدمة التعليمية، وكذلك تقارير التنمية البشرية الصادرة عن المنظمات الدولية. لكنها فى الوقت نفسه تؤكد على وجود العديد من التحديات ومواطن القصور والخلل التى تحول دون تقديم خدمة تعليمية «طموح»، خاصة فى مرحلة التعليم قبل الجامعى؛ من أبرزها رفع كفاءة المدارس، وزيادة أعدادها لتستوعب الزيادة السريعة والمفرطة فى أعداد المواليد الذين يصبحون جزءا من العملية التعليمية بدءا من سن الخامسة أو أقل.

وتفرض الزيادة فى أعداد المواليد بالضرورة زيادة الطلب على الخدمة التعليمية، فى وقت تعجز فيه قدرة الفصول والمدارس على استيعاب هذه الزيادات المتوالية فى أعداد الطلاب فى مرحلة التعليم قبل الجامعى، بما يفاقم من إشكالية التسرب من التعليم فى مرحلة التعليم الابتدائى والإعدادى على حد سواء. يؤثر هذا أيضًا فى قدرة الحكومة على التوسع فى مستوى انتشار المدارس فى كافة أنحاء الجمهورية بمحافظاتها وأقاليمها الجغرافية المختلفة، لاسيما مع وجود تباين كمى ونوعى بين المدن الحضرية من جهة، والريف والقرى والنجوع من جهة أخرى فيما يتعلق بوجود المدارس وانتشارها وأعددها ونوعيتها ومدى كفاءتها الخدمية.

علاوة على ذلك، فإن فقدان مؤسسات التعليم الرسمية الثقة لدى شريحة كبيرة من المجتمع، أدى إلى ظهور مسارات موازية للنظام التعليمى، كان أبرزها الانتشار السريع والهائل لآلية الدروس الخصوصية كبديل بات يلعب دورًا موازيا لدور المدرسة. يرتبط بهذه النقطة بالتبعية التغير المحورى الذى حدث فى دور المعلم كأساس للعملية التعليمية، وقد تحول هذا الدور من «مؤسس» للخبرة التعليمية لدى أجيال من الطلاب، لاسيما فى مرحلة التعليم قبل الجامعى، إلى «موظف» يبحث عن كيفية مراكمة العائد المادى الناتج عن تقديمه لهذه الخدمة التعليمية، ومن ثم تراجعت أهمية دوره كرائد للعملية التعليمية، فضلا عن غياب البرامج الكفيلة بزيادة مهاراته التعليمية بصورة تتواكب مع متغيرات العصر. نتج عن ذلك أيضًا تقلص دور المدرسة وتراجعه، بحسبانها وسيلة للتعليم، فضلًا عن تراجع دورها كأحد أهم أدوات التنشئة الاجتماعية للطلاب فى مرحلة التعليم قبل الجامعى.

بالإضافة إلى ما سبق، يوجد قصور فى وجود مدارس قادرة على استيعاب التطور السريع الحادث فى مستوى التكنولوجيا والتقنيات الحديثة ودمجها كأدوات فى العملية التعليمية، وهو ما يتطلب تطوير المناهج وابتداع نظم تعليمية جديدة تعتمد على تطوير مهارات الفكر والابتكار وإتاحة المجال أمام منظومات التحول الرقمى كوسيلة من وسائل نشر الخدمة التعليمية؛ من منطلق أن التحول الرقمى خلق للمجتمع المنصات الإلكترونية المتعددة النوعيات عبر شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»، ومنها بالطبع المنصات التعليمية التى تعكس مدى قدرة أى مجتمع على استيعاب التطور التقنى وتطويعه ليخدم مجالات التنمية البشرية المختلفة، وذلك عبر تقديم برامج تعليم متطورة بعيدة عن آليات التعليم التقليدية التى كان التلقين أساسا لها، حيث أسهمت منصات التعليم عبر الإنترنت، خاصة فى مرحلة التعليم قبل الجامعى -منصة الحصص الإلكترونية- فى تسريع عملية تحول الخدمات التعليمية إلى خدمات التعليم الإلكترونية المدمجة سريعة الانتشار، بما يجعلها قادرة على الوصول لأعداد كبيرة وهائلة من الطلاب، الأمر الذى ساعد فى فك الارتباط المتعلق بضرورة تقديم الخدمة التعليمية عبر المعلم داخل المدرسة.

جدير بالذكر هنا، أن جائحة كوفيد-19 أسهمت فعليا فى تفعيل هذه الخدمة وزيادة دورها فى مجال تقديم الخدمة التعليمية، على خلفية إجراءات الإغلاق العام التى صاحبت الجائحة فى الفترة من عام 2019 إلى 2021. يفترض هذا التطور الاستمرار فى مسار تفعيل برامج إصلاح المناهج التعليمية وفقا لرؤية 2030 للتنمية المستدامة. فقد أكدت «اليونيسيف» أن استثمارات مصر طويلة الأجل فى التعلم الرقمى أسهمت فى التخفيف من وطأة تداعيات الجائحة على العملية التعليمية بها، لأنها أدت إلى تيسير إجراءات التحول إلى التعلم عن بعد.

يرتبط بالتحديات السابقة تحدٍ آخر غاية فى الأهمية يتعلق بمدى قدرة شريحة كبيرة من المجتمع -خاصة الفئات الفقيرة- الاستفادة الفعلية من مجانية التعليم؛ ويبدو هذا التصور لافتًا ومهمًا بالرجوع إلى نتائج عدد من الدراسات الصادرة عن منظمات معنية بالتعليم على مدار الفترة من 2015 إلى 2020، التى تشير إلى تراجع قدرة الفئات الأكثر فقرا على الاستفادة من خدمة مجانية التعليم التى باتت تكلفتها بالنسبة لهم ليست مجانية، بل ذهبت هذه الدراسات إلى نتيجة تقول إن نحو 80% من الأسر القادرة ماليا هم المستفيدون فعليا من مجانية التعليم.

على الرغم من التحديات السابقة، إلا أن التقارير الصادرة عن المركز الإعلامى لمجلس الوزراء خلال عام 2021، وكذلك التقارير الدولية الخاصة بالتنمية البشرية أشارت إلى تحسن المؤشرات الدولية لقطاع التعليم قبل الجامعى تحديدا خلال العامين 2020 و2021، ويقصد بها مؤشرات: المعرفة العالمى، وجودة التعليم، والتعليم التقنى والتدريب المهنى، إضافة إلى نجاح الدولة فى زيادة الإنفاق على القطاع نفسه خلال العامين المذكورين مقارنة بعامى 2018 و2019. إلى جانب التوسع فى زيادة عدد المدارس، وتطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات الخاص بوزارة التربية والتعليم، وتفعيل برامج دعم الموهوبين والتعلم الذكى.

فى سياق أهمية تطوير قطاع التعليم قبل الجامعى بالكيفية السابق رصدها، قدمت الأستاذة/سنية الفقى، الباحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية دراسة رصينة بعنوان «التعليم قبل الجامعى فى مصر.. تقييم السياسات- الإشكاليات- التوصيات»، طرحت فيها تقييما شاملا للتعليم قبل الجامعى على مدار السنوات العشر الماضية، حيث رصدت الإشكاليات والتحديات التى تواجه هذا القطاع، كما أجرت تقييما لسياسات الحكومة وآلياتها بشأنه، ومدى نجاح تلك السياسات فى النهوض به ومعالجة التحديات التى تواجهه، وذلك فى إطار ما يمكن الارتقاء به بشأن جودة مخرجات العملية التعليمية، وفى ضوء ما تفرضه رؤية الدولة للتنمية المستدامة 2030. كما خلصت الدراسة إلى رصد عدة توصيات يمكن من خلالها طرح برنامج لتطوير منظومة التعليم قبل الجامعى فى المستقبل.