د. هناء عبيد

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية / رئيس تحرير مجلة الديمقراطية السابق

 

سرعت المخاطر والتحديات الاقتصادية العالمية وتداعياتها من وتيرة التململ من هيمنة الدولار، واتجاه العديد من الدول إلى بحث إجراءات واتفاقات تبادلية تقلل من سطوته، فيما شبهه البعض بالثورة ضد الدولار الأمريكى، والتى يعول على أن تقودها الصين أو مجموعة البريكس.

ويعد التسارع فى ذلك الاتجاه مدفوعا بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وما سببته من آثار اقتصادية، فضلا عن توسع الولايات المتحدة وحلفائها فى فرض العقوبات الاقتصادية. يرتبط بذلك أيضا ما تتحمله الدول النامية والأسواق الناشئة من حساسية اقتصاداتها لتغيرات سعر الفائدة الأمريكى ما كبدها خسائر متزايدة فى الفترة الأخيرة.

المؤشرات فى اتجاه التمرد على الدولار كثيرة، منها حرص البنوك المركزية خاصة فى الاقتصادات الناشئة والدول النامية على شراء الذهب كاحتياطى استراتيجى على حساب الدولار، حيث تشير التقديرات إلى أن البنوك المركزية أصبحت تشكل أكثر من ثلث الطلب العالمى الشهرى على الذهب، وتشتريه بمعدلات لم يسبق أن تحققت منذ خمسينيات القرن الماضى. ومنها كذلك إبرام العديد من اتفاقات التبادل التجارى التى تعتمد العملات الوطنية بدلا من تسوية المعاملات عن طريق الدولار الأمريكي.

ومؤخرا أثارت تصريحات الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا أثناء زيارته للصين، والتى انتقد فيها هيمنة الدولار، العديد من التكهنات حول نية وقدرة مجموعة البريكس على تحدى الدولار الأمريكي. فقد صرح دا سيلفا، بلغة مشحونة، بأنه يتساءل مساء كل يوم ما الذى يجعل الدول تعتمد الدولار كعملة تبادل تجارية!وكانت الصين والبرازيل، قد اتفقتا على اعتماد عملتيهما فى المعاملات التجارية البينية، بعد أن كانت تتم عن طريق الدولار كعملة وسيطة، حيث تعد الصين الشريك التجارى الرئيسى للبرازيل، وبلغ حجم التبادل التجارى بينهما العام الماضى نحو 150مليار دولار.

ولم تعد اتفاقات من هذا النوع فريدة فى الآونة الأخيرة، فوفقا للتقديرات، أبرمت الصين اتفاقات شبيهة مع العديد من الدول، وتسعى كذلك إلى التوسع فيما يطلق عليها لبترويوان على غرار البترودولار، والمقصود به تسوية التعاملات النفطية باستخدام اليوان الصينى.

وليست التحركات الصينية فى هذا السياق منفردة، وإن كانت الصين مركز الثقل الاقتصادى فيها. فمنذ عدة أشهر، صدرت تصريحات، منسوبة للرئيس الروسى بوتين، وهى ذات مدلول سياسى بطبيعة الحال، تشير إلى توجه نية دول تجمع البريكس الذى يضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، نحواستخدام عملة احتياط موحدة مبنية على سلة عملات الدول الأعضاء، ومدعومة بغطاء من الذهب أو معدن نفيس. وصرح وزير الخارجية الروسى مطلع العام بأن الفكرة سوف تناقش فى القمة القادمة لمجموعة البريكس فى جنوب أفريقيا فى شهر أغسطس القادم.

ورغم زخم التناولات الإعلامية لمسألة التمرد على الدولار، ما زال التيار الرئيسى فى التحليلات الاقتصادية يرى أن الأمر ليس بهذه السهولة، وتكتنفه العديد من الصعوبات، فالمساعى ليست جديدة، والصعوبات ما زالت قائمة، والبديل الجاهز غير متوافر. فالدولار لا تدعمه القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية فقط، وإنما قدر غير قليل من الثقة فى المؤسسات الأمريكية وشفافية عملها واستقرار قواعدها. ويتشكك البعض كذلك فى الرغبة الفعلية للصين فى أن يحل اليوان محل الدولار، على الأقل فى المدى القريب، بسبب حجم المصالح المتبادلة بين البلدين، وطبيعة عمل اقتصاد كل منهما والتى بنيت عليها سنوات من الاعتماد المتبادل.

ولكن الاستغراق فى تفاصيل المشهد، أحيانا ما يغيب الصورة الكلية، فأيا ما كانت حدود القدرة الحالية على كسر احتكار الدولار من قبل الصين أو دول البريكس، فإن تواتر التحديات الرمزية واتساع دائرتها، يعكس تزايد المكانة الاقتصادية لتلك القوى، ويؤشر كذلك على احتمالات أكبر لتحديها القواعد التى ظلت متوائمة معها حتى وقت قريب.

فاليوم أصبح الحضور الاقتصادى والمعنوى لهذه القوى أكثر وضوحا، وتقدر حصتها الإجمالية من الناتج المحلى العالمى 31.5٪ بزيادة طفيفة عن نسبة مجموعة السبع الصناعية، فى اتجاه لتحرك مركز الثقل الاقتصادى فى العالم لصالحها. أضف إلى ذلك تنامى وضع الصين كمانح دولى، بل كبديل أيديولوجى فى مجال التنمية تحت مسمى توافق بكين الذى يصيغه البعض كمنافس لتوافق واشنطن.

فقبل عدة سنوات، كانت تلك القوى الصاعدة تطمح فقط فى الحصول على قوة تصويتية وتمثيل مناسب فى المؤسسات المالية الدولية بما يعكس حجمها من الاقتصاد العالمى، وأصبحت اليوم أكثر تعبيرا عن رغبتها فى قواعد تمثل ثقلها وتلبى مصالحها، وقد تصبح نواة لمثل هذا التمرد!

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 3 مايو 2023.