* المقال منشور ضمن العدد رقم 105 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، مايو 2023.
شهد العالم منذ نهاية القرن الثامن عشر ثلاث ثورات صناعية متلاحقة، تبعها الثورة الصناعية الرابعة التي نعيشها الآن. وتُعرف كلمة ثورة على إنها: «منظومة شاملة من التغييرات النوعية والجوهرية التي تحدث في بنية مادية أو اجتماعية أو فكرية فتغير هويتها وتنسف كيانها جذريًا. وقد تحدث هذه الثورة في المجال الاجتماعي والسياسي، أو في مجال العلوم والتكنولوجيا كالثورات الصناعية».
بدأت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر ببريطانيا العظمى، وكان الأساس الذي بنيت عليه هذه الثورة هو اختراع المحرك البخاري لجيمس واط، وسلسلة أخرى من الاختراعات التي غيرت شكل ونمط الإنتاج، حيث نشأت في بريطانيا وامتدت وانتشرت بسرعة إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وتراوح زمن هذه الثورة من عام 1716 وحتى عام 1820. وقد أدت هذه الثورة إلى نمو كبير في صناعات الفحم والحديد والسكك الحديدية، وتدهور نمط الإنتاج التقليدي الذي شهده الريف. ومن ثم، بدأت الهجرة إلى المدن، وارتفعت مستويات الدخل، وتحسن مستوى معيشة الأفراد.
ثم جاءت الثورة الصناعية الثانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وامتدت حتى بداية الحرب العالمية الأولى، وقد زادت هذه الثورة من قدرات التصنيع باستخدام العلم بشكل هائل لتصل إلى ما نسميه "الإنتاج الكثيف" Mass Production باستخدام طاقة كهربائية، وتطورت وتوسعت صناعات جديدة ومهمة مثل النفط، والهاتف والمصباح الكهربائي ومحرك الاحتراق الداخلي، وظهور وسائل المواصلات، ووسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، الأمر الذي أدى إلى تغير نمط وطبيعة المجتمعات في عدة دول من مجتمعات زراعية إلى صناعية، وازدادت ظاهرة التحضر، حيث ارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون في المدن بمعدلات كبيرة.
أما الثورة الصناعية الثالثة أو الثورة الرقمية، فقد بدأت بشائرها في الخمسينيات من القرن العشرين، وذلك مع ظهور أجهزة الكمبيوتر، والتى تطورت خلال القرن العشرين مع تقدم التكنولوجيا والأجهزة الإلكترونية، وظهور أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة، وإرهاصات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والانترنت. وقد أنتجت هذه الثورات المتلاحقة تحولات في أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة للطفرات الحادثة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبروز الحديث عن الاتجاه إلى أنسنة الآلة وميكنة الإنسان، وما سيكون لذلك من تداعيات وآثار على مستقبل الوظائف والصناعات، وهو ما تسعى هذه المقالة لمناقشته.
أولاً: الآثار الاقتصادية للثورات الصناعية وتطور شكل الصناعة والإنتاج
يشهد العالم في الوقت الراهن منعطفًا جديدًا بسبب التطورات الكبيرة التي بدأت منذ منتصف العقد الأخير (2010-2020)؛ نظرًا لما أحدثته تلك التطورات من تغيير في الطريقة التي يعيش بها الإنسان ويعمل ويتفاعل بها مع باقي أفراد المجتمع، وكذلك طريقة عمل المنظمات وتفاعلها مع البيئات المحيطة بها (انظر شكل رقم 1).
وقد كانت للثورات الصناعية المتلاحقة آثار اقتصادية عدة، ولعل من أبرزها الارتفاع الملحوظ فى متوسط دخل الفرد كما هو موضح في الشكل رقم (2)، لنجد أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى الأقاليم لم يتغير كثيرًا في معظم تاريخ البشرية قبل الثورة الصناعية خلال الفترة من سنة 1400 ومرورًا بأكثر من 300 عام. بينما كانت بداية الزيادات الملحوظة فى معدل الدخل والرفاهية مع بداية الثورة الصناعية الأولى فى عام 1716، واستمرت الزيادات في الصعود حتى حدثت الثورة الصناعية الثانية بعد عام 1800، وأصبحت الزيادة متسارعة وأكبر من أي وقت مضى. واكتمل هذا التغير في معدلات الدخل بحدوث الثورة الصناعية الثالثة التى سرّعت من الزيادات المتلاحقة فى نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى، وذلك نتيجة الزيادة الهائلة فى قدرة الدول الصناعية والتكنولوجية مما أثّر إيجابًا على قدرتها الاقتصادية ومستوى معيشة ورفاهية سكانها (انظر شكل رقم 2).
ونلاحظ أن الثورة الصناعية الرابعة أحدثت تغيرًا كبيرًا في الأنماط الاقتصادية من ناحية تطوير القطاعات الاقتصادية الأساسية كالصناعة، والنقل، والطاقة، والزراعة، والتجارة، وزيادة قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة على التعامل مع الأسواق العالمية بدلاً من المحلية. لذلك يمكن القول إنها ساهمت بشكل مباشر على حياة الأفراد، من حيث زيادة معدلات الرفاهية وسهولة الوصول إلى الخدمات المقدمة. وبالنظر إلى معدلات الدخل، يلاحظ أن الثورة الصناعية الرابعة كان لها تأثير واضح في زيادة معدلات الدخل فى العالم جنبًا إلى جنب مع زيادة معدلات الإنتاج والناتج المحلي الإجمالي خاصة في حالة الدول المتقدمة (انظر الشكل رقم 3).
يوضح الشكل السابق الفارق بين النمو فى معدلات الدخل في مدة زمنية قدرها 10 سنوات قبل وبعد الثورة الصناعية الرابعة أي قبل عام 2010 وبعده، حيث تبين الإحصاءات أن متوسط الدخل زاد من 37000 دولار فى عام 2001، إلى 48000 دولار فى العام 2010 بنسبة زيادة قدرها 30 %. أما عن الفترة المناظرة بعد الثورة، فقد زادت معدلات الدخل من 50000 دولار فى عام 2011 إلى 70000 دولار فى العام 2021 بنسبة زيادة قدرها 40 %.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الثورة الصناعية الرابعة تتميز عما سبقتها من ثورات بأنها ترتكز على الدمج ما بين التقنيات المادية والرقمية والبيولوجية، حيث عززت عددا من التطبيقات والآليات والتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعى والروبوتات والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والسيارات ذاتية القيادة، والمجال السيبراني. وقد أدى كل ذلك إلى تحويل اقتصاديات العالم تحولاً جذريًا.
ووفقًا لكلاوس شواب Klaus Schwab، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، وأول من صاغ مصطلح «الثورة الصناعية الرابعة» وأطلق كتابه الذي حمل نفس الاسم في عام 2016، فإن هذه الثورة سوف تغير جذريًا الطريقة التي نحيا ونعمل بها، وستكون تحولًا فريدًا من نوعه، سواء من حيث حجم التغيير أو مدى تعقيده، وهو ما أطلق عليه الباحثون بـ «تسونامي الجبار» الذي سيعصف بالمجتمعات الإنسانية، ويُحدث انتقالا جذريًا في مختلف المظاهر وتفاصيل الحياة الإنسانية برمتها.
ثانيًا: الثورة الصناعية الرابعة والصناعة الذكية
تعد الثورة الصناعية الرابعة نتاجًا للتكامل والانصهار الرقمي بين مختلف الثورات العلمية والتكنولوجية الهائلة في الفضاء السيبراني. ولهذه الثورة تأثيرات إيجابية في رفع كفاءة عمليات الإنتاج بالاعتماد الكامل على التكنولوجيا وحصر دور تدخل العنصر البشري على المراقبة فقط، وخاصة مع دخول تطبيقات الذكاء الاصطناعي في كل من قطاع الخدمات والإنتاج، ويعد هذا أبرز ما يميز هذه الثورة عن ثورة الرقمنة السابقة لها. وتأتي أبرز هذه التغييرات، وخاصة في مجال الإنتاج، من خلال العناصر الرئيسية التالية:
1 - التحكم شبه الكامل في عمليات الإنتاج، والعمل على تعزيزها بطرق آلية بالاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتحول إلى نظم المصانع الذكية، والتي لا يتدخل فيها العنصر البشرى بدءا من عمليات توريد المواد الأولية وحتى آخر مرحلة من مراحل الإنتاج وضبط الجودة.
2 - تغيير الزمن الفعلي للإنتاج، مع استخدام النظم الذكية التي تحدد القدرة الإنتاجية المثلى لكل منشأة، وتقليل زمن العمليات الإنتاجية المختلفة وتحديد أسباب الأعطال الفنية وعلاجها وضمان عدم تكرارها، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع مستويات كفاءة الإنتاج إلى حدودها القصوى.
3 - التنظيم الذاتي لعمليات الإنتاج، من نظم تشغيل ومعالجة لأوامر الشراء بصورة تلقائية، حيث تستطيع الأنظمة الذكية تلقي بعض الطلبات من العملاء، والاستجابة لها وتعديل بعض التعديلات اللازمة إذا تطلب الأمر ذلك.
4 - التنبؤ والقيام بعمليات الصيانة بشـكل مستقل، وتسـيير الأعمال اللوجيستية بطريقة ذاتية بحيث يمكنها أن تتفاعل مع التغيرات غير المتوقعة في الإنتاج.
ومن الأمثلة الحقيقية للاستفادة من التقنيات المتطورة للثورة الصناعية الرابعة، قام أحد مصانع المحركات فى ألمانيا بتوصيل حساسات بالمعدات الصناعية بالمصنع، تقوم بقياس كافة الظروف المحيطة بالآلة مثل درجة الاهتزاز ودرجة الحرارة وغيرها من المؤشرات، ونقل هذه البيانات على مدار الساعة بحيث تقوم برمجيات متطورة بتحليل تلك البيانات فوريًا مع ملاحظة وتسجيل أنماط تشغيل المعدات، من أجل التنبؤ بالأعطال التي يمكن أن تحدث للآلات إذا ارتفعت درجة حرارتها مثلا أو إذا زاد معدل اهتزازها...إلخ. وبالتالي تعزز هذه التقنيات قدرة المصانع على التنبؤ بالأعطال قبل حدوثها، والقيام بصيانة استباقية للآلات قبل أن تتعطل، وتحقيق أعلى معدل تشغيل ممكن من المعدات. ومن المتوقع أن ينتج هذا التحول أرباحًا هائلة للشركات والمصانع التي تتبنى تطبيق تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة للشركات التي تطوره.
وبولوج عصر المصانع الذكية، والصناعات المتكاملة والإدارة الذاتية الرقمية والعمليات الصناعية الرقمية، والتى لا يتدخل فيها العنصر البشرى من أول عمليات توريد المواد الأولية وحتى آخر مرحلة من مراحل الإنتاج وضبط الجودة، تتجلى الثورة الصناعية الرابعة، وهذا لا يعني أن تحديات ومشكلات الصناعة قد انتهت، بل يعني فرض تحديات جديدة لمستقبل الصناعة، أهمها الأمن الرقمي وتأمين المعلومات والنمذجة أو التنميط والبعد البيئي.
ومن ثم، فإن الثورة الصناعية الرابعة أصبحت واقعًا ملموسًا وليس مجرد رؤى ونظريات، مستندة إلى أسس متينة تضمن بقاءها واستمرارها ونموها لفترات طويلة، لتكون علامة بارزة في تاريخ ومستقبل النشاط الصناعي. وارتباطًا بأهمية الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا فى الصناعة الذكية، نظرًا لما توفره من طاقة وجهد ووقت وزيادة للإنتاجية، فقد زاد بالفعل الإنفاق العالمى على الذكاء الاصطناعى حيث تخطى 77 مليار دولار فى العام 2022 وفقاً لتقرير مؤسسة (Guide Spending IDC).
وبمتابعة حجم النمو المتسارع فى هذا القطاع منذ العالم 2015، يتوقع أنه خلال 10 أعوام من الآن قد يزداد الإنفاق العالمى إلى أكثر من تريليون دولار بحلول عام 2030، من خلال ضخ الشركات العالمية ملايين الدولارات كاستثمارات في هذا المجال.
وبالنظر للاستثمارات فى قطاع الصناعة الذكي فقد بلغت قيمة المصانع الذكية في العالم 295.65 مليار دولار أمريكي في عام 2021، ومن المتوقع أن تصل إلى 514.29 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2027، مسجلاً معدل نمو سنوي مركب يقدر بحوالي 9.74 ٪ (انظر شكل رقم 4). وهنا تجدر الإشارة إلى أن المصانع الذكية تساهم أيضًا في خطة التحول العالمي لتقليل الانبعاثات الكربونية، حيث تقل معدلات الانبعاثات الكربونية كلما زادت قدرة المصنع التكنولوجية وعدد المصانع الذكية. وبالتالي، فإن التكنولوجيا تعزز قدرة العديد من شركات التصنيع على تحقيق إنتاج صفر نفايات وأقصر وقت للوصول إلى السوق.
بالنظر إلى تنامي حجم المصانع الذكية أو (الإنتاج الذكي) في الصين الذي شهد تطورًا كبيرًا وملحوظًا جدًا، يلاحظ النمو الهائل في حجم قطاع الصناعة خلال الفترة (2016 - 2022) بنسبة 300 % بحجم استثمارات يقدر بحوالي 188 مليار يوان صيني، ومن المتوقع زيادة النمو ليتضاعف حجم قطاع المصانع الذكية في الصين في عام 2025 ليبلغ 465 مليار يوان صيني (أنظر شكل رقم 4).
ارتباطًا بما سبق، فإنه يبرز مشهد التنافس العالمي بين العديد من اللاعبين الرئيسيين من حيث الحصة السوقية، نحو امتلاك العدد الأكبر من المصانع الذكية والهيمنة على صناعات الجيل الرابع (انظر شكل رقم 5). على سبيل المثال، تقود الصين، باعتبارها أهم البلدان الصناعية الرائدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والعالم، سوق الروبوتات الصناعية، وتتجه نحو أتمتة المصانع الذكية في المنطقة وتنفق المليارات سنويًا في تطوير هذا القطاع. وأيضاً الولايات المتحدة التي تنفق الكثير من الأموال والاستثمارات في قطاعات الذكاء الإصطناعي والصناعة الذكية، وعلى خطى هاتين الدولتين تأتي دول الإتحاد الأوروبى لمواكبة الركب في الثورة الصناعية الرابعة.
ثالثًا: مستقبل العمل في ظل الثورة الصناعية الرابعة
تؤكد نتائج البحوث والدراسات العلمية المستقبلية أن معظم الوظائف الشائعة حاليًا ستنقرض في المستقبل القريب، وأن تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته ستؤدي لفقدان ملايين البشر لوظائفهم الحالية. لكن هذا لا يعني زيادة البطالة، بل قد تؤدي التكنولوجيا إلى مزيد من خلق الوظائف المستحدثة.
لذا لقد اتسع نطاق الوظائف التي يحتمل أن تتعرض للتهديد بالزوال بسبب التقدم التكنولوجي والثورة الصناعية الرابعة، ومن المتوقع فقد حوالي 150 مليون وظيفة بحلول عام 2040 لصالح الروبوتات، وحوالى 85 مليون وظيفه خلال السنوات الخمس القادمة فقط طبقًا لتقرير مستقبل الوظائف للمنتدى الاقتصادي العالمى 2020. وتشير نتائج الاستطلاع الواردة فى التقرير بأن 43 % من الشركات عازمة على تقليص قوتها العاملة بسبب التكامل التكنولوجي، في حين أن 34 % منها تخطط لتوسع قوتها العاملة. وهذا يوضح أن طوفان التغيير الناشئ عن الثورة الصناعية الرابعة سيؤدي إلى اختفاء بعض الوظائف التقليدية الموجودة حاليًا في سوق العمل، وظهور تخصصات ووظائف جديدة تخدم أهداف ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة (انظر الجدول رقم 1)
يوضح الجدول أعلاه مجموعة من الوظائف المعرضة للميكنة، وفقًا لمنظمة العمل الدولية. ووفقًا لتقرير البنك الدولي حول التنمية في العالم للعام 2019، تحت عنوان: «الطبيعـة المتغيـرة للعمـل»، فإن عـدد الروبوتـات التـي تعمـل فـي جميـع أنحـاء العالم سيشهد ارتفاعًا ملحوظًا؛ حيث زادت عدد الروبوتات الصناعية التشغيلية بمقدار 9 بالمائة سنويًا ما بين 2010 و2017، وتتركز بشدة في قطاعات التصنيع وداخل الاقتصادات المتقدمة. وبالرغم من فرص النمو الاقتصادي والإنتاجي، إلا أن حجم التغيير والابتكار غير المسبوق في العقدين الماضيين قد أفضى إلى ارتفاع مستويات عدم اليقين والقلق، والتي لا يزال حجمها مشوبًا بعدم الوضوح. ومع التركيز العالمي الكبير على كيفية تحول التقدم التكنولوجي السريع بأشكاله كافة إلى مصدر لقلق الموظفين والمجتمعات؛ نظرًا لما يسببه من احتمالية فقدان الكثير من الوظائف، لكن في الوقت نفسه قد تتيح التكنولوجيا فـرصًا لخلـق وظائـف في قطاعات جديدة حيث قدم التقرير نظرة متفائلة على أثـر الثـورة الصناعية الرابعة على الوظائف. وقد أفاد أنه من المتوقع فقدان نحو 85 مليـون وظيفـة بحلـول عـام 2025 في 15 صناعة في 26 اقتصادًا كبيرًا. بينما من المتوقع أن يتم خلق حوالي 97 مليون دور جديد ووظائف جديدة، على أن تكون هذه الوظائف مدفوعة بالنمو الكبير في المنتجات والخدمات الجديدة التـي سـتقتضي أن يعمـل البشـر مـع الآلات والخوارزميات. ومنـذ صـدور هذا التقرير، لم يتضح بعد كيف ستتغير هـذه الأرقـام خاصة فـي ظـل وضع جائحة كوفيد- 19، فعلى الرغم من تأثيرها السلبي على الاقتصاد العالمي، إلا أنها دفعت بتطبيق حلول الأسواق التكنولوجية إلى معدلات غير مسبوقة. وقد حدد التقرير أربعـة اتجاهات رئيسية كبرى تؤثـر علـى مستقبل العمل، وهي علـى وجـه التحديد: العولمة، والتكنولوجيا، والديموغرافيا، وتغير المناخ.
والجدير بالذكر أنه مع فقدان هذه الوظائف، فهناك وظائف تتولد وترتبط بالمستقبل، وهي الوظائف التي لا تسـتطيع الآلات القيـام بها في مجالات متعددة؛ حيث يتغلب فيها البشر على الآلات، وتمثل مفتاحًا لخلق فرص العمل في المستقبل، ولعل من أهمها: مجـالات الابتـكار والابداع، التي تشـمل كل شـيء من الاكتشافات العلمية إلى التفاعل الإبداعي وريادة الأعمال الاجتماعية. ذلك أن الروبوتات لا تمتلك نوعًا من الذكاء العاطفي ولا البراعة البدنية مثل السباحة وممارسـة الرقص، التي تعطي البشـر قدرات استثنائية تفوق قدرات الروبوتات.
أيضًا تظهر وظائف جديدة للعمال ذوي الكفاءات العلمية العالية المستوى ومن أهمها، على سبيل المثال لا للحصر، مطوري البرامج، التسويق الرقمي، صناعة المحتوى، التدريس على الإنترنت التدريب والإرشاد، تحليل البيانات، وبعض الوظائف الأخرى. وفـي كتابه «الثورة الصناعية الرابعة» صنف كلاوس شواب أثر التكنولوجيا الناشـئة علـى سـوق العمـل إلى معسكرين؛ من يؤمنون بأن التكنولوجيا ستقدم عصرًا جديدًا من الرخاء الجمعي الهائل، ومن يؤمنون أنها سـتؤدي إلى حالـة مـن الفوضى والخـراب لما سوف تسببه من ظواهر البطالة الجماعية.
وخلال السنوات القادمة، من المتوقع أن يحتاج الكثير من العاملين إلى صقل مهاراتهم أو إعادة التأهيل، أي تدريب العمالة لاكتساب مهارات جديدة أو تحسينها، حيث تشير التقارير الدولية أن حوالي 42 % من المهارات في الوظائف الحالية يتوقع تغيرها بحلول السنوات القليلة القادمة. كما توضح الإحصاءات وجود فجوة بين مهارات الطلاب (الباحثين عن عمل). وتبشر دراسات وبحوث سوق العمل المستقبلي بأن الجيل المولود بعد عام 2010 سيواجه تغيرًا عاصفًا عند البحث عن فرصة عمل في حال تخرجه في ظل المناهج الحالية أما الجيل المولود عام 2020 فسيبحث عام 2040 عن فرصة عمل بجهد فائق وخاصه في المجتمعات التي لم تواكب التطور في التكنولوجيا.
ختامًا، إن المستقبل لن يحمل أي نقص في العمل، فهذه التطورات قد يكون لها جوانبها الإيجابية لا سيما في خلق العديد من الفرص الجديدة، وظهور نوعية جديدة من الوظائف، تختلف إلى حد كبير عن الوظائف المتعارف عليها اليوم إن استمرت في المستقبل. وهو أمر حتمي يقودنا في الدول النامية إلى ضرورة تطوير التعليم، حيث يجب توفير كوادر بشرية أكثر تعليمًا وضمان تزويدهم بقدرات وكفاءات جديدة على اختلاف وظائفهم، مع ضرورة إطلاعهم على أحدث التطورات التقنية في مختلف المجالات والأعمال، حيث أن مستقبل العمل يتطلب من الإنسان الاستمرار في التعلم مدى الحياة. ولن ينجح في العمل مستقبلًا سوى من يستثمرون في التعليم، وذلك فى ضوء متطلبات الثورة الصناعية الرابعة التي ستوفر ملايين الوظائف المستحدثة في قطاعات متعددة.