أعلنت جامعة الدول العربية فى 7 مايو 2023، عن قرارها الرسمى بعودة سوريا لشغل مقعدها واستعادة عضويتها فى كافة اجتماعات المجلس، واستئناف مشاركة الوفود السورية فى جميع اجتماعات اللجان والمنظمات والأجهزة التابعة للجامعة. العودة السورية لساحة العمل العربى المشترك جاءت كنتاج طبيعى لمسار من التفاعلات العربية مع النظام السورى بدأ منذ عام 2018، على المستوى الثنائى تارة، ثم على مستوى آليات العمل الجماعية التى تزعمتها كل من مصر والأردن والعراق تارة أخرى، وصولاً إلى مرحلة حلحلة الخلافات الحادة فى الرؤى ووجهات النظر بين السعودية والنظام السورى، بالنظر إلى طبيعة الارتباط السورى بإيران خلال السنوات الماضية، وما نتج عن هذا الارتباط من تأثيرات إقليمية، وهى حلحلة نتجت عن مسارات التهدئة الإقليمية التى أعقبت إعلان السعودية وإيران عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما مؤخراً، على فرضية أن مرونة إقليمية عربية ترأسها السعودية فى مقابل إيران "ربما" تفتح "مجالاً للتغيير" على مستوى ملفات الأزمات العربية التى تنخرط فيها إيران ومن بينها الأزمة السورية. هذا التصور نابع من قناعة تولدت عبر سنوات من التفاعل العربى مع إيران بشأن سوريا تقول بعدم واقعية كسر حالة التحالف الوثيق بين طهران ودمشق الذى ترسخ على مدار السنوات الماضية.
بيان العودة المشروط "توافق لا إجماع"
قرار عودة سوريا للجامعة العربية مهد له اجتماع عمان التشاورى الذى عُقد مطلع مايو الجارى -ومسارات أخرى سابقة عليه- وضم مصر والأردن والعراق والسعودية وسوريا، ذلك على الرغم من اعتراف المشاركين فى الاجتماع بوجود بعض العقبات التى تجعل من قرار عودة سوريا للجامعة خاضعاً لقاعدة "التوافق" بدلاً من قاعدة "الإجماع" فى إشارة إلى استمرارية معارضة بعض الدول لهذه العودة، وهى معارضة لا تقف حائلاً بين العودة السورية للجامعة، لكنها بالطبع ستقف حائلاً أمام "تطبيع" العلاقات بين سوريا وبعض الدول العربية تطبيعاً كاملاً.
هذه الإشكالية تحديداً انعكست بوضوح فى مجريات اجتماع الجامعة الأخير؛ حيث لم يصوت وزراء الخارجية المجتمعون على القرار، وإنما تم الأخذ بقاعدة "التوافق" على قرار العودة مع احتفاظ الدول المعارضة للقرار بحق "توصيف" وربما "تصنيف" علاقتها مع سوريا وتعليقها على مدى استجابة النظام السورى للخطوة النوعية التى قدمتها الجامعة العربية له. ومن ثم جاء البيان حاملاً مضامين تقول بأن العودة "مشروطة" بعدة متطلبات تقوم على مبدأ "الخطوة مقابل الخطوة"؛ وتمثلت أبرز هذه المتطلبات التى تضمنها البيان فى:
1- ضرورة اتخاذ الدولة السورية خطوات "تدريجية" تجاه حل الأزمة السياسية حلاً سلمياً، فى إشارة إلى أن سياسات وآليات تعامل النظام السورى مع أزمته السياسية الداخلية على مدار الأعوام الماضية، وفقاً للحل العسكرى، لم تؤد إلى تغييرات فعلية على مستوى حل الصراع الداخلى، بل أدى هذا السلوك إلى خلق أزمات متعددة كان أبرزها ملايين اللاجئين على حدود العديد من الدول العربية المجاورة كالأردن ولبنان، بما حمل هذه الدول ضغوطاً اقتصادية وأخرى أمنية سببت على مدار سنوات تداعيات داخلية قاسية على أمنها من ناحية، وعلى اقتصادها من ناحية أخرى. ومن ثم أشار القرار مباشرة إلى ضرورة أن تتخذ الحكومة السورية إجراءات لتهيئة البيئة الأمنية والسياسية لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم عودة طوعية، مقابل ضمان استمرار المساعدات الإنسانية العربية لسوريا وضمان تدفقها عبر الحدود، وأيضاً مقابل استمرار الدعم العربى للمشاريع الدولية الخاصة بإرساء الاستقرار، والتعافى المبكر.
2- التأكيد على سيادة سوريا ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، وضرورة خروج القوات الأجنبية منها، وكذلك المليشيات والفصائل المسلحة، والإرهابية. وهنا تبدو إشارة البيان ضمنياً إلى مطالبة الدول المعنية بالأزمة السورية المنخرطة عسكرياً بالانسحاب من الأراضى السورية، دون ذكر لهذه الدول وهى تركيا والولايات المتحدة فضلاً عن الميليشيات التابعة لإيران والداعمة للنظام السورى. ويلاحظ هنا أن ثمة تصورات عربية تضمنتها المبادة الأردنية والسعودية (مبادرات لاورقية) تشير إلى أن مسارات من المباحثات فى سياق التطبيع العربى مع النظام فى دمشق قد تفضى إلى إخراج القوات الأجنبية من سوريا بالتدريج وتحديداً التركية والأمريكية مقابل خطوة نوعية من قبل النظام السورى وإيران تقوم على الحد من نفوذ الميليشيات الإيرانية المسلحة فى سوريا، تمهيداً لتقليص وجودها استناداً إلى حالة التهدئة الإقليمية بين السعودية وإيران، الأمر الذى يشير إلى محاولة توظيف الرياض الملف السورى فى مواجهة إيران على أساس قاعدة تحويله لملف للتعاون الإيجابى، بما قد يمهد لتعاون أكثر إيجابية فى ملف المواجهات الشائك بينهما وهو الملف اليمنى.
3- التأكيد على إطلاق "دور عربى قيادى" جديد يهدف إلى الانخراط فى جهود البحث عن حل سياسى للأزمة السورية بالاستناد لقرارات المرجعيات الدولية فى هذا الشأن وفى مقدمتها القرار رقم 2254، وكذلك استعادة مسار مفاوضات اللجنة الدستورية السورية المشتركة على أن يكون المسار الحاكم لهذا الدور مبنياً على آلية التدرج، مقابل أن تتعهد الدول العربية بالعمل على مستوى تكثيف الاتصالات الدولية بهدف تخفيف العقوبات الغربية والأمريكية المفروضة على دمشق بصورة تدريجية؛ لاسيما المتعلقة بقطاع المصارف والنشاط الاقتصادى فى مجمله. ويدخل فى هذا السياق محفزات عربية اقتصادية لسوريا كمشروع نقل الغاز العربى من مصر والأردن عبر سوريا ثم منها إلى لبنان. بخلاف جملة المشاريع الاقتصادية والاستثمارات التى من المتوقع أن تضخها دول مثل الإمارات والسعودية داخل سوريا.
4- تحمل الدولة السورية مسئوليتها فى ضبط أمن حدودها مع دول الجوار العربية لمنع تهريب المخدرات، فضلاً عن درء خطر الإرهاب وتحركات خلاياه عبر الحدود، وتقليص عبء اللجوء المستمر من قبل السوريين تجاه تلك الدول، مع التزام دمشق بنتائج ومخرجات كافة الاجتماعات التى تمت على هامش هذه العودة والتزامها كذلك بآليات العمل والتنفيذ التى أقرتها هذه الاجتماعات.
5- متابعة تنفيذ ما تم التوصل إليه من توافقات واتفاقيات مع الجانب السورى عبر آلية اللجان الوزارية المشتركة، والمكونة من الأردن والعراق والسعودية ولبنان ومصر، بالإضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، على أن يكون الحوار "مباشراً" بين الحكومة السورية وهذه اللجان بهدف خلق البيئة المواتية لحل الأزمة السورية حلاً سياسياً.
يعبر القرار بمضامينه السابقة عن رغبة عربية فى صياغة رؤية لحل الأزمة السورية سلمياً، وعبر خطوات متدرجة ونوعية لكنها ستكون عملياً موقوفة على الخطوات المقابلة التى سينتهجها النظام السورى. ومن ثم تكون عملية العودة السورية لجامعة الدول العربية –ووفقاً لتصريحات الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط– بداية لمسارات عمل متوالية، وليس نهاية لمرحلة محددة. وبناءً عليه يبدو المناخ العربى مهيئاً فى المرحلة الحالية لاستقبال سياسات سورية تتفاعل مع متطلبات البيان التى يصنفها البعض بـ "الشروط" اللازمة لاستمرارية بقاء مسار التطبيع العربى مع سوريا فى حالة تفاعل ايجابى. وبهذا التطور باتت اجتماعات القمة العربية المرتقبة فى السعودية يوم 19 مايو مفتوحة أمام الحضور السورى، بل ومفتوحة أمام حضور الرئيس السورى نفسه حال قرر المشاركة.
وفقاً لهده المعطيات، تكون العودة السورية للجامعة العربية قد تمت بالتوافق لا بالإجماع ووفقاً لعدة "مقايضات وربما حوافز" عربية تعيد فتح المجال لتعاون عربى سورى مؤداه "جذب سوريا للاندماج مع نظامها الإقليمى العربى على كافة مستويات التعاون به" مقابل أن "تحرص سوريا على معالجة الإشكاليات الخاصة بمسار الحل السياسى لأزمة الصراع الداخلى بها" وأن يكون هذا الحرص ممثلاً فى تهيئة الأجواء الداخلية، والانفتاح على القوى السياسية المعارضة، واتباع مسار سياسي يفضى إلى حل سياسى، وهو ما يتماشى مع رؤية الدول العربية التى تعارض "التطبيع الشامل" أو "الانفتاح غير المشروط" مع النظام السورى وهى؛ قطر والكويت والمغرب، والتى قبلت بعودة النظام لجامعة العربية، لكنها رفضت التطبيع معه، وربطته بـ " التقدم فى الحل السياسى الذى يحقق تطلعات الشعب السورى".
موسكو تؤيد وواشنطن تعارض
رحبت روسيا بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وهو موقف يتسق مع سياستها الداعمة لنظام الأسد، منذ عام 2015، مؤكدة أن عودة سوريا لعمقها العربى من شأنها تحسين أجواء العمل على تجاوز تداعيات الأزمة السورية. وأشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية إلى أن عودة التعاون العربى المشترك الثنائى والجماعى سيؤدى إلى إنعكاسات إيجابية بشأن مسارات إعادة الإعمار فى سوريا، بما يمكن دمشق من تجاوز تداعيات العقوبات الدولية والأمريكية المفروضة عليها.
فى المقابل، اعتبرت واشنطن أن دمشق "لا تستحق" أن تحظى بإعادة العلاقات العربية معها، وفقاً للتطورات التى شهدها مسار التقارب العربى السورى الذى أخذ فى التصاعد منذ عام 2018، معتبرة أن هذا التقارب يمثل "انتصاراً" معنوياً للنظام السورى، فى ظل غياب أى تقدم فعلى من جانبه تجاه حل الأزمة السورية. لكنها فى الوقت نفسه لن تعارض خطوة الشركاء العرب وتتفهمها، ولن تتجه إلى تقيمها إلا فى حالة أن تسفر عن نتائج إيجابية لاسيما فيما يتعلق بتحسين الظروف الإنسانية، وتدشين رؤية سلمية لحل الأزمة مع المعارضة السياسية.
السؤال هنا، أن معارضة دمشق للخطوة متوقعة، لكن ما مدى انعكاساتها على علاقتها بالشركاء العرب؟.
بداية قررت واشنطن رفع وتيرة رفضها لخطوة تقارب الشركاء العرب مع دمشق عبر إعلانها أنها لن تتهاون فى العقوبات المفروضة على النظام السورى والمعروفة بعقوبات قانون قيصر، فضلاً عن التأكيد على ثبات الموقف الأمريكى من النظام السورى دون تغيير، بل ذهبت أبعد من ذلك بإعلانها أن العقوبات لن تستثنى إجراءات إعادة الإعمار، وهو ما يمثل ضربة مباشرة لأحد خطوات المقايضة العربية مع نظام الأسد والمتعلقة بتحسين الأجواء لمسار سياسى من قبل النظام، مقابل خطوة الدفع العربى نحو رفع العقوبات الدولية والأمريكية تدريجياً.
مما سبق يمكن القول إن مسار إعادة العلاقات العربية مع النظام السورى وإن جاء كنتيجة حتمية لتطورات مسارات التقارب بين الجانبين على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أنه قد لا يأتى بنتائج إيجابية سريعة، على الأقل فى الوقت الراهن، ولا يتوقع أن يحدث فروقاً واضحة على أرض الواقع؛ لاسيما فيما يتعلق بالتعامل الإيجابى السورى مع قضايا عودة اللاجئين واستعادة المسار السياسى لحل الأزمة، ويمكن تفسير ذلك الاستنتاج بنتائج الزيارة التى قام بها الرئيس الإيرانى ابراهيم رئيسى لسوريا للمرة الأولى بالتواكب مع مسارات إعادة العلاقات العربية السورية –اجتماع عمان التشاورى– والتى حملت مضامين مزدوجة من قبل النظام السورى ومن قبل ايران فى آن واحد؛ فبالنسبة للنظام السورى بدا خلال الزيارة حرص الرئيس بشار الأسد على توضيح أن عودة بلاده للجامعة العربية والتعاون العربى المشترك لا يعنى أنها بصدد إعادة تقييم أو تقنين علاقتها بإيران باعتبارها علاقة استراتيجية، وأن العودة العربية على العكس تجعله قادراً على أن يكون مدعوما بقوة إقليمية مزدوجة إيرانية وعربية. وبالنسبة لإيران بدا واضحاً من الزيارة أنها وإن كانت ترحب بخطوة التقارب العربى مع دمشق، لكنها فى الوقت نفسه لاتزال تعتبرها إحدى مرتكزات مشروعها الإقليمى بمعناه الواسع. وهنا يبقى السؤال: هل فعلياً يستطيع النظام السورى النجاح فى توظيف الآليتين العربية والإيرانية توظيفاً إيجابياً لصالحه فى مواجهة الغرب والولايات المتحدة، أم لا؟. وتكمن الإجابة هنا فيما ستسفر عنه تطورات المرحلة القادمة من أحداث على مسار الأزمة السورية، ومسار التطبيع العربى مع دمشق.