* المقال منشور ضمن العدد رقم 104 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، أبريل 2022.
تعد قضية التغيرات المناخية بصفة خاصة، والمشكلات البيئية على اتساعها من أكبر التحديات التي يتعين على الحكومات، وكذلك المجتمع الدولي التعامل معها بجدية، والبحث عن حلول تتسم بالتخطيط وحسابات المستقبل، والاستدامة. ومن هنا جاء مصطلح آليات مواجهة المخاطر البيئية. وقبل مناقشة طبيعة المخاطر، وكيفية مواجهتها، فمن المهم التأكيد على حالة عدم الاتفاق الجزئية التي تتعلق بتصنيف أنواع المخاطر البيئية بالرغم من حالة الاتفاق شبه الكامل على حقيقة تلك المخاطر (من الاستثناءات هنا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهو من أبرز الرافضين لمصطلح تغير المناخ أو اعتباره قضية دولية واقعة). تحاول هذه المقالة الإجابة على سؤال: ما هي المخاطر البيئية؟ وكيف تطورت صياغة آليات مواجهتها؟
أولًا: خريطة المخاطر البيئية
تتنوع تصنيفات المخاطر البيئية وتتسع؛ حيث يمكن تقسيمها إلى: مخاطر نتجت عن «التهاون» في تحمل المسؤوليات البيئية مثل المخاطر المرتبطة بالتلوث، ومخاطر مرتبطة بالظروف الطبيعية والظواهر الكونية، مثل البراكين والزلازل والفيضانات أو غيرها من الكوارث. وفي كلتا الحالتين الطبيعية والبشرية ينتج عن المخاطر البيئية آثار وأضرار تستوجب التعامل معها، وهو ما يُعرف بآليات المواجهة التي تتعدد تصنيفاتها هي الأخرى (انظر الشكل رقم 1).
تُصنف المخاطر البيئية كذلك وفقًا لخصائصها لتشمل: المخاطر البيئية البيولوجية، والكيميائية والفيزيائية. على سبيل المثال، فأن أثر المبيدات والمواد السامة باختلاف أنواعها من المخاطر البيئية الكيميائية. هذا، وتصنف المخاطر البيئية أيضًا إلى: مخاطر تقليدية، وأخرى حديثة؛ أما المخاطر البيئية التقليدية فهي تلك الناتجة عن أساليب معيشية «تقليدية»، وترتبط بالفقر أو تزيد المعاناة منها في البلدان النامية.
أما المخاطر البيئية الحديثة فترتبط بنتائج التطور التكنولوجي المتسارع، وبالتالي تتركز في البلدان الصناعية؛ حيث ينتج التلوث فيها عن النشاط الصناعي (الدول النامية وفقًا لهذا التصنيف تعاني من الاثنين نتيجة العولمة والاعتماد المتبادل). على سبيل المثال، نتيجة للمخاطر البيئية التقليدية توفى 409 ألف شخص بسبب الملاريا في عام2019 ، كان نصيب أفريقيا منهم 94 %. كذلك استخدمت ثلث أسر العالم وقود صلب غير معالج لأغراض الطهي والتدفئة، دون تهوية مناسبة، ولهذا السبب يتوفى أكثر من مليون ونصف شخص سنويًا، معظمهم في إقليم أفريقيا جنوب الصحراء، خاصة في دول غينيا، وسيراليون، وتشاد، وجنوب السودان.
على ضوء ذلك، وفي ظل محورية دور التمويل لتنفيد مشروعات التكيف والمواجهة، يرتبط الحديث عن المخاطر البيئية دائمًا بالحديث عن المنظمات الدولية. على سبيل المثال، ساهمت مجموعة البنك الدولي (85 دولة) خلال السنة المالية (2021 - 2022) بنحو 26 مليار دولار(وفقًا لإدارة مخاطر الكوارث - البنك الدولي، مايو (2022) كي تتمكن تلك الدول من دمج «إدارة مخاطر الكوارث» في التخطيط الإنمائي على المستوى الوطني.
وقد دفع تعقد هذه المخاطر نحو ضرورة دمج البعد البيئي مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، وأيضًا التنسيق بين الجهود الداخلية، والسياسات المطروحة من المنظمات التمويلية الدولية ليس فقط بحثًا عن التمويل، ولكن أيضًا بحثًا عن الممارسات البيئية الجيدة. على سبيل المثال، اعتمد البنك الدولي إطار العمل البيئي والاجتماعي عام 2018 لربط مشروعات التمويل بمجالات العمالة وعدم التمييز والتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه وسلامة المجتمعات المحلية وتعزيز الاستجابة للتغيرات من خلال إدارة المخاطر التكيفية البيئية.
ثانيًا: المخاطر البيئية في مصر
تأتي أهمية دراسة المخاطر البيئية لتسليط الضوء على ما تفرضه من صعوبات تتزايد إن ضربت كارثة بيئية مجموعات بشرية تعاني من أزمات بالفعل. وبالتالي تتضاعف إجراءات المواجهة المطلوبة، كون المخاطر البيئية تهدد الأمن البشري والاستقرار السياسي معًا. على سبيل المثال، تتسبب الأزمات البيئية كالفيضانات في تآكل الأمن المائي والغذائي؛ حيث يبدأ تأثير الدومينو عمله «ويتضخم» الوضع المتردي بالفعل، فتزيد التوترات الاجتماعية والاقتصادية. وإذا نظرنا إلى إقليم أفريقيا جنوب الصحراء كمثال، يتبين أن حوالي 20 % من النزاعات المسلحة المنظمة بدأت بسبب صراع على الموارد الطبيعية (أي ذات خلفية بيئية).
وبالنسبة لخريطة المخاطر البيئية في مصر، يتضح أن مصر تعاني من مخاطر بيئية عدة؛ وذلك لظروف طبيعية، وأخرى بشرية، وهي جزء من أوضاع بيئية إقليمية. وتتمثل أهمية التعامل مع تلك المخاطر في مساسها بقطاعات حيوية كالمياه، لذلك تحركت الدول بيئيًا مركزة على هذا المجال، ومن ذلك تنفيذ مشروعات تطوير الري الحقلي في مصر، وتحديث نظام إدارة المياه الوطني في الأردن، والتوسع في استخدام أنظمة الري بالتنقيط في دول المغرب العربي.
وتتلخص خريطة المخاطر البيئية في مصر في: ندرة المياه، والجفاف، وارتفاع منسوب مياه البحر، والآثار السلبية الأخرى لتغير المناخ، والتي يتوقع أن تؤثر -بشدة- على قطاعات الزراعة، والسياحة، ونظم الحياة في المجتمعات الساحلية، مما دفع نحو التوجه المدروس للاقتصاد الأخضر.
وبعيدًا عن قطاع المياه، تشتمل قائمة المخاطر البيئية في مصر أيضًا على تلوث الهواء، والأخطار الصحية للمبيدات، وأثر الإفراط في استخدام الأسمدة الكيماوية، والمبيدات، والمخلفات الصلبة والنفايات الخطرة، وضعف الوعي البيئي والتلوث الناتج عن النشاط الصناعي.
ثالثًا: آليات ومستويات المواجهة
فيما يخص آليات المواجهة المتبناه أو الجاري تبنيها على المستوى المصري، يمكن القول إن التمويل يُعد العقبة الأساسية لتنفيد آليات المواجهة لما تحمله مشروعاتها من تكلفة ضخمة تزاحم أولويات التنمية المتعددة، إلا إنه بصفة عامة، ومن أجل الوصول إلى الصياغة المثلي لآليات مواجهة المخاطر البيئية فمن الضروري تحقيق الاستخدام الأمثل لجميع المعطيات الداخلية والدولية، قدر الإمكان. ومع تعدد المعطيات تتعدد تقسيمات آليات المواجهة إلى آليات محلية، ودولية أو يتم تقسيمها إلى آليات تقليدية وغير تقليدية أو آليات بيئية مباشرة وغير مباشرة. وهناك الآليات البيئية والشاملة التي تدمج العائد البيئي ضمن عوائد أخرى اقتصادية أو اجتماعية. وفيما يلي يمكن تقسيم آليات المواجهة إلى ثلاثة مستويات: تشريعي، وتخطيطي، وتنفيذي.
1- تشريعيًا
بالنظر إلى قمة النظام القانوني، والمتمثل في الدستور المصري الصادر في عام 2014 والمعدل في عام 2019، يتبين توقفه عند المخاطر البيئية استباقيًا والتركيز على الحقوق البيئية أولًا، يليه الحديث عن المسؤولية البيئية، ومتحدثًا عن البيئة المائية بصفة أساسية. على سبيل المثال، تحدثت (المادة 44) عن حق كل مواطن في التمتع بنهر النيل، ثم تنتقل المادة للحديث عن المسؤولية تجاه النيل بالحديث عن حظر التعدي والإضرار بالبيئة النهرية. أما (المادة 45) فتتحدث عن مسؤولية الدولة، ثم حق المواطن البيئي والتي جاء فيها: «تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدى عليها، أوتلويثها، أواستخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن فى التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون».
توقف الدستور أيضًا عند مصطلحات كالتنمية المستدامة والبيئة بتعريفها الشامل. في (المادة 46)، كان الحديث عن الحق في بيئة صحية سليمة، ثم ينتقل للمسؤولية بالحديث عن أن حمايتها واجب وطني، وأن الدولة ملزمة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها، وعدم الإضرار بها، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة.
يتناول الدستور المخاطر البيئية؛ وذلك في إشارته للتنمية المستدامة، ومصطلحات التنوع البيولوجي والاتفاقيات الدولية البيئية متعددة الأطراف، في (المادة 79) التي ركزت على منظور الحقوق البيئية على النحو التالي: «لكل مواطن الحق فى غذاء صحى وكاف، وماء نظيف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة. كما تكفل السيادة الغذائية بشكل مستدام، وتضمن الحفاظ على التنوع البيولوجى الزراعي وأصناف النباتات المحلية للحفاظ على حقوق الأجيال». وكذلك (المادة 93) التي نصت على: « تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة». وفيما يخص المستوى التالي في التناول تشريعيًا، وهو القانون، يتبين أن البداية كانت بقانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، وحتى قانون رقم 202 لسنة 2020 لتنظيم إدارة المخلفات.
2- تخطيطيًا
شهدت ساحة رسم السياسات العامة المصرية خلال الأعوام القليلة الماضية توجهًا نحو دمج المخاطر البيئية في عملية التخطيط كوسيلة وكغاية أيضًا؛ فهناك مجموعة من السياسات البيئية التي رمت إلى تحقيق أهداف اقتصادية (وسيلة)، ولكن مع التأكيد على أهمية تخفيض معدلات التلوث ورفع جودة الحياة (غاية). فقد أطلقت الحكومة المصرية الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ، وأصدرت أيضًا أول سند أخضر سيادي في المنطقة لتمويل مشاريع في مجال النقل النظيف والإدارة المستدامة للمياه في ضوء استضافتها العام الماضي للدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف لاتفاقية التغير المناخي (COP27) كما قامت مصر أيضًا بتنسيق العمل العالمي بشأن التكيف مع المناخ والتخفيف من حدته والتمويل.
وتعتبر استراتيجية تغير المناخ، التي أعلنتها الحكومة في مايو 2022، مثالًا للتخطيط الشامل للتنمية المستدامة؛ حيث تُعد الاستراتيجية الوطنية الأولى التي تتوافر بشأن تغير المناخ فقط، وعلى مدى يمتد لثلاثة عقود. وبذلك يأتي إعلان الاستراتيجية ليؤكد على عدة اعتبارات: أولها، أن مواجهة تغير المناخ أولوية، ولكن الاهتمام بالبيئة لا يعني إغفال أهمية تحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي. ثانيها، التأكيد على أن الحكومة المصرية ملتزمة بما تم إعلانه من خطط (رؤية مصر 2030) وتقوم بتبني ما يلزم من سياسات واستراتيجيات من أجل تنفيذ أفضل. وثالثها، التأكيد على «شمولية التنمية».
أضف إلى ما سبق، فقد أطلقت الحكومة المصرية كذلك مبادرات ضمن آليات المواجهة في مصر، ومنها مبادرة «اتحضر للأخضر»، كأول مبادرة بيئية رئاسية في مصر؛ حيث تأتي في إطار الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، وتستهدف تغيير السلوك ونشر الوعى البيئى وتحفيز المواطنين، لاسيما الشباب على المشاركة في الحفاظ على البيئة كمحور مهم لمواجهة تغير المناخ وآثاره، وذلك بالارتكاز على ثلاثة محاور: التشجير، والتدوير، والترشيد.
كذلك، تبنت الدولة استراتيجية الطاقة الجديدة والمستدامة للتغذية الكهربائية للمشروعات القومية التنموية التي تعتمد على الرياح والطاقة الشمسية بالتعاون مع شركات القطاع الخاص والخبرات للوصول إلى ما نسبته 42 % من الطاقة من مزيج الطاقة الكهربائية من الطاقة المتجددة مع حلول عام 2035.
3 - تنفيذيًا
لا تنفصل أطر التشريع والتخطيط عن تلك التنفيدية بل تأتي إنعكاسًا لها. وهنا اتجهت الحكومة لتوسيع نطاق الاستثمار في مجال التكيف أو الدخول في شراكات بين القطاعين العام والخاص. وهو ما يستدعي تطوير عدد من القطاعات مثل قطاع التأمين والرقابة التنظيمية، والقطاع المالي من أجل الترويج للأدوات المالية الخضراء، وسندات الكوارث. في الإطار نفسه، تقوم وزارة البيئة باقتراح آليات اقتصادية لتشجيع الأنشطة المختلفة على اتخاذ إجراءات منع التلوث وتقييم متطلبات الكفاءة والمهارة لمستشاري البيئة، وتقدير قيمة تكلفة التعويض البيئي عن الأضرار البيئية.
يضاف إلى ذلك تطور آخر مهم، في عام2020 ، عندما أصبحت مصر أول دولة أفريقية تصدر سندات خضراء سيادية لمساعدة الحكومة لتنويع قاعدة المستثمرين لديونها السيادية. اشتملت الأطر التنفيدية أيضًا على تنوع في الفئات المستهدفة؛ فبخلاف المستثمرين رُسمت سياسات تستهدف عموم الجمهور بغية رفع وعيهم البيئي كأداة استباقية للتعامل مع المخاطر البيئية، ولتحقيق فرص الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة. على سبيل المثال، وضعت وزارة البيئة برامج التثقيف البيئي للمواطنين، كما من المقرر إعداد دليل عن الطاقة والمناخ بهدف التوعية والإيضاح لأهمية التوسع في إنتاج الطاقة الجديدة والمتجددة لمنع تلوث الهواء والماء والمحافظة على المناخ.
في السياق نفسه، أطلقت وزارة البيئة الحملة الوطنية للتوعية بالمخاطر البيئية وجاءت تحت عنوان «رجع الطبيعة لطبيعتها»، وهي تخاطب المواطنين من خلال مقاطع مصورة تتضمن التعريف بالتغيرات المناخية وتأثيرها على حياة الإنسان. كما سبق إطلاق المبادرة إعلان آلية أخرى للمشاركة المجتمعية وهي: «الحوار الوطني للتغيرات المناخية» لإشراك المواطن المصري في العمل المناخي.
ومن ملامح تطور آليات المواجهة حرصت الحكومة في صياغتها لتلك الآليات التركيز على الدمج المؤسسي للبعد البيئي؛ فمثلاً تم اعتماد البرنامج الوطني المصري للإصلاحات الهيكلية، والذي يهدف إلى تعزيز الانتعاش والنمو الأخضر، وخلق فرص عمل لائقة، ويتكامل معه إعداد دليل معايير الاستدامة البيئية حكوميًا لنشر ثقافة الاستدامة وتعزيز تواجد المشروعات الخضراء بالخطة الاستثمارية للدولة، حتى تصل نسبة المشروعات الخضراء المدرجة بخطة العام المالي (2021 / 2022) إلى %30.
يشتمل الإطار التنفيدي كذلك على السياسة الخارجية المصرية التي تم تضمين مواجهة المخاطر البيئية في عملية رسمها. وقد تجلى ذلك خلال استثمار الحكومة لآفاق وفرص التعاون التي أتاحتها قمة شرم الشيخ (COP27) بالتأكيد على دمج البعد البيئي في السياسات العامة لتحقيق مكاسب مستدامة. وعليه، استطاعت توقيع اتفاقيات لتنفيذ مشروعات مناخية بقيمة إجمالية 15 مليار دولار، كما قدمت مصر جهودًا دبلوماسية، وطرحت مبادرتين لتسهيل مبادلة الديون لتغير المناخ وخفض تكلفة الاقتراض الأخضر. بمعنى آخر، جاءت دبلوماسية المؤتمرات لتعبر عن واحدة من آليات المواجهة التي تنطوي على حشد إقليمي ودولي وتعبير عن مصالح قومية يمثل الخطر البيئي محورًا لها.
أضف إلى ما سبق، حرصت الحكومة المصرية على تطوير وتنويع علاقات التعاون مع الدول الأخرى كجزء من آليات المواجهة، وفي إطار دبلوماسية المؤتمرات أيضًا؛ حيث استطاعت الحصول على تمويل بقيمة 500 مليون دولار لتطوير مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من الولايات المتحدة الأمريكية، في حين تم إبرام عدد من الصفقات الخضراء.
تضمنت أيضًا مراحل تطور صياغة آليات مواجهة المخاطر البيئية في مصر التركيز على «استدامة» الحلول ومأسستها، ويتضح هنا الاتفاق المُحرز في ختام مؤتمر (COP27) بشأن صندوق «الخسائر والأضرار» لتعويض الدول النامية عن تغير المناخ. فضلًا عن إعلان البورصة المصرية -على هامش المؤتمر- إنها ستطلق أول سوق طوعي للكربون في أفريقيا بحلول منتصف عام2023 ؛ حيث يسمح السوق للشركات تعويض الانبعاثات عن طريق شراء شهادات الكربون من الشركات ذات البصمة الأصغر.
يمثل التحرك المذكور أحد أمثلة الربط بين أدوات المخاطر البيئية والمالية من ناحية، والتطلع للعب دور دولي وإقليمي أكبر بيئيًا من ناحية أخرى. لذلك تستهدف إدارة البورصة جعل مصر المركز الرئيسي لتداول شهادات الكربون بالقارة الأفريقية؛ بهدف مساعدة الشركات على خفض الانبعاثات وإصدار شهادات الكربون للمشروعات مباشرة، والتأكد من مطابقتها للمعايير الدولية، وإنشاء سوق منظم يسمح للشركات بشراء وبيع أرصدة الكربون المرتبطة بحجم انبعاثاتها؛ وذلك دون إغفال حقيقة حداثة هذا النوع من الاستثمار محليًا ودوليًا، مما سيتطلب اكتساب القدرات الكافية لضمان إدارته حتى يتحقق لمصر الأهداف المرجوة بيئيًا واقتصاديًا.
ختامًا، قفزت الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية في العالم في عام 2020 إلى 210 مليار دولار بعد أن كانت 166 مليار دولار في عام 2019، مع العلم بإن 90 % من هذه المخاطر البيئية، وكذلك %82 من الوفيات الناتجة عنها حدثت في الدول النامية. وهو أمر غير مستغرب؛ لأن الدول التي تعاني «الهشاشة» نتيجة الصراعات تتضاعف فيها آثار المخاطر البيئية في ضوء ضعف القدرات الحكومية فيها، الأمر الذي يقترن بمحدودية الموارد المالية أيضًا. لذلك، من الطبيعي أن نجد الدول النامية لا تزال تركز في تعاملها مع المخاطر البيئية على «رد الفعل» أو مرحلة ما بعد الأزمة. في مقابل إحراز العديد من الدول المتقدمة نجاحات فيما يتعلق بالتأهب والإنذار المبكر؛ وذلك نتيجة لاختلاف الأثر والتكلفة وطبيعة إدارة المخاطر البيئية بين الدول النامية والدول المتقدمة نتيجة للتباين في مستويات الاستعداد.
في السياق نفسه، أضحت آليات المواجهة تتم صياغتها بما يعكس قناعة بأن التعامل مع المخاطر البيئية لم يعد يتعارض والنمو الاقتصادي أو زيادة مصادر الدخل القومي، فحتى الدول الأكبر إنتاجًا للوقود الأحفوري باتت تتبنى سياسات «خضراء»، ومثال على ذلك استراتيجيات التكيف والتقدم التي تبنتها المملكة العربية السعودية؛ حيث أعلنت في عام 2021 اعتزامها الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060؛ وذلك من خلال نهج الاقتصاد الدائري الكربوني، بما يتوافق مع خطط المملكة التنموية.
وعلى الصعيد المصري، ركزت الحكومة على التنقيح المستمر للسياسات البيئية؛ حيث تم تحديث استراتيجية التنمية المستدامة، رؤية مصر2030؛ بغية مراعاة المخاطر البيئية، وتحقيق الانسجام بين الاستراتيجيات المختلفة الخاصة بآليات المواجهة. وقد ساهم التواجد المصري دوليًا في فعاليات بيئية كبرى (أهمها COP27 وقبلها قمة التنوع البيولوجي وغيرهما) في تطوير أدوات المواجهة وعلى رأسها الأداة المالية، ومصادر التمويل؛ أى تنوعت التوجهات ما بين تحركات تقليدية، وغير تقليدية، محلية ودولية، كما تناولت مفاهيم الاستثمار الاستباقي والتكيف والمرونة وتشابك الأثر الاقتصادي والبيئي.
كذلك ساعد التوجه المصري تشريعيًا وتخطيطيًا وتنفيذيًا -وما عكسه من ووضوح وانسجام في الأهداف- على عقد صفقات ناجحة والحصول على تأييد دول كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، ومنظمات دولية في دعم جهود المواجهة، ومن ثم جاء ذلك الدعم ليتكامل مع المخطط والمرسوم داخليًا وليس منشئًا له.
ويمكن القول إن الطريقة التي تتم بها الاستجابة في حالات المخاطر البيئية وكوارثها هي أنه فور وقوع الأزمة، يتحرك المجتمع (المحلي أو الدولي) من أجل حساب عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة، وبقية الحسابات التي قد تكفل تدارك الأضرار التي سببتها تلك الأزمة البيئية؛ فتبدأ «بعد» الأزمة العملية الكاملة للتخطيط والتمويل. بينما في العمل الاستباقي، تُقلب هذه العملية رأسًا على عقب، إذ إنها تنطوي على العمل قبل وقوع تلك «الصدمة». ويرتبط العمل الاستباقي بحماية الأشخاص من الكوارث الناجمة عن المخاطر البيئية قبل وقوعها من خلال محاولات التنبؤ بها.
وإذا انتقلنا للأوضاع على الصعيد المصري يتبين أن حجم الزخم التشريعي فيما يتعلق بتناول المخاطر البيئية، والتي تعود بداياته لأكثر من أربعة عقود، وكذلك التناول الصريح لـ«الحقوق» والمسؤوليات البيئية، يضع مصر في مكانة أكثر تقدمًا بين دول محيطها الإقليمي فيما يتعلق بآليات المواجهة. وبما يسمح لها بتعامل يضمن تخفيض حجم الخسائر من المخاطر البيئية. ومن المتوقع أن يحدث ذلك في المستقبل في ظل التنويع الحادث لأدوات صياغة آليات المواجهة، والتي لم تعد من اختصاص قطاع البيئة فقط، ولكنها اتسعت لتشمل أهداف السياسة الخارجية واستغلال أحداث الاستضافات الكبرى المنظمة في مصر -لأول مرة- لجني صفقات بيئية كبرى لم تعكس فقط الاهتمام بآليات المواجهة، ولكنها عكست أيضًا تطوير أدوات الصياغة تأكيدًا على مفاهيم مهمة كالاستباقية، والاستدامة.