جاءت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2022 إلى حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني لتمثل خطوة جديدة تضاف إلى مجموعة من الخطوات المهمة في إطار بناء نموذج مصري في الانفتاح والإصلاح السياسي. ورغم أن الإقليم قد شهد دعوات إلى حوارات وطنية، لكن ظل للنموذج والحالة المصرية نقاط تمايزها عن الحالات الجارية في الإقليم. وقد نجح مجلس أمناء الحوار الوطني خلال النصف الثاني من العام في إنجاز العديد من الخطوات تمهيدا لبدء الحوار الفعلي خلال العام 2023، بدءا من تجاوز محاولات تسييس الحوار والانتصار لطبيعته الشاملة، من خلال تضمينه القضايا السياسية جنبا إلى جنب مع القضايا الاقتصادية والمجتمعية، وانتهاء بتجاوز الإشكاليات التي واجهته، ومرورا بمأسسة عملية الحوار الوطني نفسها، سواء من خلال فلسفة تأسيس مجلس الأمناء، أو تحديد المرجعيات الحاكمة للحوار، أو اعتماد مجموعة من الوثائق المنظمة لعمل مجلس الأمناء واللجان الفرعية.
جاءت دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى «حوار سياسى حول أولويات العمل الوطنى»، الذى تم التوافق من جانب القوى السياسية على وصفه بـ«الحوار الوطنى»، فى السادس والعشرين من أبريل، وفى أثناء حفل إفطار الأسرة المصرية. ووفقًا للدعوة، سيتم رفع نتائج هذا الحوار إلى رئيس الجمهورية لتحويل التوصيات والمخرجات الناتجة عنه إما إلى سياسات وقرارات تنفيذية، أو إلى مشروعات قوانين، بحسب طبيعة هذه المخرجات.
وقد نتج عن هذه الدعوة بدء نقاش واسع داخل المجتمع المصرى، وبين القوى والتيارات السياسية والفكرية، على منصات الصحافة والإعلام، حول دوافع الدعوة وأهدافها النهائية. كما أثارت الدعوة جدلًا حول القوى التى يجب أو لا يجب أن يشملها الحوار الوطنى، والمرجعيات الأساسية الحاكمة له، وطبيعة القضايا التى يجب أن يشملها، ومعايير تحديد القوى السياسية المشاركة، ومعايير تمثيلها داخل الحوار..، وغيرها من التساؤلات المنهجية والإجرائية.
أولًا: تجاوز محاولات التسييس
كان سؤال لماذا الدعوة إلى الحوار، هو أول الأسئلة المثارة. وقد ذهب البعض إلى ربط دعوة رئيس الجمهورية إلى الحوار الوطنى بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، الناتجة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، على الاقتصاد المصرى، وتأثيراتها المتوقعة على المواطن، على نحو قد يؤثر فى شعبية النظام. ووفق هذا التحليل، فإن الحوار الوطنى قد يمثل خطوة استباقية من جانب النظام لامتصاص الغضب المتوقع فى الشارع من جراء تداعيات الأزمة الاقتصادية. ودعم هؤلاء تفسيرهم بأن الدعوة إلى الحوار جاءت ضمن ثلاثة عشر قرارًا لرئيس الجمهورية، أخذ اثنان منها فقط طابعًا سياسيًا (القرار السادس المتعلق بإعادة تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسى، والقرار الثامن الخاص بالدعوة للحوار السياسى)، بينما غلب الطابع الاقتصادى على التكليفات الأحد عشر الأخرى.
مقابل هذا التفسير الاقتصادى، ركزت بعض أحزاب المعارضة على الترويج لتفسير سياسى، مفاده أن الحوار الوطنى ليس سوى محاولة للخروج من أزمة سياسية يمر بها النظام. وقد انعكس هذا المدخل، فى فهم وتفسير الدعوة إلى الحوار الوطنى، على طريقة تعاطى بعض فصائل المعارضة السياسية مع «الحوار»؛ إذ سعت هذه القوى إلى تكييفه على أنه حوار بين السلطة والمعارضة، أو الموالاة والمعارضة، وأن الهدف النهائى للحوار هو إخراج النظام من أزمة «متصورة». وقد ركز هؤلاء على الطابع السياسى للحوار، وحاولوا قصر أجندته على القضايا السياسية أو جعل هذه القضايا تستحوذ على المساحة الأكبر منها. ودفع هذا التصور البعض إلى محاولة وضع ما سَّموه «ضوابط» لنجاح الحوار، على نحو ما عكسه البيان الصادر عن «الحركة المدنية الديمقراطية» (تضم عدة أحزاب وحركات، هى: الكرامة، والتحالف الشعبى الاشتراكى، والمحافظين، والدستور، والوفاق القومى، والاشتراكى المصرى، والعيش والحرية/ تحت التأسيس، والمصرى الديمقراطى الاجتماعى، ومصر الحرية، والعدل، والإصلاح والتنمية).
وكانت هذه الحركة قد أعلنت فى بيانها، الصادر فى الثامن من مايو، عن قبولها «مبدأ الحوار السياسى مع السلطة، باعتبار أن الحوار هو مسار لاستكشاف فرص التوافق، ومن أجل تحسين شروط الحياة الاجتماعية والسياسية فى الوطن»، و«أنهم لكى يشاركوا فى هذا الحوار، فإنه لابد أن يكون جادًا وحقيقيًا، وأن ينتهى لنتائج عملية توضع مباشرةً موضع التنفيذ، وهو الأمر الذى يستلزم عددًا من الضوابط الإجرائية والموضوعية التى تساعد فى جعله وسيلة لانقاذ الوطن وحل مشكلاته». وبحسب البيان، فقد اشتملت هذه الشروط على أن يكون الحوار تحت مظلة مؤسسة الرئاسة، وأن يجرى بين عدد متساوٍ ممن يمثلون السلطة والمعارضة. وفى سياق هذه الشروط/ الضوابط المسبقة، أولت المعارضة اهتمامًا ملحوظًا بمسألة المحبوسين احتياطيًا. وبينما أشارت إلى هذه القضية على استحياء فى مقدمة بيانها، سالف الذكر، بحسبان ذلك «إشارة لازمة على الجدية فى اعتبار هذا الحوار السياسى مقدمة لفتح صفحة جديدة تليق بمصر العزيزة وشعبها العظيم»، فقد تعامل بيانها، الصادر فى 4 يوليو (اليوم السابق مباشرة على عقد الاجتماع الأول لمجلس أمناء الحوار الوطنى) مع هذه القضية باعتبارها أقرب إلى الشرط المسبق للمشاركة فى الحوار؛ إذ جاء فى البيان: «تؤكد الحركة على أنه ليس من المفترض أو المتفق عليه أن يبدأ الحوار قبل الإفراج عن المحبوسين على ذمة قضايا الرأى».
وهكذا، فقد ظلت هناك محاولة من جانب أحزاب المعارضة الرئيسية لفهم الحوار فى سياق وجود أزمة سياسية، وتكييفه على أنه حوار بين السلطة والمعارضة، وهو ما انعكس فى حرص الحركة المدنية على تحميل مسئولية الوضع الراهن -كما تراه- للسلطة «بكل مكوناتها باعتبارها المسئولة عن صنع السياسات العامة واتخاذ القرارات المهمة وتنفيذها منذ 8 سنوات»، بينما لم تكن المعارضة «جزءًا من تلك السلطة ولا شريكًا لها»، بحسب بيان 8 مايو.
واقع الأمر، إن التفسيرات السابقة ابتعدت عن مغزى وفلسفة «الحوار السياسى»، الذى دعا إليه رئيس الجمهورية. صحيح أنه لا يمكن إنكار تداعيات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، والتى خلقت حالة من اللايقين حول مستقبل الاقتصاد العالمى، لكن هذه ليست المرة الأولى التى يواجه فيها الاقتصاد المصرى تداعيات تحولات دولية أو محلية؛ فقد سبق هذه الأزمة الاقتصادية تطبيق برنامج «الإصلاح الاقتصادى والمالى» فى مصر فى نوفمبر 2016، بالتنسيق مع «صندوق النقد الدولى»، والذى تضمن تحريرًا لسعر الصرف، وأطلق بدوره موجة من التضخم. ثم جاءت جائحة «كوفيد-19»، التى أنتجت تداعيات اقتصادية كبيرة على الاقتصاد المصرى؛ ومع ذلك لم يلجأ النظام فى الحالتين إلى إطلاق مثل هذا الحوار.
من ناحية أخرى، ورغم غلبة القرارات ذات الطابع الاقتصادى على قائمة القرارات الصادرة فى كلمة رئيس الجمهورية فى 26 أبريل 2022، إلا أن هذه القرارات غلب على بعضها التوجيه بتنفيذ «تحولات هيكلية»، خاصة «إطلاق مبادرة دعم وتوطين الصناعات الوطنية للاعتماد على المنتج المحلى وتقليل الواردات، من خلال تعزيز دور القطاع الخاص الوطنى فى توطين العديد من الصناعات الكبرى والمتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر»، ووضع خطة واضحة لخفض الدين العام وعجز الموازنة كنسبة من الدخل القومى على مدار السنوات الأربع القادمة، والنهوض بالبورصة، و«الإعلان عن برنامج لمشاركة القطاع الخاص فى الأصول المملوكة للدولة بمستهدف عشرة مليارات دولار سنويًا لمدة أربع سنوات»، و«قيام الحكومة بالبدء فى طرح حصص من شركات مملوكة للدولة فى البورصة المصرية، ومن ضمنها الشركات المملوكة للقوات المسلحة، وذلك قبل نهاية هذا العام»، الأمر الذى يشير إلى أن نسبة مهمة من هذه القرارات الاقتصادية لا تتعامل مع تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية بقدر ما تمثل جزءًا من خطة متكاملة لتطوير الاقتصاد المصرى.
حقيقة الأمر، إن متابعة تطور الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر، منذ عام 2014 وحتى الآن، تشير إلى أن هناك «نموذجًا» فى التطور الاقتصادى والسياسى المصرى. هذا النموذج تتضح ملامحه مع الوقت، ويجرى وفق أولويات وفلسفة محددة. فى البداية، كان التركيز على أولوية «تثبيت الدولة»، التى تعرضت مؤسساتها لتحديات ضخمة، على خلفية أحداث يناير 2011، ثم فترة نظام الإخوان وحلفائهم، الذين حاولوا فرض مشروعهم السياسى الخاص على الدولة والمجتمع، وما تبع ذلك من موجة إرهاب واسعة عقب إزاحة هذا النظام فى عام 2013. بالتوازى، مع أولوية تثبيت الدولة ومواجهة الإرهاب، كانت هناك أولوية أخرى، هى تسريع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التى اعتمدت على توفير شرطين أساسيين؛ هما: تنمية وتحديث البنية التحتية والمؤسسية، والإصلاح الاقتصادى والمالى الذى بدأ تطبيقه بدءا من نوفمبر 2016.
فى هذا السياق، ركزت الدولة خلال السنوات الثمانى الماضية على حزمة كبيرة من المشروعات القومية التى طالت جميع الأقاليم المصرية ومختلف القطاعات الاقتصادية، جنبًا إلى جنب مع برنامج الإصلاح الاقتصادى والمالى لإنهاء التشوهات التى طالت الاقتصاد المصرى، والتى تراكمت عبر العقود، وإصلاح البيئة التشريعية ذات الصلة. الآن، وبعد إنجاز العديد من الاستحقاقات على مستوى هاتين الأولويتين، ينتقل هذا «النموذج المصرى» إلى ما يمكن وصفه باتخاذ خطوة أخرى إلى الأمام على صعيد الإصلاح السياسى، من خلال الفتح التدريجى للمجال العام، وخلق حالة من الحراك السياسى، فى إطار متوافق عليه بين القوى الوطنية، ومن خلال مراجعة القوانين المنظمة للحياة السياسية، جنبًا إلى جنب مع الانتقال إلى عملية إصلاح هيكلى للبيئة الاقتصادية.
ويمكن طرح مؤشرين مهمين للتأكيد على أن تطور «النموذج المصرى» يسير وفق فلسفة وديناميكية متكاملة بين السياسى والاقتصادى:
المؤشر الأول، أن كلمة رئيس الجمهورية التى تضمنت الدعوة إلى الحوار، تضمنت كذلك التوجيه بمجموعة من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية السابق الإشارة إليها، والتى تشير إما إلى توسيع القاعدة الاقتصادية لعملية التنمية، من حيث الفاعلين المشاركين فى اتجاه توسيع دور القطاع الخاص وإعادة صياغة العلاقة بينه وبين الدولة على نحو ما كشفت عنه وثيقة سياسة ملكية الدولة التى طرحتها الحكومة فى يونيو 2022، أو الاتجاه إلى معالجة بعض الظواهر الناتجة عن السياسات التنموية خلال السنوات الثمانى الماضية، خاصة تلك المتعلقة بعملية تمويل التنمية. فمع قطع عملية التنمية الاقتصادية فى مصر شوطًا مهمًا، ووضع الأسس الضرورية لانطلاقها، من الطبيعى أن تظهر الحاجة إلى تعزيز تلك العملية، ووضع الشروط اللازمة لاستدامتها وحمايتها فى مواجهة التحديات التى خلقتها الأزمات التى ضربت الاقتصاد العالمى، وجميع الاقتصادات الوطنية تقريبًا، بسبب جائحة «كوفيد-19»، ثم الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو ما يعنى فى التحليل الأخير ضرورة وضع أولويات محددة للعمل الوطنى، كما عبر عنه رئيس الجمهورية فى دعوته إلى الحوار.
المؤشر الثانى، أن الدعوة إلى الحوار الوطنى لا تعنى إهمال النظام لقضية الإصلاح السياسى؛ فقد سبق هذه الدعوة اتخاذ عدد من الإجراءات المهمة، منها إعلان «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان» (سبتمبر 2021)، وإلغاء مد حالة الطوارئ فى جميع أنحاء البلاد (25 أكتوبر 2021)، وتفعيل لجنة العفو الرئاسى (26 أبريل 2022)، ما أدى إلى توالى الإفراج عن عدد من المحبوسين احتياطيًا والعفو الرئاسى عن عدد من المحكوم عليهم قبل وأثناء عمل مجلس أمناء الحوار الوطنى (وصل العدد الإجمالى إلى أكثر من ألف شخص بحلول منتصف نوفمبر 2022)، الأمر الذى يشير إلى أن الإصلاح السياسى جزء من مبادرة يقوم بها النظام، وليس محصلة لصراع سياسى بين السلطة والمعارضة، ما يعنى عدم دقة طرح الحوار الوطنى باعتباره خطوة استباقية من جانب النظام لتجنب أزمة سياسية قائمة أو متوقعة، وأن عملية الإصلاح السياسى هى أحد أبعاد تطور «النموذج المصرى» فى التحول السياسى والاقتصادى، حيث يصبح «الحوار الوطنى»، فى هذه الحالة، إطارًا لبناء التوافق على مجموعة من أولويات العمل الوطنى، خلال المرحلة المقبلة، لبناء «دولة ديمقراطية مدنية حديثة تتسع لكل أبنائها وتسعى للسلام والبناء والتنمية»، حسبما جاء فى كلمة رئيس الجمهورية. ذلك أن القضاء على الإرهاب وتفكيك بنيته، وتثبيت مؤسسات الدولة، وقطع شوط معتبر فى عملية التنمية كانت شروطًا ضرورية لنجاح واستدامة عملية التحول بشكل عام. ويعزز هذا التحليل أن الخبرات الدولية، خاصة الآسيوية، سارت -بدرجات مختلفة- على الطريق نفسه.
ثانيًا: مأسسة الحوار الوطنى
إحدى السمات الأساسية التى ميزت «الحوار الوطنى» أنه اكتسب طابعًا مؤسسيًا منهجيًا. وليس المقصود بالطابع المؤسسى هنا تحوله إلى مؤسسة، لكن المقصود هو خضوعه لعدد من القواعد الحاكمة التى ضمنت له قدرًا مهمًا من «المؤسسية». وقد تحققت عملية «المأسسة» تلك، من خلال عدد من الإجراءات، أبرزها ما يلى:
1- التأسيس الذاتى لمجلس أمناء الحوار الوطنى، فقد أخذت عملية تأسيس المجلس ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى هى إعلان «إدارة الحوار الوطنى» -فى 8 يونيو- اختيار الأستاذ/ ضياء رشوان، نقيب الصحفيين ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات، منسقًا عامًا للحوار الوطنى. وقد لقيت هذه الخطوة ترحيبًا واسعًا من جانب القوى السياسية، كما عبر عنه بيان «الحركة المدنية الديمقراطية» الصادر فى 10 يونيو. المرحلة الثانية هى المشاورات التى قام بها المنسق العام مع القوى والتيارات السياسية، والتى انتهت إلى التوافق على 19عضوًا بالمجلس. المرحلة الثالثة، التى جاءت امتدادًا طبيعيًا للمرحلة السابقة، هى تأسيس المجلس لنفسه؛ فقد انحاز المجلس لفلسفة غير تقليدية فى عملية التأسيس، تمثلت فى اعتباره قوة منشئة لنفسه، حيث قام فى أول اجتماع له فى 5 يوليو بإصدار قرار التشكيل والتأسيس. وهذه الفلسفة تتوافق، من ناحية، مع طبيعة عملية التشكيل التى جاءت نتيجة للمشاورات التى قام بها المنسق العام. وتتوافق، من ناحية ثانية، مع فكرة دعوة رئيس الجمهورية للقوى والأطياف السياسية للحوار، ما يجعل مسئولية الحوار هى مسئولية القوى السياسية نفسها المشاركة فيه. كما تتوافق، من ناحية ثالثة، مع طبيعة وفلسفة الحوار باعتباره حوارًا وطنيًا لا يجرى بين سلطة ومعارضة بقدر ما يجرى بين قوى وتيارات وطنية معنية بوضع أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة الراهنة بناء على دعوة السيد رئيس الجمهورية.
2- وضع مرجعيات حاكمة للحوار، فقد انتهى «مجلس الأمناء» فى اجتماعه الأول على التزام الحوار الوطنى بمرجعية تقوم على عنصرين رئيسيين؛ أولهما الالتزام بالدستور المصرى، وثانيهما استبعاد القوى التى مارست العنف أو شاركت فيه أو حرضت عليه. وقد تبع ذلك هجوم شديد من جانب تنظيم الإخوان المصنف فى مصر، وفى عدد من الدول «تنظيمًا إرهابيًا»؛ على الحوار الوطنى، بعد فشل مراهنتهم على الالتحاق بالحوار، خاصة أن بعض أجنحة التنظيم قد أرسلت رسائل غير مباشرة تفيد استعدادها للمشاركة فى الحوار، ربما انطلاقًا من حسابات خاطئة لديهم بأن النظام يمر بأزمة يسعى على أثرها إلى احتوائهم ودمجهم مرة أخرى فى الحياة السياسية.
ولم يقتصر الأمر على رسائل الإخوان، فقد ثار جدل حول هذه المسألة عقب صدور تصريحات عن شخصيات محسوبة على الحركة المدنية الديمقراطية بأنه لا يوجد من حيث المبدأ ما يمنع من مشاركة «الإخوان» أو «بعضهم» فى الحوار، بدعوى أن نص دعوة رئيس الجمهورية إلى الحوار لم تتضمن ما يمنع هذه المشاركة بشرط قبولهم بشرعية السلطة القائمة والدستور، وذلك فى تناقض كامل مع تصنيف الإخوان كتنظيم إرهابى دونما تمييز بين أجنحة محددة دون أخرى داخل التنظيم. بل إن هؤلاء دعوا الإخوان إلى التقدم بطلب المشاركة فى الحوار، وعدم استباق النتائج.
ولقد حسم هذا الغموض، وربما الارتباك، داخل الحركة المدنية الديمقراطية بشأن مشاركة الإخوان فى الحوار، البيان الصادر عن الحركة فى 4 يوليو (اليوم السابق مباشرة على الاجتماع الأول لمجلس أمناء الحوار الوطنى)، الذى أكد على أن «الحركة المدنية التى تأسست من أجل بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، لم ولن تدعو جماعة الإخوان للمشاركة فى الحوار السياسى الذى تمت الدعوة له فى إفطار الأسرة المصرية». ثم جاء قرار مجلس الأمناء فى اجتماعه الأول ليحسم هذه المسألة بشكل نهائى.
3- اعتماد مجموعة من الوثائق المنظمة للحوار الوطنى، جاء وضع مجموعة من الوثائق المنظمة للحوار الوطنى، سواء تلك الخاصة بعمل مجلس الأمناء أو باللجان المختلفة داخل هيكلية الحوار حسبما تم التوافق عليه داخل مجلس الأمناء، ليمثل الخطوة الأهم فى مأسسة الحوار الوطنى وخضوعه لقواعد محددة. شملت هذه الوثائق اللائحة المنظمة لعمل مجلس الأمناء، ومدونة السلوك والأخلاقيات بالحوار الوطنى، ولائحة سير الإجراءات بجلسات اللجان الفرعية، وكتيب الإرشادات لبعض قواعد السلوك فى الحوار الوطنى.
وقد ذهب البعض إلى أن إنجاز هذه الوثائق قد خلق نوعًا من «بقرطة» الحوار الوطنى، واستغرق وقتًا على حساب موعد بدء الحوار الفعلى نفسه داخل اللجان (أكثر من ستة أشهر). لكن واقع الأمر، إن تمسك مجلس الأمناء بمأسسة الحوار يمكن تفسيره بعاملين رئيسيين. أولهما، أن هذه «المأسسة»، بدءًا من تحديد مصدر التأسيس وانتهاء بإقرار القواعد المنظمة للعمل داخل اللجان الفرعية، يجنب الحوار مواجهة أية مشكلات فى أثناء سير عمل اللجان، بالنظر إلى تنوع التوجهات السياسية والفكرية للمشاركين، ليس فقط داخل مجلس الأمناء أو المشاركين فى الحوار داخل اللجان، بل حتى على مستوى المقررين والمقررين المساعدين على مستوى اللجنة الواحدة فى بعض الحالات. ثانيهما، يتعلق بطبيعة الحوار الوطنى باعتباره حوارًا لا يتعامل مع أزمة سياسية، كما هو الحال فى عدد من دول المنطقة، بقدر ما يتعامل مع بناء أولويات محددة للمرحلة المقبلة . هذه الطبيعة الخاصة للحوار الوطني فى مصر أعطت فرصة لمجلس الأمناء للتركيز على «مأسسة» الحوار بشكل يضمن له أكبر درجة ممكنة من النجاح.
وقد وصلت قضية مأسسة الحوار الوطنى إلى مستوى أبعد من ذلك، عندما دعا البعض، من خارج مجلس أمناء الحوار الوطنى، إلى «استمرارية الحوار الوطنى وتحويله إلى كيان مؤسسى مستقل يتبع رئاسة الجمهورية».
ثالثًا: إشكاليات واجهت الحوار الوطنى
واجه الحوار الوطنى فى مصر مجموعة من الإشكاليات التى سعى لتجاوزها، والتى بدأت مباشرة عقب دعوة الرئيس إلى هذا الحوار. نشير فيما يلى إلى أهمها:
الإشكالية الأولى، هى العلاقة بين الحوار ومسألة الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا. فقد حاول البعض خلق علاقة بين الإثنين؛ تراوحت بين صيغة طرح الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا، كشرط مسبق للمشاركة فى الحوار، وصيغة اعتبار الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا أحد الضوابط/ الشروط المهمة لنجاح الحوار. فى هذا السياق، تحدث بيان «الحركة المدنية الديمقراطية»، الصادر فى الثامن من مايو، عما سمَّاه «رفع الظلم عن سجناء الرأى» بحسبانه «إشارة لازمة على الجدية فى اعتبار هذا الحوار السياسى مقدمة لفتح صفحة جديدة تليق بمصر العزيزة وشعبها العظيم»، ولم ترد أى إشارة إلى هذه المسألة عند الحديث عن الضوابط السبعة التى حددها البيان، فى إشارة واضحة على حرص الحركة على عدم طرح هذه المسألة فى صيغة الشرط المسبق لمشاركتها فى الحوار الوطنى. لكن هذا لم يمنع محاولة البعض وضع مسألة الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا فى صيغة الشرط المسبق للمشاركة فى الحوار، لكن ظل التيار الأغلب ينحاز إلى التعامل مع الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا باعتبارها مسألة مهمة تُسهم فى تعزيز أجواء الثقة بين الأطراف المشاركة فى الحوار. وما أن بدأ الحوار الوطنى حتى تم تجاوز هذه المسألة مع الوقت بسبب تعدد قرارات العفو والإفراج.
بشكل عام، فقد نجح «مجلس أمناء الحوار الوطنى» فى وضع مسألة المحبوسين احتياطيًا فى سياقها الصحيح، حيث اكتفى -لأسباب قانونية تتعلق بطبيعة مجلس الأمناء وحدود مسئوليات الحوار الوطنى كعملية- بالترحيب بقرارات الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا من قبل النائب العام، والمطالبة بالمزيد من قرارات العفو الرئاسى التى تمت قبل أو فى أثناء الحوار الوطنى.
وتجدر الإشارة إلى أن الإفراج عن المحبوسين احتياطيًا بدأ قبل دعوة رئيس الجمهورية إلى الحوار، وقد حضر بعض المفرج عنهم، بالفعل، حفل إفطار الأسرة المصرية الذى شهد إطلاق الدعوة. كما استمرت عمليات الإفراج بعد ذلك دونما ربطها بشكل مباشر بعملية الحوار الوطنى، الأمر الذى يشير إلى وجود توجه مستقل لمراجعة قوائم المحبوسين احتياطيًا. بمعنى آخر، فإن التحليل الأدق، هو وجوب النظر إلى هذه المراجعات، جنبًا إلى جنب مع قرار الدعوة إلى الحوار الوطنى، باعتبارهما جزءًا من توجهات جديدة لدى النظام، أكثر من وجود علاقة سببية بين المسألتين، دون أن ينفى ذلك أن الإفراجات أسهمت فى تعزيز أجواء الثقة المتبادلة بين الأطراف المشاركة فى الحوار، وتعزيز الثقة فى الحوار الوطنى نفسه.
الإشكالية الثانية، هى العلاقة بين الحوار الوطنى والسياسات الحكومية؛ فقد شهدت الفترة التالية على بدء اجتماعات «مجلس أمناء الحوار الوطنى» إعلان الحكومة بعض السياسات الاقتصادية والمالية، وكان أبرزها وأهمها تحرير سعر صرف الجنيه المصرى، فى 27 أكتوبر، كجزء من الاتفاق بين «الحكومة المصرية» و«صندوق النقد الدولى». وقد ذهب البعض إلى أنه كان من الضرورى امتناع الحكومة عن تطبيق مثل هذه السياسات حتى انتهاء الحوار الوطنى، بحسبان أن الأخير يتضمن مجموعة من اللجان الاقتصادية ذات الصلة بهذه السياسات. وتكرر الأمر نفسه مع إعلان الحكومة، فى 30 نوفمبر، الموافقة على الصيغة النهائية لوثيقة «سياسة ملكية الدولة» التى سبق إعلانها فى يونيو 2022، تمهيدًا لرفعها إلى رئيس الجمهورية.
والافتراض المطروح -بحسب وجهة النظر تلك- أن لجان الحوار الوطنى ضمن المحور الاقتصادى قد تنتهى إلى اقتراح سياسات بديلة للسياسات الحكومية المطبقة. غير أن هذا الافتراض تجاهل عددًا من الملاحظات؛ أبرزها أن مجلس أمناء الحوار الوطنى -على أهميته- لا يعمل ككيان فوق الحكومة، كما أن المخرجات النهائية للحوار ستأخذ شكل بدائل السياسات المقترحة، ولن تصبح ملزمة إلا بتحولها إلى قرارات تنفيذية، أو سياسات حكومية، أو تشريعات قانونية، ومن ثم ليس من المنطقى تعطيل عمل الحكومة حتى انتهاء الحوار الوطنى، خاصة فى ظل التعقيدات الاقتصادية والمالية التى خلقتها تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية.
الإشكالية الثالثة، أُثيرت بمناسبة تكليف رئيس الجمهورية، فى 8 سبتمبر، الحكومة المصرية بعقد مؤتمر اقتصادى بنهاية الشهر نفسه، بمشاركة المتخصصين والمختلفين فى الرأى، جنبًا إلى جنب مع الحكومة. وامتدادًا لوجهة النظر السابقة حول العلاقة بين الحوار الوطنى والسياسات الاقتصادية الجارى تطبيقها، فقد طرح البعض تساؤلًا حول العلاقة بين الحوار الوطنى والمؤتمر الاقتصادى، خاصة فى ظل وجود مجموعة من اللجان ضمن المحور الاقتصادى داخل الحوار الوطنى. لكن هذه الإشكالية أيضًا تم تجاوزها من خلال انتصار مجلس أمناء الحوار الوطنى لعلاقة التكامل بين المؤتمر والحوار الوطنى. وقد تحقق هذا التكامل بالفعل من خلال عدد من الآليات، شملت مشاركة أعضاء مجلس الأمناء، ومقررى اللجان العامة واللجان الفرعية فى أعمال المؤتمر، وتوجيه المجلس مجموعة من الأسئلة الاقتصادية إلى إدارة المؤتمر، تبعها تكليف رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة بالرد على هذه الأسئلة، حيث تلقى مجلس الأمناء بالفعل ردودًا تفصيلية عقب انتهاء المؤتمر، بحيث تكون جزءًا من مدخلات عمل لجان المحور الاقتصادى. وكان التعبير الأدق عن حالة التكامل بين المؤتمر والحوار الوطنى هو تولى المنسق العام للحوار الوطنى، الأستاذ/ضياء رشوان، إعلان التوصيات النهائية للمؤتمر فى جلسته الختامية فى 25 أكتوبر.
ختامًا، يمكن القول إن فهما أدق للحوار الوطنى يقتضى وضعه فى سياق أوسع يتعلق بتطور «النموذج المصرى» فى التحول بدءًا من عام 2014، أخذًا فى الاعتبار الدروس المهمة لمرحلة الفترة من يناير 2011حتى يوليو 2013، التى أنتجت حالة من الفوضى وعدم الاستقرار إلى حد تهديد هوية الدولة والمجتمع بسبب الخلل فى ترتيب الأولويات، والاختزال المشوه لعملية التحول الديمقراطى فى البلاد فى قضايا فرعية لا تعبر عن توجه حقيقى لبناء ديمقراطية حقيقية مستدامة، تقوم على العلاقة التكاملية مع قضية التنمية باعتبارها القضية الأكثر إلحاحًا.
من ناحية أخرى، وبالإضافة إلى المخرجات النهائية للحوار فى محاوره الثلاثة، التى ستمثل أساسا لبناء أولويات وطنية خلال المرحلة المقبلة؛ فإن الحوار يلعب دورًا لا يقل أهمية فى بناء التوافق بين القوى السياسية المندمجة فيه، وهو ما تحقق بالفعل من خلال جلسات مجلس الأمناء التى مثلت فرصة مهمة للتواصل المباشر بين ممثلين عن تيارات سياسية وفكرية مختلفة؛ كان التوافق فيما بينها هو القاعدة الأساسية التى حكمت عملها خلال مرحلة الإعداد للحوار، بدءًا من التوافق على القواعد المنظمة له، وانتهاء بالتوافق على أجندته.
________________________________