د. محمد فايز فرحات

مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

رغم وجود اتجاه دافع بقوة عن المنظمات الأممية (عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة) باعتبارها السقف العملي المُمْكِن لتجسيد فكرة "الحكومة العالمية"، لكن هذا لم يمنع ظهور المنظمات الإقليمية باعتبارها الإطار الأنسب للتعامل مع الخصوصيات الإقليمية (الجغرافية، أو الأمنية، أو الثقافية.. إلخ)، الأمر الذي أسس لوجود العديد من المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الوحدة الإفريقية ثم الاتحاد الإفريقي، والآسيان، وجامعة الدول العربية، وغيرها. وقد حققت هذه التجارب الإقليمية مستويات مختلفة من النجاح والفعالية في تحقيق طموحات أعضائها. هذا التباين عاد إلى عوامل عدة، تعلق بعضها بطبيعة هذه الطموحات ذاتها، وحجم الفجوة بين هذه الطموحات والواقع السياسي والاقتصادي والأمني للدول الأعضاء، وتعلق بعضها الآخر بنمط العلاقة بين الإقليم والنظام العالمي والقوى الكبرى. بمعنى آخر، يمكن القول إن مسار تطور التنظيم الإٍقليمي، ودرجة نجاحه في تحقيق أهدافه التي خططها أعضاؤه في لحظة التأسيس وفي مراحل تطوره، كانت محصلة لتفاعل هذه المتغيرات الثلاث الرئيسية.

جامعة الدول العربية ليست استثناء في مسار تطور المنظمات الإقليمية، فقد تأثر أداء وفعالية الجامعة بهذه المتغيرات الثلاثة. فقد انطلقت الجامعة من مستوى متقدم من الطموح العربي، ومثلت في بعض المراحل ساحة كاشفة عن بعض الأزمات والاستقطابات العربية- العربية. كما تأثرت الجامعة بلا شك بطبيعة العلاقة بين إقليم الشرق الأوسط والنظام العالمي والقوى الكبرى في مراحل مختلفة؛ إذ تفاعلت بعض هذه القوى مع الإقليم بصيغة أقرب إلى كونهم فاعلين رئيسيين في الإقليم بحكم مصالحهم الرئيسية، ما أدى إلى تبني بعضها لسياسات محددة داخل الإقليم كان لها تأثيرها الكبير في عدم الاستقرار (ظاهرة التدخل العسكري بدعوى نشر الديمقراطية مثالاً)، أو الهيمنة على إدارة التحديات الأمنية الرئيسية به (التدخل العسكري لمواجهة ظاهرة الإرهاب مثالاً). وهكذا، عملت الجامعة العربية طوال العقود السابقة في ظل تعقيدات شديدة، ومتعددة المستويات. لكن يُحسب للجامعة، والقوى العربية الرئيسية، نجاحها في الحفاظ على هذا الكيان المهم منذ تأسيسه في عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.

وبجانب الحفاظ على البقاء، والحفاظ على مشروعية الجامعة كإطار عمل جماعي، فإن المتابع لحركة الجامعة العربية خلال السنوات الأخيرة يمكنه الجدال بأن الجامعة تشهد مرحلة جديدة جوهرها إدارة عملية تأقلم متعددة المستويات لزيادة حجم فعاليتها واضطلاعها بتفويض ومسئولية أكبر في إدارة القضايا والمصالح العربية. ويمكن تحديد أبرز مظاهر هذا التحول/ التأقلم في ثلاثة؛ هي: استغلال حالة السيولة الدولية لاستعادة زمام إدارة الإٍقليم، والتأقلم مع التحديات الأمنية غير التقليدية، والعمل على إنهاء الموروث السلبي للربيع العربي.

وقبل الانتقال إلى مناقشة هذه التحولات/ المؤشرات الثلاثة، يجدر التأكيد على ملاحظتين أساسيتين: الأولى، أن نجاح الجامعة في إدارة هذه التحولات الثلاث هي محصلة تفاعل لحركة الأمانة العامة للجامعة في المرحلة الحالية، بقيادة السيد/ أحمد أبو الغيط، جنباً إلى جنب مع إرادات ودبلوماسيات القوى العربية الرئيسية. والثانية، أن هذه التحولات/ المؤشرات لازالت في مراحلها الأولى، ولا يعبر بعضها عن تحولات مكتملة، إذا لازالت تحتاج إلى جهود إضافية لتعزيز وتعظيم عائدات هذه التحولات بما يعزز دور الجامعة كإطار جماعي لإدارة القضايا والمصالح العربية.

إنهاء الموروث السلبي للربيع العربي

أحد الملامح الأساسية للتحركات العربية الجارية خلال السنوات الأخيرة هو السعي لإنهاء الموروث الأمني السلبي لظاهرة الربيع العربي. لقد أنتج هذا "الربيع" العديد من الظواهر التي كبدت الدولة والمجتمعات العربية تكاليف ضخمة، سياسية واقتصادية وأمنية بل وثقافية أيضاً. أبرز هذه التكاليف خطورة تمثل في صعود التنظيمات الإرهابية، وصعود الميليشيات العسكرية والدينية، وانهيار الدولة والدخول في حروب أهلية في بعض الحالات، وما تبع ذلك من تصاعد موجات ضخمة من النازحين واللاجئين، وهيمنة سياسات التدخل الدولي والإقليمي.

لقد نجحت بعض الدول العربية في بدء مسار تصحيحي معاكس لمسار هذا الربيع مثل مصر، وتونس إلى حد ما، عبر مشروع وطني داخلي. وبينما نجح النظام السوري في الحفاظ على الدولة السورية في مواجهة المشروع الإرهابي/ الميليشياوي، لكن تم هذا بثمن باهظ، خاصة إذا حُسب هذا الثمن بحجم النفوذ الدولي والإقليمي داخل سوريا، وأضيفت "تكلفة السيادة"، بجانب التكاليف الاقتصادية والبشرية. وعلى مستوى الإقليم، تضاعف حجم تدخل القوى الكبرى ودول الجوار الإقليمي، بما في ذلك التدخل العسكري، سواء بغطاء أممي أو بدون هذا الغطاء.

الآن يمكن رصد اتجاه/ مشروع عربي تحت عنوان يمكن وصفه بالعمل على إنهاء الموروث السلبي للربيع العربي. المثال الأبرز على هذا التوجه هو الجهود الدبلوماسية العربية الكثيفة التي قادتها مصر والمملكة العربية السعودية والعراق والأردن لإعادة سوريا إلى إطارها العربي، والتي انتهت بقرار وزراء الخارجية العرب في السابع من مايو الحالي (2023) بإنهاء تجميد عضوية سوريا بالجامعة، وصولاً إلى مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في أعمال القمة. الأمر يتجاوز مجرد قرار بإنهاء حالة التجميد تلك، لكنه جزء من عملية عربية لمعالجة العديد من مكونات الإرث الخطير للربيع العربي، خاصة ظواهر الإرهاب، والميليشيات العسكرية، واللاجئين والنازحين، وتجارة المخدرات، حيث مثلت الحالة السورية هنا مثالاً بارزاً لارتباط الربيع العربي بكل هذه الظواهر وغيرها. لكن الأهم أن التوافق السريع على عودة سوريا للجامعة هو تعبير عن إرادة عربية لإنهاء حالة الانقسام العربي بسبب تباين المواقف من التحولات الداخلية، وتراجع "الربيع العربي" كأساس للانقسام والاستقطاب العربي. كذلك، فإن عودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة هو مدخل مهم وضروري أيضاً لمساعدة النظام السوري على تفكيك بؤر النفوذ الدولي والإقليمي داخل سوريا، وهو ما أكده الرئيس بشار الأسد في كلمته في الجلسة الافتتاحية للقمة، التي أكد فيها على الهوية العربية لسوريا. الحالة السورية هي حالة كاشفة عن هذا الاتجاه/ المشروع العربي الجديد لمعالجة هذا الموروث السلبي للربيع العربي.

هذا التوجه العربي لا يعنى بحال من الأحوال أن الدول الرئيسية بالإقليم بات لديها مشروع موازي ضد الديمقراطية أو الحياة الكريمة أو العدالة الاجتماعية، وهي الشعارات التي ارتبطت بالربيع العربي، لكن الوصول إلى تلك الأهداف لا يمكن أن يتم من خلال هدم الدول والمؤسسات أو على حسابها، فالوصول إلى هذه الأهداف له طرق أخرى، وهو ما أعطى رصيداً إضافياً لمنهج التغيير عبر الإصلاح وليس عبر الثورات، وأهمية الحفاظ على الدولة الوطنية العربية، وعدم تحول قضايا الداخل العربي إلى موضوع للاستقطاب، أو هكذا على الأقل كانت هذه هي بعض الدروس العربية بعد خبرة إثنى عشر عاماً مع الربيع العربي.

التأقلم مع التحديات الأمنية غير التقليدية

لفترة طويلة هيمنت قضايا الأمن التقليدي على أجندة جامعة الدول العربية، خاصة القضايا المرتبطة بالصراع العربي- الإسرائيلي، والعلاقات مع دول الجوار الجغرافي غير العربية، وقضية الإرهاب. ثم جاءت الأزمات الداخلية المتتالية بعد عام 2011 (الأزمة الليبية، الأزمة السورية، الأزمة اليمنية، ثم الأزمة السودانية الراهنة) لتفرض نفسها على أجندات القمم العربية المتتالية منذ عام 2011 وحتى الآن. ودون التقليل من أهمية هذه القضايا أو التأسيس لأي استنتاجات بتراجع أهميتها بالنسبة للعالم العربي أو الأمن القومي العربي، اتجهت جامعة الدول العربية خلال السنوات الأخيرة إلى الانفتاح على مناقشة حزمة من القضايا الجديدة، يرتبط بعضها بتحديات أمنية غير تقليدية، ويرتبط بعضها الآخر بتطوير خطاب جديد تجاه قوى الجوار غير العربي. في هذا السياق، يمكن فهم إفساح المجال أمام مناقشة قضايا مثل الأمن الغذائي العربي، والأمن المائي العربي، وتغير المناخ، والأمن السيبراني، وهي قضايا زادت أهميتها بالنظر إلى عوامل عدة.

لقد فرضت الحرب الروسية- الأوكرانية تحديات عدة على الاقتصادات الوطنية، كان أبرزها قضية الأمن الغذائي، خاصة في ظل تزايد الاهتمام بمفهوم "السيادة الغذائية"، بما يعنيه من حق كل بلد في تقرير سياسته الغذائية، وحقه في تحديد سياساته واستراتيجياته في إنتاج الغذاء وتوزيعه واستهلاكه المستدام، مع احترام ثقافاته ونظمه الخاصة في إدارة موارده الطبيعية ومناطقه الريفية. التمسك بمفهوم "السيادة الغذائية" قد يُعَقِدْ من حدود وفرص الاعتماد على آليات السوق الدولية للحصول على السلع الاستراتيجية، خاصة في ظل الأزمات الدولية المرتبطة بالجوائح والأزمات الدولية، على نحو ما كشفت عنه خبرة جائحة "كوفيد-19"، ثم الحرب الروسية- الأوكرانية. كذلك، فرضت الممارسات المائية السلبية من جانب بعض دول الجوار الجغرافي غير العربية ضد الحقوق المائية العربية، على الجامعة التعاطي مع قضية الأمن المائي العربي باعتبارها بعداً جديداً في مفهوم وسياسات الأمن القومي العربي. من ناحية ثالثة، فإن الدور الذي تلعبه مصر والإمارات في التفاعل مع الجهود الدولية في مجال مكافحة تغير المناخ، خاصة بعد استضافة مصر قمة COP27، والاستضافة المخططة من جانب دولة الإمارات لـCOP28، الأمر الذي يؤسس لدور عربي مهم في هذا المجال.

استغلال حالة السيولة الدولية لاستعادة زمام إدارة الإقليم

كما سبق القول، فإن فعالية المنظمات الإقليمية تتأثر بطبيعة النظام الدولي الراهن، وبطبيعة العلاقة بين الإقليم والنظام العالمي. لقد تأثرت الجامعة العربية بهيمنة نظام الأحادية القطبية منذ بداية تسعينات القرن الماضي، لكن حالة السيولة الراهنة في النظام الدولي تعطي فرصة كبيرة لتوظيف التحولات الدولية لضمان حالة من تعددية الأطراف في الإقليم، وإعادة ضبط العلاقة بين الإقليم والنظام الدولي والقوى الكبرى، بما في ذلك تحجيم مستوى التدخل الدولي في شئون الإٍقليم، وهو ما عبر عنه العديد من القادة العرب في كلماتهم بالجلسة الافتتاحية. لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه العربي يحتاج إلى جهود ضخمة ليس فقط على المستوى الجماعي، لكن على المستوى القُطري أيضاً، إذ من شأن هذه الجهود أن تعزز في التحليل الأخير هذا التوجه العربي المهم. لكن الأهم أيضاً هو وضع سياسات عربية مشتركة وواضحة بشأن القضايا الأساسية التي مثلت فرصة وأساساً للتدخلات الدولية خلال العقد الأخير.

القبول بتنوع المواقف والمصالح العربية

بالإضافة إلى هذه التحولات هنا تحول آخر مهم، هو استعداد الدول العربية للقبول بمبدأ تنوع المواقف والمصالح القائمة فيما بينها بشأن القضايا المهمة. ويمكن الإشارة هنا إلى بعدين رئيسيين في هذا التحول المهم. من ناحية، لم يعد هناك افتراض مسبق من جانب الدول العربية- أو معظمها- بضرورة تبني الدول العربية الأخرى نفس مواقفها بشأن قضية ما أو أزمة ما. الثانية، أن هذا التباين أو التنوع في المواقف والمصالح لا يتحول إلى مواقف صراعية. من ذلك على سبيل المثال توقيع دول عربية اتفاقيات أبراهام دون أن يستتبع ذلك إثارة مشكلات كبيرة داخل العالم العربي. لا يعني ذلك عدم تأثير هذا التنوع على مستوى وحجم التفاعلات العربية- العربية، لكن المهم أنها لم تعد ترتبط بحدوث أزمات عربية حادة كما كان يحدث في مراحل سابقة. هذا التحول جاء محصلة لعدد من العوامل، أبرزها انتشار القوة وتوزعها داخل الإقليم العربي، وتعدد المصالح العربية داخل النظام العالمي ونجاحها القوى العربية الرئيسية في خلق مساحات ودوائر حركة أوسع تتجاوز (جغرافيا) الدائرة العربية المباشرة.

هكذا، فإن القمم الأخيرة للجامعة العربية تعكس مؤشرات على وجود "إرادة عربية" لاستغلال التحولات الراهنة في بنية النظام الدولي، ومراجعة العديد من السياسات العربية، في اتجاه إنهاء ظاهرة الاستقطابات العربية، وإنهاء الموروث السلبي للربيع العربي، وإعادة بناء أجندة العمل العربي المشترك في اتجاه توسيع دور الجامعة في التعاطي مع أبعاد جديدة للأمن القومي العربي، وما فرضته الجوائح والحروب التغييرية من تهديدات أمنية غير تقليدية، وعلى رأسها الأمن المائي والأمن الغذائي، بالإضافة إلى الأمن السيبراني، دون أن يأتي ذلك على حساب القضايا العربية المركزية. هذه "الإرادة الجديدة" هي محصلة لجهود وسياسات دول عربية جرت خلال السنوات الأخيرة. لكن تكريس وتفعيل هذه "الإرادة الجديدة" يتطلب جهوداً عربية ضخمة لتحويلها إلى سياسات عربية جماعية فعلية.