شهد الأسبوع الأخير من شهر مايو المنصرم (2023) زيارة مهمة للسياسى العراقى السيد/ عمار الحكيم، رئيس «تيار الحكمة الوطنى» فى العراق الذى تأسس فى يوليو 2017. التقى الحكيم خلال زيارته تلك الرئيس عبدالفتاح السيسى، كما زار عددا من المؤسسات، منها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأجرى حوارات عدة مع مثقفين مصريين. الزيارة تحمل دلالات شديدة الأهمية بالنسبة للعراق وبالنسبة لما يجرى فى الإقليم، وبالنسبة لموقع مصر داخل هذا الإقليم.
أولى تلك المعانى والدلالات هو تبلور تيار/ تيارات سياسية وطنية داخل العراق، تتجاوز الانقسامات الدينية والمذهبية والعرقية. السيد عمار الحكيم وتياره السياسى المتمثل فى «تيار الحكمة الوطنى» يمثل أساسا قويا لهذا التيار الوطنى العراقى، وهو ما أكده الحكيم فى حواراته، وتشير إليه أيضا الكثير من الشواهد العراقية، ومنطلقات تيار الحكمة نفسه. لقد عانى العراق خلال العقدين الأخيرين تبعات الانقسام الشديد داخل النخبة/ النخب العراقية، على أسس دينية ومذهبية وعرقية. إن تبلور هذا التيار الوطنى العراقى لن تقف تداعياته عند الداخل العراقى، بل سيكون له انعكاساته على الإقليم ككل، سواء فيما يتعلق بنمط التفاعلات العراقية- العربية، أو نمط التفاعلات العربية مع دول الجوار. هذا التيار الوطنى العراقى سيسهم بلا شك فى بناء عراق مستقر من خلال تفكيك كل أشكال الطائفية؛ الدينية أو المذهبية أو العرقية. كما سيسهم فى بناء عراق أقوى فى مواجهة كل أشكال التدخل الخارجى. أضف إلى ذلك أن تبلور مثل هذا التيار/ التيارات الوطنية العابرة للدين والمذهب والعرق، سوف تسهم فى التحليل الأخير فى بناء نموذج جديد للدولة العربية ذات المجتمعات المتعددة، وهى أحد الإخفاقات التى عانت منها الدولة العربية الحديثة. لقد قدم العراق بعد عام 2003 مثالا معبرا عن هذا الإخفاق، دفعت من خلاله الدولة العراقية والشعب العراقى أثمانا باهظة خلال العقدين الماضيين، ومن ثم عندما تنجح التيارات والنخب السياسية الوطنية العراقية فى بناء دولة ديمقراطية تستوعب هذا المجتمع المتعدد، فإنها ستكون قد قدمت نموذجا عربيا مهما فى هذا المجال، بل وإضافة مهمة للأدبيات السياسية العربية. لقد قدم السيد عمار الحكيم خطابا ومفردات مُبشرة فى هذا الاتجاه، وهو خطاب زاد من مصداقيته استناده إلى خبرة سياسية مهمة.
ثانية تلك الدلالات تنصرف إلى مناهج بناء الديمقراطية، فقد مثل العراق مثالا صارخا على أن بناء الديمقراطية لا يمكن أن يتم عبر مشروع خارجى، ولا يمكن فرضها من الخارج، فغاية ما يمكن أن يقوم به الخارج هو إزاحة أنظمة قائمة بالقوة العسكرية كما حدث فى أفغانستان والعراق وليبيا، لكن تظل هناك حدودا لإعادة هندسة الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، إذ تظل هذه مسئولية أصيلة للنخب والتيارات السياسية الوطنية. ويتأكد هذا الدرس المهم فى حالة المجتمعات المتعددة، كما هو الشأن بالنسبة للعراق. حوارات السيد عمار الحكيم قدمت شروحات وخلاصات مهمة فى هذا الشأن، جوهرها أن المراهنة الحقيقية على بناء الدولة الديمقراطية العراقية تقع كاملة على التيارات السياسية العراقية. لقد تعرضت محاولات فهم علاقة النخب العراقية بالخارج خلال العقدين الماضيين لدرجة كبيرة من الاختزال والتشويه، بعيدا عن فهمها فى إطار السياقات المحلية والإقليمية والدولية التى هيمنت على الإقليم خلال هذين العقدين. إن تواصل الحكيم وانفتاحه على النخب العربية يسهم بالتأكيد فى تصحيح هذه الاختزالات المُخِلة.
ثالثة تلك الدلالات تتعلق بانفتاح هذا التيار الوطنى العراقى على المحيط العربى للعراق. هذا الانفتاح له معان كبيرة، فهو، من ناحية، يشير إلى توسيع نطاق التفاعلات الخارجية للتيارات السياسية العراقية، وأنها لم تعد أسيرة الاستقطابات التى عانت منها المنطقة. لكن هذا التوجه يكتسب دلالة إضافية عندما يكون هذا الانفتاح على الدولة المصرية، وعلى المؤسسات والمفكرين المصريين، وذلك انطلاقا من اعتبارات تتعلق، أولا، بخبرة الدولة المصرية باعتبارها الدولة الوطنية الأقدم والأكثر رسوخا فى الإقليم وفى العالم، وتتعلق، ثانيا، بالخطاب المصرى الرصين حول أهمية ومركزية مفهوم الدولة الوطنية كأساس للاستقرار الداخلى والإقليمى، وهو الخطاب الذى تبناه ودافع عنه بقوة الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ عام 2014 وحتى الآن. إن حرص السيد عمار الحكيم على الانفتاح على مصر فى هذا التوقيت هو تعبير، أولا، عن استعداد كبير للتيار الوطنى العراقى للانفتاح على المحيط الإقليمى، لكنه تعبير أيضا عن توافق ذهنية هذا التيار مع مفهوم وخطاب الدولة الوطنية فى المنطقة. المساحة والإشارات المهمة التى أعطاها السيد عمار الحكيم لمصر فى لقاءاته بالقاهرة أكدت هذه الذهنية العراقية الجديدة.
مازال التيار السياسى الوطنى فى العراق يواجه تحديات عدة، بعضها يرتبط بواقع داخلى معقد، ويرتبط بعضها الآخر بواقع إقليمى، لكن يظل العراق على الطريق الصحيح، وتظل هناك مسئولية كبيرة على النخب العربية لدعم هذه التحولات المهمة داخل العراق.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 7 يونيو 2023.