د. أميرة محمد عبد الحليم

خبيرة الشئون الأفريقية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

على الرغم من حالة التفاؤل التى صاحبت العملية السياسية التى بدأت فى الخامس من ديسمبر 2022 لإخراج السودان من دائرة الجمود السياسي الذى عانى منه الشعب السودانى خلال الفترة الأخيرة، وما تضمنته من محاولات لضم مختلف الأطراف التى لم تنضم إلى الاتفاق الإطاري، ومن بينها عدد من القوى المدنية وكذلك الحركات المسلحة، تمهيداً لتوقيع مسودته النهائية خلال شهر أبريل 2023، إلا أن اندلاع الصراع بين الجيش الوطنى (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) منذ الخامس عشر من أبريل 2023 على خلفية عدم التوافق بينهما على ترتيبات الإصلاح الأمنى والعسكرى المتضمنة فى الاتفاق الإطارى، قد أدى إلى تراجع الآمال بتجاوز مرحلة صعبة نتجت عن الإجراءات الاستثنائية التى تبناها مجلس السيادة الانتقالى فى أكتوبر 2021، ليصبح الشعب السوداني في مواجهة مصير مجهول فى ظل تصاعد الاقتتال بين الجانبين، على نحو يطرح تساؤلات مهمة حول مواقف العديد من القوى الداخلية من الأزمة، وخاصة الحركات المسلحة، حيث تتعدد هذه الحركات وتنتشر فى جميع الأقاليم السودانية.

الحركات المسلحة والصراع الراهن فى السودان

يزخر السودان بمجموعة كبيرة من الحركات المسلحة، إذ لا يحتكر الجيش الوطنى استخدام القوة، حيث تبرز المظالم التاريخية والخلافات حول قضايا التهميش والعنصرية والصراعات على السلطة والثروة فى مناطق عديدة، وتعد هذه المعضلة من أهم أسباب استمرار عوامل عدم الاستقرار وكثرة المطالب الانفصالية التى تضغط بقوة على أفكار التوافق والوحدة الوطنية التى سعى إليها الشعب السودانى عبر ثورته المجيدة.

وكانت فكرة تأسيس جيش وطنى موحد فى السودان تمثل أحد الأهداف التى سعت إلى تحقيقها ثورة ديسمبر 2018، واتخذت خطوات لتحقيق هذا الهدف، حيث تضمن اتفاق جوبا للسلام تأكيداً على دمج هذه الحركات وقوات الدعم السريع ضمن الجيش الوطنى، كما نص الاتفاق الإطارى، الذى جاء عبر مشاورات وورش عمل بين مكوني الحكم (المدنى والعسكرى)، على دمج هذه الحركات وقوات الدعم السريع فى إطار الإصلاح الأمنى والعسكرى، مع التأكيد على أهمية أن تصبح المؤسسة العسكرية مؤسسة احترافية وأن تبتعد عن العمل السياسى، حيث يعد هذا الهدف أحد الأسباب التى قادت إلى الوصول إلى توافق بين عدد من أطراف المكون المدنى والمكون العسكرى خلال الشهور الأخيرة، بعد أن أعلنت المؤسسة العسكرية استعدادها للابتعاد عن العملية السياسية والعودة إلى ثكناتها.

ومع اندلاع المواجهات بين الجيش الوطنى وقوات الدعم السريع التزمت الحركات المسلحة بالحياد ولم تعلن أى حركة دعمها للجيش الوطنى أو لقوات الدعم السريع، حيث يمكن أن يعود هذا الموقف للأسباب التالية:

1- اندلاع الصراع بشكل مفاجئ: على الرغم من تصاعد الخلافات خلال الفترة الأخيرة بين رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، وسعى الطرفين لزيادة وانتشار القوات التابعة له فى بعض المناطق، إلا أن ترتيبات العملية السياسية لم تشهد مشكلات كبيرة إلا عند مناقشة إجراءات الإصلاح الأمنى والعسكرى، لكن الوصول إلى مرحلة المواجهات لم يكن سيناريو مطروحاً، لذلك عزفت الكثير من القوى السياسية والحركات المسلحة عن إبداء رد فعل سريع على هذه الاشتباكات.

2- انخراط بعض الحركات المسلحة ضمن ترتيبات المرحلة الانتقالية: تسعى العديد من الحركات المسلحة إلى الحصول على مكاسب فى السلطة والثروة خلال مرحلة ما بعد البشير، وعلى الرغم من اتجاه بعض الحركات لاستخدام العنف فى أقاليمها، إلا أن ذلك يعود لأسباب قبلية فى المقام الأول، مع استمرار حرص هذه الحركات على المشاركة فى العملية السياسية التى يتم ترتيبها فى البلاد بعد الثورة، وتخشى هذه الحركات من أن المشاركة فى هذا الصراع قد تؤدى إلى فقدانها للمكاسب التى حصلت عليها بعد الثورة.     

فقد وقع مجلس السيادة الانتقالى اتفاق سلام مع عدد من الحركات المسلحة فى الثالث من أكتوبر 2020، حيث ارتكزت مفاوضات جوبا على خمس مسارات، هي: مسار إقليم دارفور (غرباً)، ومسار ولايتي جنوب كردفان (جنوباً) والنيل الأزرق (جنوب شرق)، ومسار شرقي السودان، ومسار شمالي السودان، ومسار وسط السودان، إلا أن العديد من الحركات لا تزال خارج هذا الاتفاق نظراً لعدم قبول بعض الحركات الانضمام للاتفاق أو عدم قبولها  للهيئات الممثلة لمصالحها فى الاتفاق، مما يفاقم من الصراعات القبلية والمناطقية وخاصة فى دارفور وأبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، هذا فضلاً عن مسار شرق الذى يطرح من حين لآخر مزيداً من التوترات، وخلال شهر فبراير الماضى وقعت الحكومة السودانية وحركات مسلحة على صيغة محدثة لتنفيذ اتفاق جوبا للسلام بحضور رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان ورئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وشملت الحركات المسلحة الموقعة على الصيغة الجديدة للاتفاق حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان والجبهة الشعبية للتحرير والعدالة ومؤتمر البجا المعارض[1].

ومع وجود حركات مسلحة رفضت الانضمام إلى اتفاق سلام جوبا، بذلت محاولات عديدة لضم هذه الحركات خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان-الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان فصيل عبد الواحد نور، إلى عملية السلام، وهما أكبر حركتين مسلحتين خارج اتفاق سلام جوبا، كما تم تشكيل ثلاث مجموعات مسلحة فى ديسمبر فى وسط وشرق السودان، حيث ترفض هذه المجموعات اتفاق جوبا للسلام الذى ينتظر أن تتم مراجعته عبر الاتفاق الإطارى[2].   

وقد انضمت بعض الحركات المسلحة إلى المناقشات التى عقدتها ورش العمل لصياغة المسودة النهائية للاتفاق الإطارى الذى نجح المكونان المدنى والعسكرى فى تدشين مبادئه فى الخامس من ديسمبر الماضي (2022)، حيث بذلت جهود مختلفة خلال الفترة الأخيرة لجذب الحركات الرافضة للاتفاق الإطارى، ومن أهم هذه الحركات حركة العدل والمساواة بزعامة جبريل ابراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة منى اركو مناوى، حيث ترفض الحركتان مناقشة اتفاق جوبا لما يمكن أن ينتج عن هذا من إعادة توزيع للسلطة لا يتفق مع مصالح الحركتين.

3- وجود عدد من الحركات المسلحة الداعمة للجيش الوطنى: على الرغم من رفض القوى المدنية الرئيسية وعدد من الحركات المسلحة للإجراءات الاستثائية التى تبناها مجلس السيادة الانتقالى فى أكتوبر 2021، إلا أن هناك بعض الحركات المسلحة التى دعمت المؤسسة العسكرية، ولم ترفض هذه الإجراءات، ومن هذه الحركات: حركة تحرير السودان – قيادة ميناوي، وحركة العدل والمساواة – قيادة جبريل إبراهيم، وكذلك المجلس الأعلى لنظارات البجا بزعامة محمد الأمين ترك، وهذه الحركات ترى أن القوات المسلحة الوطنية تستطيع التصدى لهجمات قوات الدعم السريع.    

https://acleddata.com/acleddatanew/wp-content/uploads/2022/08/SUDAN-Dashboard.png

Source, Sudan Mid-Year Update, Military Factions Enhance Their Power Amid Spreading Violence, https://acleddata.com/10-conflicts-to-worry-about-in-2022/sudan/mid-year-update/

 

تطورات إقليم دارفور على وقع الصراع

ألقت المواجهات المسلحة التى اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع بظلالها على التوترات التى يشهدها إقليم دارفور بصورة مستمرة، حيث تجدد الاقتتال فى ولاية غرب دارفور، التي تعانى من استمرار الصراع بين القبائل، فقد اندلع قتال عنيف بين الجيش والدعم السريع في الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور فى الرابع والعشرين من أبريل 2023، لكنه سرعان ما تحول إلى نزاع أهلي استخدمت فيه أسلحة ثقيلة، وأصبحت تدور معركتان فى الجنينة: المعركة الأولى بين الجيش وقوات الدعم السريع، فى حين تدور الحرب الثانية بين قبائل عربية وقبائل أفريقية على رأسها قبيلة المساليت. فقد شنت مليشيات مسلحة فى السابع والعشرين من أبريل 2023 هجوماً عنيفاً على الجنينة، في تطور جديد للنزاع بين المساليت والقبائل العربية لليوم الرابع على التوالي.

ففى أعقاب الفراغ الأمني الذي خلّفته اشتباكات الجيش والدعم السريع بعد أن نشطت عمليات النهب والسرقات والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم، شهدت الفاشر، في الأيام الأولى لبدء المعارك العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، اشتباكات دامية في أجزاء متفرقة من المدينة راح ضحيتها 61 من المدنيين، قبل أن تنجح وساطة قادها والي شمال دارفور نمر عبد الرحمن وقيادات أهلية في إثناء الطرفين على وقف دائم لإطلاق النار.

ومنذ وقف القتال ظهرت مجموعات مسلحة على ظهر دراجات نارية وسيارات دفع رباعي في أحياء المدينة تقوم بعمليات نهب واسعة والاعتداء على المواطنين، كما هاجمت سجن "شالا" وأطلقت سراح كل النُزلاء بمن فيهم المتهمين في جرائم القتل والإتجار بالمخدرات.

ويتخوف البعض من أن يُساند هؤلاء المقاتلون الجيش حال تجددت الاشتباكات بينه وبين قوات الدعم السريع (RSF) في الفاشر، ليتحول النزاع إلى قبلي على غرار الصراع الذي يُجري في الجنينة بولاية غرب دارفور المجاورة والذى راح ضحيته أكثر من 100 قتيل.

كما تكونت قوة مشتركة من خمس حركات مسلحة بواقع 120 مركبة عسكرية تعمل على تأمين مقار المؤسسات الحكومية والمنظمات الأممية وكل مناطق غرب الفاشر، لتأمين مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور. والحركات المكونة لهذه القوة هي تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والمجلس الإنتقالي الذى يرأسه الهادي إدريس، علاوة على حركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وتجمع قوى تحرير السودان والتحالف السوداني وهى الحركات التى وقعت على اتفاق جوبا للسلام فى أكتوبر 2020. حيث جاءت هذه القوة فى اعقاب احتدام المعارك بين قوات الجانبين فى غرب دارفور، وأكد رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي إن قيادات الحركات المسلحة قررت تحريك قوة عسكرية مشتركة للفصل بين المتحاربين بالتعاون مع السلطات المحلية، وذلك منعاً لتوسع دائرة الانفلات بعد تصاعد المواجهات المسلحة في الخرطوم وامتدادها إلى عدد من المناطق، خاصة دارفور [3].

في النهاية، يبدو أن السودان دخل فى دائرة مفرغة من العنف والاقتتال الذى يسمح بتفجير الأوضاع الأمنية فى العديد من أقاليمه، فى ظل ما تشهده هذه الأقاليم من تصاعد الصراع على السلطة دون الوطنية بين النخب السياسية المحلية المتنافسة والميليشيات، لتأسيس سيطرة محلية على الأرض أو لتأكيد السلطة بالقوة، وهذه الصراعات لا تعتمد على دعم جماعات وهيئات داخلية فقط بل تمتد التعزيزات التى تحصل عليها من الجوار الإقليمى، مما يصعب من احتوائها وتحقيق مطالبها التى لا تكون موحدة أو تعبر عن كافة الجماعات التى تنتمى للإقليم الذى تعيش فيه، مما يخلق دوائر للعنف بصورة مستمرة.

هذا فضلاً عن وجود مواجهات بين الجيش الوطنى وبعض الحركات المسلحة فى السابق، كما أن قوات الدعم السريع حاربت بجوار الجيش أو بمفردها قبائل وحركات مسلحة فى الكثير من المناطق، فهل ستسمح بعض الحركات المسلحة وخاصة التى لم تنضم إلى الاتفاق الإطارى أو إلى اتفاق سلام جوبا، باستخدام مناطقها فى الصراع بين الجانبين كما يحدث فى دارفور، أم أن الأيام القادمة يمكن أن تشهد تصعيداً من جانب عدد من الحركات المسلحة للنأى بمناطقها بعيداً عن الصراع، مما يزيد من تسليح الحركات المسلحة القائمة وتبرز فى إطاره حركات مسلحة جديدة، كما يفتح المجال أمام إزكاء المطالب الانفصالية لبعض المناطق مثل شرق السودان أو إقليم دارفور.

وهنا، لابد من توصيف الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع على نحو أكثر دقة، مع توضيح للأهداف الحقيقية لطرفى الصراع، فهل الطرفان يبحثون عن مكاسب سياسية واقتصادية أكبر خلال المرحلة المقبلة؟ وهل يوافق كل طرف على مشاركة الآخر معه فى المكاسب؟ أم أن الطرفين يديران مباراة صفرية يسعى كل منهما من خلالها لمحو الآخر؟ وهل الطرفان يسمحان بالعودة للعملية السياسية بمشاركة المكون المدنى؟،أم يتصور أيهما أنه سيفوز بالسلطة دون شريك؟ وهل المكون المدني في الحكم سيسمح بمشاركة الجيش أو قوات الدعم السريع فى العملية السياسية؟ أم سيعتبر قادة هذا المكون أن الجرائم التى ارتكبت تطمس أى مشاركة للمكون العسكرى فى تحديد مستقبل السودان، وأخيراً، هل يمكن تدشين عملية سياسية للحكم فى السودان بدون مشاركة الجيش فى ظل وجود هذا الكم الهائل من الحركات المسلحة التى تبلغ وفق بعض التقديرات ما يقرب من 87 حركة مسلحة.

ويعول الكثيرون على الأدوار الإقليمية ومدى تأثيرها على استعادة الاستقرار فى السودان، ودفع طرفى الصراع لتنفيذ الهدنة التى تم اختراقها أكثر من مرة دون مراعاة لما وصل إليه الشعب السودانى من أوضاع إنسانية كارثية.

https://acleddata.com/acleddatanew/wp-content/uploads/2023/03/image1-1.png

Source, Context Assessment..New Political Deal Amid Rising Disorder in Sudan, 3 March 2023, https://acleddata.com/2023/03/03/context-assessment-new-political-deal-amidst-rising-political-disorder-in-sudan/


[1] Sudan Mid-Year Update, Military Factions Enhance Their Power Amid Spreading Violence, https://acleddata.com/10-conflicts-to-worry-about-in-2022/sudan/mid-year-update/

[2] New armed groups emerge in central Sudan, December 18, 2022, https://sudantribune.com/article268405/

[3] Stopping Sudan’s Descent into Full-Blown Civil War,  20 APRIL 2023, https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/sudan/stopping-sudans-descent-full-blown-civil-war