إن فهم الصراع الدائر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع يتطلب من المرء العودة إلى الجذور وطرح سؤال الهوية في سودان ما بعد الاستقلال. إنها ترتبط بالهويات المتناقضة وبمناطق الأطراف في مواجهة النخبة الخرطونيلية التي فشلت في معالجة إرث دولة الاستعمار بالغة الهشاشة والانقسام. لعل أول من تصدى بشجاعة لهذه الإشكالية هو المفكر الكيني الأبرز على مزروعي خلال محاضرته في جامعة الخرطوم عام 1968 حينما قدم صورتين متناقضتين للسودان.
الصورة الأولى غير واقعية، وتنظر إلى السودان بحسبانه جسراً للتواصل الأفرو-عربي، بما يعنيه ذلك من إمكانية ترابط هاتين الهويتين. أما الصورة الثانية الواقعية، فقد سلط مزروعي الضوء من خلالها على السودان كمثال على صعوبة التعايش بين هاتين الهويتين مستشهداً بقول السياسي الجنوبي أقري جادين، أحد المشاركين في مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب في عام 1965، والذي سعى إلى بدء مفاوضات سلام بين المناطق الشمالية والجنوبية، بأن السودان "فشل في أن يخلق مجتمعاً موحداً". وقد وصف مزروعي هذا الوضع بأنه "ثنائية متضادة"، وأعلن في نهاية المطاف أن السودان مثال نموذجي للهوية المزدوجة الأفروعربية. ولعل من يستمع إلى حملات التعبئة التي يقوم بها أنصار الدعم السريع من استنفار همم القبائل العربية في مناطق الأطراف في السودان ومنطقة الساحل يدرك تماماً مخاطر البعد العرقي للصراع في السودان.
يرفض مزروعي النظرة التبسيطية للسودان كجسر للتواصل بين العالمين العربي والأفريقي، ويقدم منظوراً أكثر دقة للسودان كنموذج "للهامشية المركبة" بين أفريقيا الناطقة بالعربية وأفريقيا الناطقة بالإنجليزية، بين الانقسامات العرقية الحالية والدول القومية المستقبلية، وبين غرب أفريقيا وشرق أفريقيا. تتحدى أفكار مزروعي الوحدة من خلال الاعتراف بالتناقضات والاختلافات، مثل الانقسام بين أصحاب الديانات المختلفة، والتفاوتات اللغوية، والفروق بين شرق أفريقيا وغرب أفريقيا، والتجانس مقابل الانقسام العرقي. وعليه، فإن استمرار الصراع في السودان يعني تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي بسبب الطبيعة الجيوسياسية والتداخل العرقي والثقافي لمناطق الأطراف السودانية والتي تشارك بحدود برية مع سبع دول أفريقية.
تهديد أمن الساحل
تعاني منطقة الساحل، بما في ذلك السودان وتشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، من تاريخ حافل بالاضطرابات السياسية والاجتماعية، مما يجعلها مرتعاً لعدم الاستقرار والإرهاب والجريمة المنظمة. ولعل الصراع الدائر في السودان بين الجيش والدعم السريع، يهدد مرة أخرى ببروز أزمة إنسانية وزعزعة استقرار المنطقة. وربما تكون تشاد، الواقعة غرب السودان، وبسبب التداخل السكاني والثقافي أبرز الخاسرين من استمرار الصراع في السودان. إنها تعاني بالفعل خلال فترة الانتقال التي تعيشها بعد وفاة الرئيس ادريس دبي من عدم استقرار سياسي نتيجة وجود الجماعات المتمردة والإرهابية بما في ذلك بوكو حرام ومسلحي داعش في منطقة بحيرة تشاد. كما تعاني ليبيا من غياب الحكومة المركزية الموحدة ووجود صراعات مستمرة، مما يوفر قاعدة وبيئة خصبة للمتمردين التشاديين للإعداد لهجمات ضد تشاد.
للمتمردين التشاديين، ولا سيما جبهة التغيير والوفاق، تاريخ حافل في الاستفادة من عدم الاستقرار الإقليمي. من المرجح في ظل الفوضى الأمنية التي ترتبت على الحرب في السودان أن ينقل المتمردون التشاديون قاعدتهم من ليبيا إلى دارفور في السودان، مستغلين الصراع الدائر لتشكيل تحالفات جديدة، واستغلال الأسواق غير المشروعة، وتكثيف الصراع، مما قد يؤدي إلى تعطيل جهود إحلال السلام الهش بين السودان وتشاد. ومن اللافت أن المتمردين في تشاد يتألفون بشكل أساسي من قبيلة القرعان ذات الأصول العربية والمقاتلين العرب الآخرين، وقد لعبوا دوراً مهماً في تشكيل المشهد السياسي لتشاد طوال تاريخها.
لقد استغلوا المظالم ضد الحكم السيئ والمحسوبية والفقر، والتي لا تزال قائمة في تشاد على الرغم من مواردها الطبيعية الوفيرة. وكما هو الحال في منطقة الساحل عموماً، تختلط أدوار التمرد والخروج على السلطة في تشاد بحيث نجد تحالفات هشة بين المتمردين ذوي الدوافع السياسية والمرتزقة والباحثين عن الثروة، مع وجود حدود متقلبة بين هذه الجماعات.
وتعد جبهة التغيير والوفاق في تشاد، بقيادة محمد مهدي علي، حالياً أكثر الجماعات المتمردة نشاطاً وتهديداً. وقد أعادوا تنظيم صفوفهم وأعادوا تسليحهم بعد توغلهم السابق في تشاد عام 2021 ولديهم قوة قوامها حوالي 800-900 مقاتل. وهذه الجماعة لها ارتباط بالقوات المسلحة الليبية والجهات الأجنبية الفاعلة، مثل مجموعة فاغنر، التي زودتها بالأسلحة. وطبقاً للتقارير الأمنية، فقد تورط المتمردون التشاديون في اقتصادات الساحل الإجرامية، بما في ذلك تهريب المخدرات والأسلحة والسيارات. وعلى أية حال، فإن قبائل القرعان/ التبو، التي تشكل 6% من سكان تشاد، لديها صراعها الخاص مع قبيلة الزغاوة التي تنتمي إليها أسرة الرئيس الراحل إدريس ديبي، وتشكل 1% من إجمالي السكان؛ حيث يرى القرعان أنهم أولى بالحكم، خاصة وأن الرئيس السابق حسين حبري من قبيلتهم، وتمت الإطاحة به من خلال انقلاب عسكري قاده ضده ادريس ديبي من دارفور عام 1990.
ولعل مكمن الخطورة من استمرار الصراع المسلح في السودان في أن يصبح إقليم دارفور قاعدة جذابة للمتمردين التشاديين مع تراجع قواعد دعمهم في ليبيا. يمكن للمتمردين تشكيل تحالفات مع قوات الدعم السريع السودانية والانضمام إلى الجنرال حميدتي، أحد المتحاربين الرئيسيين في الصراع على السلطة في السودان. ويمثل قرب دارفور من تشاد وتورطها في الأسواق غير المشروعة، بما في ذلك حقول الذهب وتهريب الأسلحة، عامل جذب للمتمردين. لاحظ في هذا السياق أنه في عام 2022، بلغت صادرات السودان من الذهب حوالي 2.5 مليار دولار. وقد شكل ذلك ما يقرب من 45٪ من الصادرات الوطنية قبل أن تنقلب الأحوال في العام التالي استجابة للحرب. ومن المعروف أن مناجم الذهب توجد في مناطق الشمال الشرقي والوسط ودارفور، وهو ما يجعل السودان ثالث أكبر دولة أفريقية - بعد جنوب أفريقيا وغانا - من حيث موارد الذهب المعروفة في القارة.
من المحتمل أن يؤدي تدخل المتمردين التشاديين في السودان إلى تكثيف الصراع في دارفور ولاسيما مع وجود الجماعات المسلحة والانقسامات بينها على أسس عرقية وهو ما سيكون له عواقب إنسانية وخيمة، مما يؤدي إلى زيادة تدفقات اللاجئين مع شح الموارد في البلدان المجاورة. كما أنه يعقد التعايش السلمي نسبياً بين السودان وتشاد. لقد حولت الجماعات التشادية المتمردة، المتمركزة في الأصل في دارفور بالسودان، عملياتها إلى ليبيا بسبب اتفاق سلام بين تشاد والسودان حد من أنشطتها. ومع ذلك، مع اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في ليبيا، تحول المقاتلون المتمردون إلى أنشطة إجرامية مثل التهريب. ومن المتوقع أن تواجه المليشيات المحلية في جنوب ليبيا هؤلاء المتمردين التشاديين لتأكيد سيطرتها وتقليل نفوذهم. وعليه فإن خيار الانتقال إلى دارفور يصبح والحالة هذه مرجحاً.
تهديد أمن وادي النيل وشرق أفريقيا
كما ذكرنا، يمكن أن يكون للحرب في السودان آثار إقليمية كبيرة، لاسيما إذا انخرطت الدول المجاورة في الصراع. إذ يزيد التراث الثقافي والعرقي المشترك بين المجتمعات في المناطق الحدودية من خطر التشابك الإقليمي. ربما تكون مصر وجنوب السودان من بين البلدان الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية من جراء تصعيد الصراع. يعني الموقع الجغرافي للسودان، على جانبي نهر النيل، أن عدم الاستقرار في الخرطوم يمكن أن يفرض تحديات اقتصادية واجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار في السودان إلى تعطيل الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق بشأن ملء وإدارة السد الإثيوبي، وهو مصدر قلق لمصر والسودان على وجه التحديد. وعليه يشكل استمرار الصراع خطراً على الأمن القومي لمصر. ففي ظل أوضاع التحول الاقتصادي الصعبة تبذل مصر كل ما في وسعها للتعامل مع التدفق الجماعي للأشخاص الذين تجاوزوا بالفعل مئة ألف، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى مليون شخص، بما في ذلك العديد من المواطنين السودانيين والمصريين.
ومن جهة أخرى، يعتمد جنوب السودان بشكل كبير على صادرات النفط عبر بورتسودان في السودان شمالاً. ولا يخفى أن الصراع في الخرطوم قد يعطل شحنات النفط ويؤدي إلى انهيار اقتصادي في جنوب السودان، حيث يعتمد 90٪ من اقتصادها على النفط. ومن المعلوم أن الحرب في السودان تتقاطع كذلك مع الصراع في إثيوبيا، حيث شكلت حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد تحالفاً جديداً مع الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي ضد مليشيات الأمهرة (فانو) وإريتريا. ولا يخفى أن منطقة الصراع الملتهبة تلك متاخمة للسودان، بما في ذلك مثلث الفشقة المتنازع عليه. كما يستضيف السودان حالياً حوالي 80 ألف لاجئ من التيغراي، إلى جانب الجنود التيغراي الذين خدموا مع الأمم المتحدة وطلبوا اللجوء هناك. ربما تكون إريتريا، على حد تعبير اليكس دي وال، هي الرابح الوحيد من الفوضى في المنطقة. إذ يمكن لأسمرة تتبع المعارضين بحرية واستخدام اللاجئين لتعزيز جيشها. وعلى أية حال كلما زاد عدم الاستقرار في البلدان المجاورة، أصبح الرئيس أسياس أفورقي قوة عسكرية مهيمنة في المنطقة. ومن المرجح أن يهدد هذا الوضع المتقلب والملتهب جميع الدول المجاورة، حيث يستخدم كل منها نفوذه لعرقلة منافسيها. ويبدو أن منطق السياسة الواقعية يقول أن أي حكومة تحاول الوساطة سوف يُنظر إليها على أنها تسعى وراء مصالحها الخاصة على حساب الآخرين.
فشل شعار الحلول الأفريقية
على الرغم من التكلفة الإنسانية العالية للصراع العنيف في السودان وإمكانية تهديد المركب الأمني الهش في كل من الساحل والقرن الأفريقي، فإن الاتحاد الأفريقي فشل في معالجة الأزمة في السودان بشكل فعال. لقد كان واضحاً منذ البداية كما حدث في أزمات سابقة مثل سد النهضة وحرب التيغراي افتقار الاتحاد الأفريقي للقيادة والتأثير في حل الصراع، حيث أخذت الولايات المتحدة ودول أخرى زمام المبادرة في التوسط في وقف إطلاق النار وتسهيل المحادثات. ولعل ذلك يشكك في قدرة الاتحاد الأفريقي على قيادة القارة والحفاظ على الوحدة الأفريقية في أوقات الأزمات.
وعلى أي الأحوال، تشترك الأطراف الدولية الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا جميعاً في هدف منع انهيار الدولة. وقد سمح الرئيس جو بايدن مؤخراً بفرض عقوبات على الأفراد المتورطين في تهديد سلام السودان وأمنه واستقراره وعرقلة التحول الديمقراطي أو ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. في حين أن هذا قد لا يردع الجنرالات السودانيين أو داعميهم في الخارج الذين لديهم خبرة في التهرب من العقوبات، إلا أنه سيثير معارضة من الصين وروسيا والدول الأفريقية التي تعارض العقوبات الأمريكية أحادية الجانب في أي عملية لفرض السلام في أفريقيا. وعليه، لمنع المزيد من زعزعة الاستقرار الإقليمي، ينبغي كخطوة أولى تعطيل تمويل الحرب، وفرض عقوبات مستهدفة، واستخدام النفوذ الدولي لقطع إمدادات الأسلحة والوقود للفصائل المتحاربة. إن هناك حاجة ماسة إلى عملية سلام مستدام في السودان واتخاذ إجراءات حاسمة من الشركاء الدوليين للتخفيف من المخاطر التي تشكلها التنظيمات المسلحة والارهابية فضلاً عن مقاتلي شركة فاغنر الروسية.
وأخيراً، فإن تداعيات الصراع في حالة استمراره سوف تكون بالغة الأثر في منطقة أمنية قلقة ومعقدة. وهنا، يمكن تطبيق مفهوم تأثير الفراشة على الحرب في السودان بمعنى أن الأحداث أو القرارات الصغيرة يمكن أن يكون لها عواقب كبيرة وغير متوقعة. في سياق الحرب، يمكن للإجراءات التي اتخذتها مختلف الأطراف، سواء كانوا قادة سياسيين أو جماعات مسلحة أو جهات خارجية، أن تفضي إلى سلسلة من الأحداث التي تحدد مسار الصراع ونتائجه. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي عمليات التعبئة الجماعية التي يقوم بها كل طرف إلى تصعيد التوترات بين المجموعات العرقية أو السياسية المختلفة، مما يؤدي إلى زيادة العنف والصراع. وقد تؤدي هذه الشرارة الأوّلية إلى سلسلة من الإجراءات الانتقامية، مما يزيد من تفاقم الوضع وإطالة أمد الحرب. ولعل نذر ذلك باتت واضحة في إقليم دارفور المضطرب.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للتدخلات أو القرارات الخارجية من قبل القوى الأجنبية آثار مضاعفة على الصراع في السودان. فمن المرجح أن يؤثر الدعم السياسي أو العسكري المقدم لفصائل معينة أو فرض العقوبات على بعض الأطراف على الأرض، وقد يؤدي إلى تصعيد النزاع أو الحد منه. علاوة على ذلك، يمكن أيضاً رؤية التداعيات الإقليمية والدولية للحرب في السودان من خلال عدسة تأثير الفراشة. يمكن أن يمتد عدم الاستقرار والأزمة الإنسانية في السودان –كما ذكرنا– إلى البلدان المجاورة، مما يؤدي إلى تدفق اللاجئين، وزيادة التوترات الإقليمية، والصراعات المحتملة. هذا الترابط يسلط الضوء على كيف يمكن للأحداث في السودان أن يكون لها آثار بعيدة المدى على المنطقة الأوسع.
بشكلٍ عام، في حين أن تأثير الفراشة قد لا يعكس تماماً تعقيد الحرب متعددة الأوجه مثل تلك الموجودة في السودان، إلا أنه بمثابة تذكير بأن الإجراءات أو القرارات التي تبدو غير مهمة يمكن أن يكون لها عواقب عميقة وغير مقصودة، وتشكل مسار وتأثير الصراع على البيئة الإقليمية الأوسع في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي.