* المقال منشور ضمن العدد رقم 105 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، مايو 2023.
يعيش العالم بأسره مرحلة الثورة الصناعية الرابعة، والتي يقع في مركزها تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحاسبات الآلية فائقة السرعة والبيانات الضخمة والروبوتات، والتي تؤثر بدورها على كافة مجالات الحياة اليومية للإنسان المعاصر، فردًا أو جماعة أو حكومة أو مؤسسة إقليمية أو دولية. هذا التغلغل لمنتجات تلك الثورة الصناعية في حياة البشرية، وإن أمدها بفرص كبيرة لتحقيق الأهداف التنموية لتحسين حياة البشرية، خاصة القضاء على الفقر، وإنهاء عدم المساواة في الرعاية الصحية، وزيادة معدل التعليم، ومكافحة الاحترار العالمي، إلا إنها تواجه بالكثير من التحديات والقيود، وأبرزها زيادة الفجوة بين الاقتصادات الكبرى، وتلك النامية والناشئة، والتحيز في الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي تنشأ أصلاً مواكبة للظروف العامة في البلدان الصناعية الكبرى، فضلًا عن ارتفاع التكلفة للمنتجات الذكية ما يقيد المجتمعات الأقل دخلًا على الدخول في هذا المعترك، بالإضافة إلى ندرة الكفاءات البشرية لديها المتخصصة في هذا المجال العلمي والتطبيقي سريع التطور، ومحدودية المعاهد العملية المتخصصة لدى البلدان النامية، وضعف البنية التحتية للاتصالات لهذه الدول.
هذه القيود بدورها تتطلب استراتيجيات تنموية طموحة، ومخصصات مالية كبيرة، وسياسات تعليمية تضع هدف تخريج عناصر بشرية كفؤة ومؤهلة للعمل في بيئة الثورة الصناعية الرابعة، والتعاون مع المؤسسات الدولية المعنية بمساعدة البلدان النامية للاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجالات الحياتية المختلفة. وهنا تمتزج الفرص بالتحديات ويتوقف الأمر على مدى إدراك حكومات الدول النامية والاقتصادات الناشئة بأهمية إعداد المجتمع لهذه الثورة الصناعية الكبرى، واتخاذ الإجراءات المناسبة، وتوفير التمويل وتحديث البنية التحتية للاتصالات، ودعم المبادرات التي يُقدم عليها القطاع الخاص المحلي. وهنا تختلف الاستجابات، كما تختلف العوائد والتداعيات.
في هذه المقالة سيتم مناقشة العناصر الرئيسية الكبرى التي يمكن أن توفر للدول النامية مستوى مناسبًا من الاستفادة من الثورة الصناعية الرابعة، وما تنتجه من تطبيقات الذكاء الاصطناعي القابلة للتوظيف في دفع جهود التنمية والتصنيع والتحديث المجتمعي.
أولًا: المكونات الرئيسية للثورة الصناعية الرابعة والدول النامية
وفقًا للاتحاد الدولي للاتصالات، «يتكون الذكاء الاصطناعي (AI) من مجموعة غنية من الأساليب والتخصصات، بما في ذلك الرؤية والإدراك والكلام والحوار والقرارات والتخطيط وحل المشاكل والروبوتات والتطبيقات الأخرى التي تتيح التعلم الذاتي. ومن الأفضل النظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه مجموعة من التكنولوجيات والتقنيات المستعملة لتكملة السمات البشرية التقليدية، مثل الذكاء والقدرة التحليلية والقدرات الأخرى». وبشكل عام، ثمة اعتقاد راسخ لدى المؤسسات ومراكز الأبحاث المعنية بالثورة الصناعية الرابعة بأنها الفرصة الكبرى للدول النامية لتحقيق طفرات تنموية تقلص من الفجوة الهائلة بينها وبين الدول المتقدمة اقتصاديًا، وتحقق لها طفرة في مواجهة الفقر وإهدار الموارد المحدودة. لكن الأمر عمليًا ليس على مثل هذا التصور المتفائل.
فقد نشر موقع «Project Syndicate» المتخصص في الترويج للتطبيقات الذكية، والبحث في تأثيراتها على السلوك الإنساني، تحليلاً تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي يبشر بالخير في البلدان النامية»؛ حيث أكد فيه أنه «في حين أن التكنولوجيا يمكن أن تزيد من حدة عدم المساواة في العالم، إلا أن لديها القدرة على تخفيفها، لأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقوم بدور أكبر من الأجهزة الكهربائية؛ كما يمكن أن يغير طريقة تقديم الرعاية الصحية، والإغاثة في حالات الكوارث، والتمويل، والخدمات اللوجستية، والتعليم، وخدمات الأعمال في دول الجنوب، وأن الذكاء الاصطناعي يُحدث بالفعل تغييرًا كبيرًا في الدول النامية، وأن ابتكاراته تعمل على تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة في قضايا متعددة مثل القضاء على الفقر، وإنهاء عدم المساواة في الرعاية الصحية، وزيادة معدل التعلم، ومكافحة الاحترار العالمي، بيد أن تسخير قدرة الذكاء الاصطناعي الكاملة لفائدة التنمية وتحسين أحوال البشرية، يجب إيجاد طرق جديدة لتطبيقها».
ووفقًا لشركة مايكروسوفت فمن المتوقع بحلول عام 2025 أن يستخدم نحو 4.7 مليارات شخص الإنترنت، من بينهم 75 % من داخل الدول الناشئة، وهو ما سيولّد مزيدًا من البيانات والمعلومات التي ستكون محركًا فعالًا للإقناع والتنمية والإكراه في الوقت نفسه. وهؤلاء سيدخلون الأسواق الاقتصادية الجديدة، مواجهين لتغيرات مهمة فى طبيعة أسواق العمل والتغيرات المناخية والديموغرافية والسياسية، مما سيضاعف الحاجة لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي لدعم الأمن الإنساني والتقليل من العنف، وهو ما تقع مسئولية تحقيقه على عاتق الحكومات ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، من خلال تحرك منسق يضع أولويات الأمن والتنمية على قمة أهدافه بعيدًا عن المنافسة والسعى إلى تحقيق المكاسب الفردية.
وفي كثير من الدراسات المؤيدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تنمية البلدان النامية بهدف خروجه من دائرة الفقر والتهميش، يتم التركيز على ما يمكن أن تقدمه الثورة الصناعية الرابعة من إضافات تنموية كبرى؛ ففي المجال الصحي يمكن للذكاء الاصطناعي توفير رعاية صحية أفضل بتكلفة أقل من خلال التنبؤ بالأمراض والتشخيص الدقيق ووصف العلاجات المناسبة، وكذلك الوصول بالخدمة الصحية إلى المناطق البعيدة عن المركز وفي التوقيت المناسب.
وفيما يخص التنمية بوجه عام يساعد الذكاء الاصطناعي على توجيه اهتمامات الأفراد إلى الوظائف ذات التكوينات الحديثة كهندسة الروبوتات، والبرمجة، وصيانة الأجهزة الذكية، وتمكين الشركات من خفض تكلفة الإنتاج من خلال ضبط سلاسل التوريد والتوزيع. ومع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الزراعة يمكن للمزارعين مراقبة محاصيلهم بكفاءة أكبر والتنبؤ بموعد زراعتها وحصادها وضبط عمليات رش المبيدات، ما يحقق وفرًا في التكلفة الكلية ويرفع حجم العائد. وبالنسبة للتعليم تساعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي على ضبط العملية التعليمية ككل، وهكذا في العديد من المجالات الرئيسية للتنمية الشاملة.
واقع الحال إن تحقيق طفرة تنموية من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يتوجب توافر شروط معينة لدى الدول النامية، ليست متوفرة بالقدر الكافي. وهي شروط تجمع بين تحركات الدول النامية من جانب، ومساعدات المؤسسات الدولية المعنية بإحداث طفرات تنموية في الاقتصادات الفقيرة بما في ذلك الشركات الكبرى فى إنتاج وابتكار تطبيقات الذكاء الاصطناعي من جانب آخر.
ولعل أهم ما يجب أن تحشد له الدول النامية ما يتعلق بالقدرات المالية والعناصر البنيوية، خاصة القدرات البشرية والبنية التحتية للاتصالات، ومعالجة الأمية التقنية، والأهم أن يقتنع المجتمع المحلي ككل بالفوائد الكبرى التي يجلبها الذكاء الاصطناعي، واتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة بعض سلبياته، لاسيما ما يتعلق بكون بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي المُصممة خصيصًا لواقع الدول الكبرى لا تخلو من تحيز قيمي، كما أن الاتجاه المتصاعد نحو الأتمتة واستخدام الروبوتات تحد من توظيف القدرات البشرية، وهو ما لا يناسب واقع الدول النامية. والمقصود هنا حُسن اختيار التطبيقات المناسبة للحالة الكلية للبلد النامي.
ويتوجب في المقابل الاهتمام بكل ما يحقق رفع الإنتاجية وترقية المهارات البشرية، وبمعنى آخر أن يتم الدمج بالتوازي بين الاستثمار في تطوير التقنيات والاستفادة من الذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب والتركيز على التنمية البشرية وترقية الرأسمال المجتمعي عبر إنشاء مؤسسات تعليمية متخصصة في هذه المجالات المستحدثة سريعة التطور. واتصالًا بهذا التوجه فمن المهم الاستعانة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي المناسبة وفقًا لحالة كل قطاع، مع استيعاب كامل من قبل الجهات المشرفة للمشكلات المحتمل مواجهتها والاستعداد بحلول عملية لها، مع الاستفادة من تجارب دول نامية أخرى.
مثل هذه العملية تتطلب بدورها تنسيقًا وتكاملاً بين الحكومات وأصحاب المصلحة ومؤسسات التمويل، ومراكز الأبحاث، وبما يحقق أكبر استفادة ممكنة من البرامج الذكية محل التطبيق، والعمل أول بأول على معالجة مشكلاتها التي قد تظهر لاحقًا، وبما يقود إلى تطويرها، وتحقيق عنصر الاستدامة التنموية في الوقت نفسه. وبناء على ما سبق يتضح أن وضع استراتيجية خاصة بالذكاء الاصطناعي للبلدان النامية يمثل حجر الزاوية، وتستهدف سد الفجوات الرقمية عبر سياسات عملية لترقية وتطوير البنية التحتية والبحث والتطوير.
وفي التقرير الصادر عن الاتحاد الدولى للاتصالات، والذي جاء تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي من أجل الصالح العام»، ؛ فقد حدد أبرز التحديات التي يجب على الدول أخذها في الاعتبار عند استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، كالثقة الأساسية في النماذج وشفافيتها، إذ غالباً لا يكون واضحًا كيف تصل نماذج التعلم العميق إلى استنتاجاتها، كما قد تكون النماذج غامضة وغير شفافة للغاية، بالإضافة إلى التحيز الذي يمكن أن يولد نتائج غير مناسبة بل وضارة جدًا، ومدى توافر البيانات الصحيحة وأمنها، وحماية الخصوصية، والأبعاد الأخلاقية، والبنية التحتية. وكل هذه التحديات تجسد مزيجًا من الأمور التقنية والمبادئ الأخلاقية ومنظومات القيم، ما يتطلب -لاسيما للدول النامية- حوارًا مجتمعيًا شفافًا، يستهدف بناء ثقافة مجتمعية عامة بشأن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وحدود الاستفادة منه، والتعامل مع نتائجه غير المقصودة بالنسبة لأهداف التنمية الشاملة.
ثانيًا: نماذج لدول نامية واقتصادات ناشئة
مع انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي عالميًا، اهتمت الكثير من الدول النامية بإعداد استراتيجيات خاصة لتنظيم استخدام تلك التطبيقات في القطاعات المختلفة، ووفقًا لإحصاءات الاتحاد الدولى للاتصالات فقد ارتفع عدد الدول التى أعدت تلك الاستراتيجيات من 18 دولة في العام 2019 إلى 49 دولة فى العام 2021، مما يؤشر إلى أن مراهنة الدول النامية والاقتصادات الناشئة على الذكاء الاصطناعي لأغراض تنموية بات اتجاهًا متصاعدًا، مع الأخذ فى الاعتبار أن عملية التنظيم ووضع الأسس وتحديد السياسات هى مجرد خطوة أولى رئيسية، يتطلب تحقيقها الكثير من الخطوات العملية فى التعليم والصناعة والبحث العلمى والبنية التحتية للاتصالات. ما يعنى أن العوائد التنموية الكبرى للدول النامية ستظل بحاجة إلى بعض الوقت لكى تحقق أهدافها، كما أن هدف سد الفجوة مع الدول الكبرى جزئيًا على الأقل لن يتحقق إلا بعد مدى زمنى بعيد.
ووفقًا لتوقعات مراكز الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات، فإن قطاع التكنولوجيا الذكية وبعد احتواء تداعيات وباء كوفيد 19، بات مؤهلاً لتحقيق ازدهار كبير في السنوات المقبلة، وستحقق منطقة الشرق الأوسط 2 % من الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، من إجمالى استثمارات متوقعة فى حدود 100 مليار دولار أمريكى. وتبرز الإمارات العربية فى مقدمة الدول التى تستحوذ على نسبة عالية فى نمو الذكاء الاصطناعي، ما يمثّل 13.6 % من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030. ويلاحظ أن الكثير من الدول الإفريقية باتت حريصة على إنشاء العديد من مراكز البيانات وتوفير بيئة آمنة رقميًا. وتعد مصر من بين الدول التي أحرزت تحولات لافتة مع تقدمها 55 مركزًا في مؤشر جاهزية الحكومة للذكاء الاصطناعي عام 2020. كما تهتم كل من قطر والسعودية بتحقيق قفزات رقمية وبناء مجتمع أعمال رقمي، وتلعب شركات الاتصالات فيهما دورًا بارزًا فى هذا السياق.
على الصعيد العملي، ثمة تجارب ومبادرات تمت فى عدد من البلدان النامية والناشئة، حاولت الاستفادة من بعض التطبيقات المتاحة، أو تلك التى تم ابتكارها من قبل شركات أو مؤسسات محلية بهدف دعم قطاع معين، أو حل مشكلات بعينها. ففى نيبال استخدمت برامج التعلم الآلى لرسم خرائط المناطق التى تعرضت للزلازل بهدف تحديد احتياجات الإعمار، مما وفر تمويلاً وجهودًا كبرى كانت تبذل بالطرق التقليدية. وساعد تطبيق لإحدى شركات التكنولوجيا الناشئة في «وادى السليكون» الحكومة الرواندية منذ أكتوبر 2016، لتوفير الإمدادات الطبية بالطائرات المسيرة إلى المناطق القروية النائية فى وقت محدود، مما أسهم فى تحسين الرعاية الصحية لسكان تلك المناطق. وتقوم إحدى المنظمات الهندية غير الربحية، بتمويل عدة مشروعات لتطبيقات الذكاء الاصطناعى لمساعدة المزارعين على مكافحة الآفات الزراعية لاسيما مزارعي القطن، واستخدام الهواتف المحمولة المزودة بتقنية الرؤية الحاسوبية لفحص الأطفال حديثي الولادة منخفضي الوزن، وتطبيقات أخرى للمساعدة فى معالجة مرض السل، وتحديد منسوب الخطر في النطاقات الجغرافية المختلفة بصورة أكثر دقة وأسرع زمنيًا.
ومن خلال تعاون بين منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” وإحدى الشركات الناشة فى كينيا تم تطوير برنامج لقياس مستوى سوء التغذية لدى الأطفال دون سن الخامسة باستخدام الصور والتعرف على الوجه من خلال الكمبيوتر، كما تم تطبيقه على البالغين وأُثبت جدواه. ويشارك الاتحاد الدولى للاتصالات فى دعم العديد من مبادرات الذكاء الاصطناعي الخاصة بتوفير الخدمات الصحية في البلدان النامية، ومنها التعاون مع وزارة الصحة والعمل الاجتماعي في السنغال، وبدعم من منظمة الصحة العالمية لاختبار تجريبي لتطبيق ذكي بالكشف التلقائي عن اعتلال الشبكية بسبب مرض السكري، وتشخيص حجم الاعتلال من خلال الصور الرقمية لشبكية العين، مما ييسر طرق العلاج. كما يتم تطبيق الذكاء الاصطناعي لمساعدة الأطباء في تشخيص سرطان عنق الرحم وغيره من العيوب بشكل صحيح في دول عديدة كالهند.
وفى غانا تبرز جهود شركة برمجيات اجتماعية تعنى بتحسين الزراعة ومساعدة المزارعين ليكونوا رواد أعمال ناجحين، من خلال ربطهم عبر رسائل نصية باللغات المحلية بواسطة الهواتف المحمولة، بالأسواق وجهات التمويل وتوفير نصائح حول أساليب الزراعة الحديثة والمعدات المناسبة والتقنيات الجديدة. وتعمل الشركة الآن فى أكثر من بلد إفريقي، كالكاميرون وملاوي ونيجيريا وسيراليون، ويستفيد من التطبيق أكثر من مائتي ألف مزارع فى تلك البلدان. كما توجد مبادرات فى المكسيك وبيرو لاستخدام الذكاء الاصطناعي فى تحسين الإنتاجية الزراعية من خلال تقليل النفايات واستخدام أساليب الزراعة الدقيقة. وفي سياق الاستجابة للكوارث، فقد استخدم تطبيق «الواتس أب» في غرب افريقيا خلال تفشي وباء الإيبولا 2014، كوسيلة لتشخيص الأعراض ونشر البيانات لتجنب الإصابة.
ثالثًا: الرؤية المصرية.. من الاستراتيجية الرقمية إلى التطبيق الشامل
تشير الأمثلة السابقة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في عدد من البلدان النامية أنها تُطبق بصورة جزئية، وفي أنشطة فرعية ذات أهمية خاصة لمستخدميها وأصحاب المصلحة، وذات صلة بتحسين الأداء جزئيًا، وتوفير الجهد وخفض التكلفة، والوصول ببعض الخدمات إلى فئات لم تكن تحظى -لأسباب جغرافية- بتلك الخدمات لاسيما في مجال الرعاية الصحية.
وبالنظر إلى الجهود المصرية، يتضح أن الرؤية الحاكمة تركز على بناء نموذج رقمي يدير أوجه الحياة المختلفة، ويحقق نقلة نوعية في الأداء الحكومي من جانب، وفي تحقيق العديد من متطلبات وشروط التنمية الشاملة من جانب آخر، وتحسين جودة الحياة للمصريين من جانب ثالث.
ووفقًا لبيانات مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، من المتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي بنسبة 7 % في الناتج المحلي الإجمالي لمصر بحلول عام 2030. وتعمل وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على رؤية لبناء صناعة ذكاء اصطناعي في مصر منذ عام 2019، وتم إنشاء «المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي» لوضع اللوائح الخاصة بهذا القطاع، والمساهمة في وضع التشريعات المناسبة.
وتركز الرؤية المصرية لترسيخ مجتمع رقمي على ثلاثة محاور أساسية: أولها، التحول الرقمي، وثانيها، تنمية المهارات والقدرات الرقمية، وثالثها، تحفيز الإبداع والعمل الخلاق الرقمي. وتعتمد هذه المحاور على أسس مهمة، وهي: تطوير البنية التحتية الرقمية، وتوفير الإطار التشريعي التنظيمي اللازم لحوكمة المنظومة؛ حيث تُعد من المتطلبات المتفق عليها عالميًا، والتي تعكس مدى اهتمام الدولة بتطبيق الذكاء الاصطناعي في الجهاز الإدارى للدولة، وفي إعداد المجتمع ككل للتحول الرقمى. أما القطاعات ذات الأولوية فهي: الزراعة، البيئة، وإدارة المياه، والرعاية الصحية، ومعالجة اللغة الطبيعية العربية، والتخطيط الاقتصادي، والتصنيع، وإدارة البنية التحتية.
وقد اهتمت مصر بإنشاء العديد من المدن الجديدة كمدن ذكية تستخدم الذكاء الاصطناعي في كافة أنشطتها الحياتية والاقتصادية، كما تقوم بعض كبريات الشركات العقارية بإنشاء وإدارة مدن ذكية تطبق آخر مستحدثات الذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع أن تستقطب هذه النوعية من المدن نوعية معينة من فئات المجتمع المؤهلة لدفع تكلفة الحياة ذات التطبيقات الذكية الشاملة. ويمتد التحول الرقمي إلى العديد من أعمال وأنشطة القطاع الخاص، ومن أهم القطاعات التي تبذل جهودًا كبيرة لتبني الذكاء الاصطناعي والابتكار، تبرز قطاعات البنوك والعقارات والتجارة، بالتعاون مع شركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وذلك بهدف ترقية العنصر البشري وزيادة الإنتاج وخفض التكلفة ورفع العوائد.
على الصعيد القومي، تعد العاصمة الإدارية الجديدة أحد أكبر مشروعات التحول الرقمي في مصر، بهدف تحويل الأداء الحكومي من الوسائل التقليدية إلى التقنيات الحديثة المعتمدة على الميكنة وتطبيق الذكاء الاصطناعي. وهي مصممة لكي تكون مدينة ذكية مستدامة، ونموذجًا لتطبيق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في كافة فروعها، من خلال شراكة مع أكبر الشركات المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات، والتي اتفق على أن تنشئ وتدير إحداها -من خلال فرعها في مصر- مركز بيانات ومنصات الحوسبة السحابية الخاصة بالخدمات الذكية بالعاصمة الإدارية. وذلك بالإضافة إلى الجهود التى تقوم بها الحكومة ممثلة في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والمعنية أساسًا بإعداد الجهاز الإداري للتحول الرقمي.
وتقدر تكلفة الشبكات الرقمية المؤمنة بالعاصمة الإدارية الجديدة بحوالي 100 مليار جنيه، تضم شبكة محصنة لا يمكن اختراقها على عمق 15 مترًا تحت الأرض، تضم الخوادم الرئيسية للشبكة الرقمية. ومن ثم تعد العاصمة الإدارية الجديدة أحد أهم الخطوات الهادفة إلى تحويل مصر إلى دولة ذات اقتصاد رقمي قائم على المعرفة، واقتصاد يتوسع في الثورة الصناعية الرابعة، وقادر على تقديم خدمات مميزة للمواطنين والمستثمرين، وهي نموذج يحاكي التجارب العالمية الناجحة للعديد من الدول في تأسيس عواصمها، وأبرزها البرازيل، وكازاخستان، وماليزيا؛ حيث قادت عواصمها الجديدة إلى إعادة تشكيل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه لدول.
ويعد الحي الحكومي بمثابة دولاب عمل الدولة ومحركها الرئيسى، من خلال شبكات اتصالات ومراكز وقواعد بيانات للوزارات، بحيث يشهد أداء الحكومة نقلة نوعية أيضًا، من حيث التواصل والأخذ بالتكنولوجيا، وفي القلب مركز البيانات الموحد، وهو مركز بيانات عملاق يدار بواسطة خاصية الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى سرعة الأداء، وبنسبة خطأ قليلة جدا أقل مما يحدثه العقل البشري والوسائل التقليدية، والهدف الرئيسى يتمثل في رفع كفاءة الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين، وميكنة العمليات الحكومية، وإدماج الذكاء الاصطناعي في دورة صنع القرار لرفع الكفاءة وزيادة الشفافية. وقد أدت الاستثمارات الكبيرة لرفع كفاءة البنية التحتية للمعلومات، إلى تحسين جودة خدمات الإنترنت في مصر ومضاعفة متوسط السرعة للإنترنت الثابت لأكثر من 9 أضعاف.
وتقوم وزارة الاتصالات بدور رئيسي في تنمية القدرات الرقمية للعاملين بالجهاز الإداري للدولة سواء المنتقلين للعاصمة الإدارية الجديدة أو غير المنتقلين، من خلال عدة محاور، أبرزها: تنمية الثقافة الرقمية، والمهارات الرقمية، وتنمية مهارات العاملين بوحدات نظم المعلومات والتحول الرقمي. ويمزج البرنامج بين محورين رئيسيين، وهما، تعزيز الثقافة الرقمية للمجتمع، والاعتماد على الموارد البشرية المؤهلة أكثر من الأدوات المستخدمة. وتعمل وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على ربط 32500 مبنى حكومى بشبكة الألياف الضوئية.
والمستهدف أن تكون العاصمة الإدارية مركزًا لكل جهود الدولة المصرية للتحول الرقمي، وتنمية المهارات والقدرات الرقمية، وتحفيز الإبداع الرقمي في بيئة ذكية، متكاملة، ومتجانسة، إضافة إلى أنها تتضمن «نظام أيكولوجي» يضم شراكة راسخة بين جميع أصحاب المصلحة لخدمة أهداف التنمية المستدامة وخدمة المشروع الوطني الأكبر لتحقيق مصر الرقمية، كأحد أهم أهداف استراتيجية التنمية الشاملة 2030. واستنادًا إلى تلك الجهود، تقدمت مصر في الترتيب العالمي لـ “جاهزية الحكومة للذكاء الاصطناعي” خلال العام 2021 من المركز 111 إلى المركز 56 على مستوى العالم.
وارتباطًا بمقومات التحول الرقمي، ثمة تركيز على إعداد الكوادر المؤهلة من خلال مؤسسات تعليمية متخصصة؛ حيث تم إنشاء العديد من الكليات والجامعات التي توفر التخصصات التكنولوجية الجديدة التي يحتاجها سوق العمل فى مجال الذكاء الاصطناعي. كما تم البدء في المرحلة الأولى من ميكنة الامتحانات لكافة كليات القطاع الصحي (الطب، الأسنان، الصيدلة، العلاج الطبيعي، التمريض)، والانتهاء من 40 % من كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويجري إعداد البنية التحتية للجامعات الحكومية لتكون مؤهلة لهذا النوع من الامتحانات المميكنة، بهدف تجاوز الثغرات التي تحيط بنظم الامتحان التقليدية.
من مجمل ما سبق، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة بات بمثابة خيارًا حتميًا للدول النامية للخروج من دائرة التخلف والتهميش الاقتصادي وتحقيق متطلبات التنمية المستدامة. ومع ذلك مازال هناك العديد من التحديات والقيود التي يتوجب التغلب عليها مسبقًا، وتطبيق جملة من السياسات لتجهيز البلاد للثقافة الرقمية كرؤية استراتيجية شاملة تسهم في دفع المجتمع لتقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتعامل مع تداعياته سلبًا وايجابًا.
وعلى الرغم من تطبيق العديد من المبادرات في العديد من البلدان النامية والاقتصادات الناشئة، حيث تم التركيز على تحسين الأداء القطاعي بغرض تقليل التكلفة في مجالات بعينها، وتحسين الرعاية الصحية في بعض الفروع، ومد الخدمات إلى الفئات المحرومة، ما يعكس إدراك العديد من الحكومات بأهمية توظيف الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهداف التنمية الشاملة، إلا إنه مازال مطلوبًا الكثير من الجهد والتمويل والشراكة مع الشركات الكبرى المتخصصة في هذا المجال، والتعامل مع الذكاء الاصطناعي كمنظومة تنموية شاملة، وليست تطبيقات منفردة.
ويتضح من مجمل جهود الدولة المصرية أن هدف بناء مجتمع واقتصاد رقمي شامل يعتمد الذكاء الاصطناعي، مهما كانت التكلفة المالية، يُعد هدفًا مركزيًا غير قابل للنقاش، باعتباره يمثل الأساس الذي ستبنى عليه حياة متقدمة ذات شفافية أصيلة لكل المصريين.