خلال الأعوام الماضية، انتشرت بشكل متكرر شائعات بشأن استقالة الأدميرال على شمخاني من منصبه كأمين لمجلس الأمن القومي الإيراني، وفي كل مرة يتم نفي الخبر عقب انتشاره بساعات، كان آخرها في نوفمبر الماضي، عقب موجة الاحتجاجات التي شهدتها إيران مؤخراً. إلى أن تم تأكيد خبر الاستقالة هذه المرة، في 22 مايو الجاري (2023) دون إبداء للأسباب الدافعة إليه، ودون إصدار بيان من جانب شمخاني يعلن فيه استقالته، حيث اكتفى بكتابة بيت شعر للشاعر القديم محتشم كاشاني في تغريدة له على موقع "تويتر"، عبر من خلاله عن اللغط الذي سبق الاستقالة، الأمر الذي فتح المجال أمام تساؤلات عدة، حول ما إذا كان شمخاني قد استقال طواعية أم دفع إلى الاستقالة، وكذلك بشأن دلالات توقيت الإعلان عن الاستقالة، وإلى أي مدى تشير إلى وجود خلافات داخل أجنحة النظام الإيراني حول شخصه دفعته في النهاية إلى تقديم استقالته، على الرغم من النجاحات التي حققها الرجل في المهمة التي نسبت إليه لإنهاء حالة تعثر حلحلة ملف العلاقات الإيرانية - السعودية الذي كانت تقوده وزارة الخارجية الإيرانية، قبل تكليف شمخاني به. فيما يشير التعيين السريع للجنرال على أكبر أحمديان خلفاً له في منصب أمين مجلس الأمن القومي، ثم إصدار المرشد الأعلى قراراً بتعيين شمخاني مستشاراً سياسياً له، وتنصيبه عضواً في مجمع تشخيص مصلحة النظام، إلى أن القرار كان مرتباً له، وليس مفاجئاً.
لماذا الآن
لاستقالة على شمخاني في هذا التوقيت عدد من الدلالات التي تشير في مجملها إلى أن ثمة اتفاقاً على الإطاحة بالرجل، الذي وصف بعرّاب العلاقات الإيرانية - العربية، ومهندس العلاقات الإيرانية - السعودية، نظراً لدوره البارز في عقد وتوقيع اتفاق عودة العلاقات بين طهران والرياض بوساطة صينية، ذلك الاتفاق الذي أعقبه بجولة مكوكية للمنطقة شملت زيارة الإمارات مرتين، ثم زيارة العراق، وقع خلالها اتفاقيات مهمة مع مسئولي البلدين. فضلاً عن دوره السابق في توقيع أول اتفاقية أمنية مع المملكة العربية السعودية عام 2000، والتي أعقبت عقدين من توتر العلاقات بين البلدين، حينما كان يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وحصل حينها على أرفع وسام سعودي المعروف بوسام الشرف للملك عبد العزيز، وهي الاتفاقية التي تضمن نص اتفاق عودة العلاقات بين البلدين إشارة إلى تفعيلها، وإدخالها حيز النفاذ. ويمكن الإشارة إلى دلالات توقيت الاستقالة فيما يلي:
1- محاولات الأصوليين السيطرة على باقي مراكز صنع القرار: على الرغم من وجهة النظر التي ترى أن استقالة شمخاني من منصبه تأتي بعد عشر سنوات من شغله لمنصبه، وأن بعد هذه المدة عادة ما يتم تغيير أمين المجلس الأعلى للأمن القومي بشكل طبيعي، فإن الانتقادات الحادة التي تعرض لها شمخاني قبل عدة أشهر عقب قضية على رضا أكبري، أحد المقربين منه والذي أدين بالتجسس لصالح بريطانيا، ونفذت السلطات القضائية الإيرانية حكم الإعدام فيه، تشير إلى عكس ذلك، وإلى أن قضية أكبري كانت بمثابة نواة لبناء الجناح المتشدد من التيار الأصولي، للدفع باتجاه الإطاحة بشمخاني في إطار سعى هذا الجناح بقيادة جبهة الصمود للسيطرة على مفاصل الحكم، عقب نجاحه في السيطرة على البرلمان ومؤسسة الرئاسة، وأغلب الوزارات.
فمنذ تولي الرئيس إبراهيم رئيسي منصب الرئاسة سعت جبهة الصمود إلى تغيير أمناء المجالس المهمة والحساسة في دائرة صنع القرار السياسي، المتمثلة في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، والمجلس الأعلى للفضاء السيبراني الإيراني، والمجلس الأعلى للأمن القومي، وفي هذا السياق، مثلت قضية أكبري فرصة لانتقاد وإقصاء شمخاني، من منصبه بعد اتهامه بعدم القدرة على اختيار معاونيه، بل بالغ البعض في اتهامه بالخيانة على الرغم من أن على شمخاني هو من استدرج أكبري للعودة إلى إيران قبل القبض عليه، حسب تصريحات السياسي الإصلاحي محمد على أبطحي الذي شغل منصب نائب الرئيس محمد خاتمي. كما واجه شمخاني تهماً أخرى بعد قضية أكبري، منها تهم بالفساد، والتربح من خلال عمليات تجارية للإفلات من العقوبات، والسماح لأقاربه بالتربح واستغلال السلطة، لاسيما مع امتلاك أبنائه لعشرات الناقلات النفطية ضمن شركة شحن كبرى، قيل أنها استخدمت لتهريب النفط الإيراني، مما يعني أنهم سعوا للتربح من العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد. وربما ما أجل هذا الإقصاء، هو دور شمخاني المهم في ملف المباحثات مع المملكة العربية السعودية.
وبالرغم من إسهام ملف العلاقات مع المملكة في تأجيل إقالة شمخاني أو دفعه للاستقالة، فإنه في الوقت ذاته قد تسبب في زيادة إصرار صقور التيار الأصولي على الضغط لإبعاد شمخاني، خشية أن يحسب التقارب الإيراني - العربي لصالح التيار الإصلاحي، وبالتالى تم تعيين شخصية قريبة من التيار المتشدد خلفاً لشمخاني.
2- موقف شمخاني من سياسات النظام داخلياً وخارجياً: يعد الأدميرال على شمخاني أبرز المعتدلين الباقين في مراكز حساسة في النظام الإيراني، وآخر المعينين في المجالس العليا بالبلاد من قبل الرئيس السابق حسن روحاني، ونظراً لاختلاف توجهات شمخاني كسياسي معتدل عن توجهات الأصوليين، فقد وجه شمخاني عدة انتقادات لسياسات النظام فيما يخص ملفات السياسات الخارجية، والداخلية، تلقى بشأنها اتهامات من قبل المتشددين بالعمل لصالح الإصلاحيين. فخلال كلمة له في ختام الملتقى الدولي الذي استضافته جامعة الدفاع الوطني العليا بالعاصمة طهران مطلع الشهر الجاري، تحت عنوان "هندسة النظام العالمي الجديد" دعا شمخاني القيادة الإيرانية بشكل غير مباشر إلى استيعاب التطورات الحاصلة على المسرح الدولي، محذراً في الوقت نفسه من أن "الافتقار للجاهزية والقوة سيجعل البلاد عرضة لصعوبات لا تريدها"، مشيراً إلى أن "الظروف الدولية الجديدة خلقت تغييرات وتحولات ضخمة ستستمر"، ومؤكداً أن "إيران والمنطقة معرضتان لهذه التغييرات"، ولذلك "علينا إحداث التغييرات المناسبة إزائها".
فعلى سبيل المثال، لشمخاني رأي مخالف لما يمكن وصفه باتجاه النظام الإيراني شرقاً، واعتماده في المرحلة الحالية على توطيد العلاقات مع روسيا على حساب الصين، حيث يرى شمخاني ضرورة الموازنة بين العلاقات مع كل من موسكو وبكين، كما يرى ضرورة أن يكون هناك تطوير أكبر من العلاقات مع الجانب الصيني، الأمر الذي كان ولا يزال لا يروق إلى مؤسسة الحرس الثوري الإيراني، التي تتشابك مصالحها في الوقت الحإلى بشكل كبير مع روسيا.
وخلال احتدام أزمة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد بداية من سبتمبر الماضي 2022، بدا موقف شمخاني أكثر مرونة تجاه المتظاهرين ومطالبهم، كما اجتمع بأكثر من شخصية سياسية إصلاحية خلال موجة الاحتجاجات الأولى، وانتقد التعامل القمعي مع المتظاهرين، وفي المقابل اتهم شمخاني بفشله في قمع التحركات الاحتجاجية بالشكل المطلوب، وفي هذا السياق طالب النائب المتشدد السابق في البرلمان حميد رسائي بإقالة شمخاني لعدم قدرته على قمع التحركات الاحتجاجية محملاً إياه مسئولية عدم اتخاذ قرارات فعالة نظراً لتوجهاته الإصلاحية، مؤكداً أن إقالته ستتيح الفرصة أمام الأجهزة التنفيذية للسيطرة على الاحتجاجات بشكل أفضل.
3- الاستمرار في سياسة كبح شعبية السياسيين البارزين: ثمة ملاحظة أساسية لا يمكن التغاضي عنها في تعامل النظام الإيراني وعلى رأسه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية مع الشخصيات السياسية الإصلاحية والمحافظة على حد سواء، إذا ما حققت إنجازات من شأنها زيادة شعبيتها، وتصاعد نفوذها في الداخل، وفي هذا السياق، تشير بعض التحليلات إلى أن المرشد الأعلى قد عمد إلى الحد من نجاح شمخاني، لاسيما بعد الرصيد الذي اكتسبه على الساحة الخارجية، والداخلية مع الحديث المتزايد عن أن المملكة العربية السعودية هي التي اقترحت اسم شمخاني لمواصلة مفاوضات عودة العلاقات بين البلدين. وهو ما تم أيضاً مع الرئيس الأسبق أحمدي نجاد المقرب من المرشد الأعلى، بإبعاده عن الساحة السياسية، وكذلك مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي، لاسيما وأن أي صعود لشمخاني سيحسب لجبهة الاعتدال والإصلاحيين، في وقت يسعى فيه التيار الأصولي لإقصاء الإصلاحيين من الساحة، والترتيب للمرحلة القادمة التي يمكن أن يتغير فيها شخص المرشد بمرضه أو وفاته، لاسيما وأن صعود شمخاني قد جاء خصماً من رصيد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان.
وقد ظهر تقليل المرشد الأعلى من نجاح شمخاني في ملف عودة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، في لقائه الأخير بمسئولي وزارة الخارجية، بقوله أن تعبير "المرونة البطولية التي أبدتها إيران في الملف النووي قد أسيئ فهمه في الداخل والخارج"، وتأكيده على أن "هذه المرونة لا تعني الاستسلام والخضوع"، بل إنه وصفها بـ"التقية"، مؤكداً على ضرورة التحلي بهذه المرونة في بعض الأحيان، في إشارة إلى أن النهج الإيراني الحالى الذي يتسم بالمهادنة إنما هو بتوجيه من شخصه، وليس اجتهاداً من قبل شمخاني، حسب تحليلات عدة لما ورد في هذا اللقاء.
تغيرات محتملة
يناط بالمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني دستورياً، تحديد سياسات الدفاع والأمن القومي للبلاد، وكذلك تنسيق الأنشطة المتعلقة بالسياسات العامة للدفاع، وتتصف قراراته بالإلزامية والنفاذ بعد المصادقة عليها من جانب المرشد الأعلى. وعادة ما تتصل مهام المجلس بالخارج والداخل الإيراني، لاسيما فيما يخص ملفات الأمن.
فعلى الصعيد الداخلي، يمكن القول بأن تعيين على أحمديان خلفاً لشمخاني، يعني تحقيق رغبة التيار الأصولي في السيطرة على آخر المراكز المهمة في البلاد، وإحكام قبضته على مراكز صنع القرار وتنفيذه، من خلال إقصاء المعتدلين، والإصلاحيين من المناصب السياسية واحداً تلو الآخر، الأمر الذي يرجح انتهاج سياسات أكثر تشدداً فيما يخص ملفات الداخل التي لا تزال مفتوحة، مثل ملف الحريات، وقانون الحجاب، والاحتجاجات المتتالية التي تشهدها البلاد على خلفيات مختلفة.
أما على الصعيد الخارجي، فإن قرارات السياسة الخارجية الإيرانية تعد قرارات سيادية من اختصاص المرشد والمكتب الخاص به، وبالتالى فإن قرارات من قبيل تحسين إيران علاقاتها مع دول الجوار، والمرونة في الملف النووي، أو التشدد بشأنه، هي قرارات تعود إلى المرشد، وتعمل على تنفيذها مؤسسات الدولة العميقة بما فيها المجلس الأعلى للأمن القومي، وبالتالى يكون هامش تحرك المسئولين بصفاتهم في حدود ضيقة تعتمد على ملكات كل شخص وما يتميز فيه. وفي هذا السياق، يري الخبراء أن تعيين الجنرال على أكبر أحمديان، يمكن أن يصب باتجاه التوسع فيما يسمى بالحروب الوقائية خارج الحدود الإيرانية، باعتبار أن أحمديان كان المسئول عنها، حيث سبق وأن قام بتنفيذ عمليات عسكرية في أفغانستان والعراق وعلى حدود أذربيجان، كما يرجح انتمائه لصقور الحرس الثوري أن يكون له دور مستقبلي في تفعيل حروب الوكالة.
وفي ضوء الفترة المهمة التي تمر بها إيران حالياً، يتم فيها اختبار نواياها ومراقبة سياستها تجاه أهم الملفات في المنطقة وأكثرها حساسية، من قبل دول الجوار الإيراني بهدف معرفة حدود التغيير والاستمرارية في سياسة إيران، فإن ثمة توقعات بأن تكون إيران أكثر حرصاً خلال الفترة القادمة في تحركاتها الإقليمية، وإدارة مستويات التنافس الداخلية بشكل أكثر رشادة.