د. محمود محيي الدين

أستاذ الاقتصاد والتمويل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية

 
* المقال منشور ضمن العدد رقم 104 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، أبريل 2022.
للاطلاع وتحميل العدد كاملًا: https://acpss.ahram.org.eg/Esdarat/MalafMasry/104/files/downloads/Mallf-104-April-2023-Final.pdf

 

بعد توالي صدمات كبرى على العالم منذ بداية هذا العقد من القرن الحادي والعشرين كثر وصف الأزمات في كتابات المتابعين والتقارير الدولية المتخصصة؛ فمنها ما أطلق على الأزمات وصف المتعددة والمتراكبة باستخدام مصطلح «بوليكرايسيس» Polycrisis، وهي كلمة مدمجة بجمع كلمتين «بولي» كصفة تعني التعدد، و«كرايسيس» بمعنى أزمة. وبعد الجائحة الصحية التي سببها فيروس كورونا، وما أعقب ذلك من تدهور أمني أحدثته الأزمة الأوكرانية بتداعيات اقتصادية وسياسية، انتشرت كلمة مدمجة أخرى اعتبرت الأكثر تعبيرًا عن الأوضاع، وهي «بيرماكرايسيس» Permacrisis ومعناها «الأزمة المستمرة»، والتي صنفها قاموس كولينز الشهير بأنها الكلمة الأكثر تعبيرًا عن الأوضاع في العام الماضي. وهذه الصفات للأزمات تلخص أحداثًا  وصدمات في عالم تعرض مؤخرًا لخمس مربكات كبرى تشمل تداعيات جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، والتضخم المرتفع في أسعار الطاقة والغذاء، والركود أو التراجع المستمر في النمو الاقتصادي، وتحديات الديون في البلدان النامية والأسواق الناشئة. وثمة أزمة سادسة، وهي الحروب التجارية جراء اتباع إجراءات حمائية متزايدة، وكأن اضطراب سلاسل الإمداد غير كاف لإلحاق الضرر بالتجارة الدولية. ويتزامن مع ذلك كله أزمة سابعة، تتمثل في تغيرات المناخ.

وتعكس هذه الصفات المستجدة للأزمات انزعاجًا لتعددها وتشابكها، وارتباكًا بسبب سرعتها وتعاقبها وتزامن حدوثها، وتصاعدت الشكوى من آثارها الممتدة على اقتصادات ومجتمعات أنهكتها الصدمات المتتابعة بما يتجاوز قدرتها على الصمود واستيعاب هذه الصدمات. ومن ثم، تسعى هذه  المقالة لمناقشة مستجدات هذه الأزمات وبيان آثارها، وتقديم رؤية عملية للتعامل مع تلك المستجدات في إطار من الجاهزية والاستعداد للتوجهات العالمية الجديدة ومربكاتها، وذلك لتجنب تحولها إلى مهددات عظمى.

أولاً: خريطة المخاطر  ومستجداتها

يمكننا الاسترشاد بأحد التقارير التي تتمتع بقدر نسبي من الدقة في الإعداد ومتابعة المستجدات عن المخاطر التي تشكل هذه الأزمات. وهو تقرير «المخاطر المستقبلية» لعام 2022 والذي تصدره سنويًا مؤسسة أكسا للتأمين بالمشاركة مع مجموعة يوراسيا، وهي تعتمد على مسوح واستقصاءات لرأي الخبراء حول أرجاء العالم. وقد اعتمد التقرير في ترتيب المخاطر على استطلاع رأي 4500 من خبراء المخاطر من 58 دولة، بالإضافة إلى عينة من عشرين ألف شخص من 15 دولة. وقد جاء تصنيفها للمخاطر، بالتعاون مع معهد إيبسوس للأبحاث، على النحو الآتي:

1- تغيرات المناخ.

2 - الاضطرابات الجيوسياسية.

3 - مخاطر الأمن السيبراني.

4 - تحديات الطاقة.

5 - الأوبئة والأمراض المعدية.

6 - التوترات الاجتماعية.

7 - مخاطر على الموارد الطبيعية والتنوع البيئي.

8 - مخاطر مالية.

9 - مخاطر الاقتصاد الكلي.

10 - مخاطر السياسات النقدية والمالية.

ونلاحظ أن تغيرات المناخ قد احتلت المرتبة الأولى في مقدمة المخاطر منذ عام 2018 باستثناء عام الجائحة 2020، ثم عادت مخاطر تغيرات المناخ للصدارة على المستوى العالمي. ففي تقرير العام الماضي، كانت المخاطر الخمسة الأولى على الترتيب هي: تغيرات المناخ، ثم أمن المعلومات أو الأمن السيبراني، والجوائح والأمراض المعدية، والمخاطر الجيوسياسية، ومخاطر التذمر الاجتماعي ونشوب صراعات داخلية. أي أن التغيير قد طرأ بسبب الحرب الأوكرانية فرفعت من مرتبة المخاطر الجيوسياسية لتصبح في المرتبة الثانية، ودفعت بمخاطر الطاقة إلى المرتبة الرابعة، هذا مع قدر من التفاوت في الترتيب بين الأقاليم المختلفة حول العالم.

من ناحية أخرى، أعد المنتدى الاقتصادي العالمي تحديثًا لتقريره السنوي عن المخاطر العالمية وفقًا  لتصنيف حدتها إلى خمس مجموعات: اقتصادية، وبيئية، وجيوسياسية، ومجتمعية، وتكنولوجية. وجاء الترتيب من حيث خطورة التأثير في الأجل القصير على النحو الآتي:

1 - أزمة تكاليف المعيشة.

2 - الكوارث الطبيعية والتقلب الحاد في الطقس.

3 - مصادمات جيواقتصادية.

4 - الفشل في تخفيف الانبعاثات الضارة بالمناخ.

5 - تدهور التماسك الاجتماعي مع زيادة حدة الاستقطاب المجتمعي.

6 - تزايد الحوادث البيئية واسعة المدى.

7 - فشل التكيف مع تغيرات المناخ.

8 - زيادة الجرائم السيبرانية.

9 - أزمات في الموارد الطبيعية.

10 - زيادة حالات الهجرة الجماعية الإجبارية.

ثم يتوالى الترتيب للمخاطر وفقًا لحدتها لتستكمل قائمة من 32 من المخاطر المتنوعة. وعند بحث تأثير هذه المخاطر على المدى الطويل سنجد مخاطر المناخ والبيئة والتنوع البيولوجي محتلة للمراكز الأربعة الأولى، ثم تأتي الهجرة الإجبارية في المركز الخامس، ثم تأتي باقي المخاطر تباعًا .

ينبغي علينا اعتبار أن هذه المخاطر لا يجب أن تشكل أزمات بالضرورة إلا إذا أهملت؛ فالمشكلات التي تسببها مثل هذه المخاطر يمكن التعامل معها مبكرًا، ولكنها سرعان ما تتحول لأزمات عند التقاعس مع التصدي لها، وفي حالة الفشل في علاج الأزمة فهي تتفاقم حتى تصبح كارثة بمتطلبات أكثر تكلفة للقضاء عليها.  

ثانيًا: رؤى المواجهة وآليات التعامل

عند النظر للأزمات المركبة أو المتعددة، كل على حدة، فلا يمكن وصف أيٍّ منها بأنها غير متوقعة على الأقل من قبل الجهات المتخصصة فيها. وما يعانيه العالم ما هو إلا نتيجة لما تسلكه الحكومات حيال الأزمات من تجاهل وإنكار في البداية، ثم سوء استعداد وارتباك وهلع أثناء حدوث الأزمات ثم بقليل من الندم وربما بعض الدروس المستفادة بعدها. ونضرب مثلاً بخمس حالات متفرقة لتوضيح كيفية التعامل مع الأزمات، وإن تعددت، وذلك بالتفرقة الواجبة بين مسبباتها ونطاق تأثيرها الأساسي، وإن ارتبطت بقنوات مباشرة وغير مباشرة بغيرها من الأزمات:

الحالة الأولى: الأزمات المالية والمصرفية

رغم الاختلاف في التفاصيل إلا أنه يجمع بين الأزمات المالية تراخٍ في فاعلية الرقابة المالية وتدنيًا في كفاءة الأسواق وتباينًا في وفرة المعلومات، وإفراطًا في زيادة الائتمان والاستدانة تزامنًا مع انخفاض أسعار الفائدة والتيسير النقدي. ثم يعقبها ارتباك مفاجئ مع أي زيادة ملموسة في أسعار الفائدة أو أي تقييد مباشر أو غير مباشر للائتمان. وقد اشتهر هذا بما يُعرف بلحظة «مينسكي»، نسبة للاقتصادي الأمريكي «هايمان مينسكي» الذي وضع تصورًا لكيفية حدوث الفقاعات المالية وانتهائها بأزمات، كالتي شهدناها في أزمة الأسواق الناشئة في التسعينيات والأزمة المالية العالمية في عام 2008، ثم أزمة المصارف الأمريكية مؤخرًا. وهو ما يثير التساؤل حول ما إذا كان هناك فائدة تذكر من دروس الأزمات المالية باتخاذ التدابير الواقية منها فيما يتعلق بتطبيق قواعد الرقابة الحصيفة؟.

الحالة الثانية: الأزمات الصحية

في محاولة للاستفادة من الخبرة الدولية في التعامل مع أزمة وباء الإيبولا التي أصابت دولاً إفريقية بين عامي 2014 و2016، ومن قبلها تفشي فيروس السارس التاجي الذي تفشى في عام 2003 في الصين وجنوب شرقي آسيا. وما ترتب عليهما من فقدان في الأنفس وخسائر اقتصادية كبيرة، ظهر جليًّا أهمية الوقاية من الأمراض المعدية والأوبئة. وقد تشكلت لجنة مستقلة بدعم من منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي لمتابعة مدى الاستعداد للتعامل مع مخاطر الأوبئة.

وقد كان تقرير اللجنة الصادر في عام 2019 تحت عنوان «العالم في خطر» منذرًا بقصور استعدادات المواجهة، وعدم الأخذ بتوصيات مواجهة الأوبئة بعد دروس أوبئة الإنفلونزا السابقة وأزمة الإيبولا. وقد أوصى التقرير، الذي صدر قبل شهور من اندلاع جائحة كورونا، باتخاذ إجراءات محددة للتعامل مع الطوارئ الصحية وتداعياتها. وناشدت اللجنة الحكومات تقديم تقارير بما أنجزته بشأن توفير الموارد المالية وأولويات الإنفاق العام وتطوير النظم الصحية العامة.

كما ركزت التوصيات على أهمية التنسيق بين الأطراف المعنية داخل البلدان المعنية، وكذلك مع المنظمات الإقليمية والدولية لسد فجوات التمويل والتعامل مع قصور الإمكانات الفنية خصوصًا في الدول الأفقر. إذن جاء هذا التقرير محذرًا من قصور تدابير التحوط ضد الأوبئة والجوائح ومفصلاً لمتطلبات المواجهة. إلا أن أزمة الجائحة جاءت كاشفة عن قصور الاستعدادات ومعجلة لما أسفرت عنه من تداعيات صحية واقتصادية واجتماعية ومنشئة لأوضاع جديدة ترتبت عليها، وعلى التعامل معها، بما في ذلك الإفراط في إجراءات التيسير النقدي وارتباك سلاسل الإمداد التجارية، وهي من العوامل التي اجتمعت معًا لتسهم في إحداث تضخم غير مسبوق منذ أربعين عامًا. وبالتالي، هل تم اتخاذ الإجراءات الصحية الاحترازية والوقائية المانعة من تحول الأمراض المعدية إلى أوبئة وجوائح عالمية؟.  

الحالة الثالثة: أزمة الركود التضخمي

كانت هناك تحذيرات متكررة من خطورة الوقوع في حالة مشابهة لما تعرض له العالم في سبعينيات القرن الماضي، ومنها ما أشار إليه كاتب هذه المقالة في عدة إصدارات، ومنها ما جاء في تقرير آفاق مستقبلية الصادر عن مركز معلومات مجلس الوزراء المصري في مطلع العام الماضي:«فإن احتمال تزامن الركود مع التضخم بمعنى المعاناة من ركود تضخمي لن تزيد إلا مع الإخفاق في مواجهة التضخم مبكرًا. فمعدلات النمو رغم انخفاضها وتفاوتها لا تشير إلى ركود عام بقدر أن يكون هناك تباطؤ في بعض القطاعات والأقاليم لكنه لن يكون عميقًا  أو شاملاً لإحداث ركود عالمي. ولكن إذا لم يُحسن التعامل مع التضخم باحتوائه مبكرًا قد تضطر البنوك المركزية المصدرة للعملات الدولية لكبح جماح التضخم بشدة برفع أسعار الفائدة بدرجة أكبر، وبمزيد من التقييد الائتماني بما يؤدي إلى مزيد من التباطؤ وإثارة مخاوف الركود. لذا فإن إجراءات السياسات النقدية والمالية التي سيتم اتخاذها في الشهور الأولى من عام 2022 ستكون في غاية الأهمية لتحديد مسارات التعافي الاقتصادي».

ونعلم ما جرى من تحول مخاوف وقوع الاقتصادات في الركود التضخمي إلى واقع في كثير من البلدان. فهل اتخذت الإجراءات المطلوبة للتصدي للركود التضخمي في توقيتاتها لمنعه أو على الأقل تقليل آثاره؟.

الحالة الرابعة: أزمة المديونية في البلدان النامية

تُعد أكثر الأزمات تأثيرًا على التنمية المستدامة وتمويلها هي تفاقم أزمة المديونية الدولية، وهو ما أشار له الكاتب في كتاب صدر العام الماضي تحت عنوان: «في التقدم: مربكات ومسارات»، محددًا خطورة ما أطلق عليه فخ الوسط والديون الدولية على النحو التالي:

«يُقصد بفخ الوسط ما تتعرض له الدول متوسطة الدخل التي تشكل ثلث اقتصاد العالم، وتضم 75 % من سكانه ويعيش فيها أكثر من 60 % من فقراء العالم. فهذه الدول لا تتمتع بمزايا الدول المتقدمة في الاقتراض الرخيص بالعملات المحلية بلا مخاطر في سعر صرف العملات الدولية المقترض بها. كما أن دول فخ الوسط لا تستفيد من مزايا الاقتراض الرخيص الميسر من المؤسسات التنموية الدولية، كذلك الذي تستفيد منه الدول الأفقر والأقل دخلاً، بافتراض مبالغ فيه بأن لديها قدرات لتدبير احتياجاتها التمويلية من خلال استثمارات القطاع الخاص المحلي والأسواق المالية الدولية. فهناك أهمية للدول الواقعة في فخ الوسط للتحوط المبكر من أثر تغيرات مباغتة في أسعار الفائدة العالمية تستهدف الأوراق المالية قصيرة الأجل لاحتواء توقعات التضخم، وما قد يصحب ذلك من تغيرات في أسعار الصرف وارتفاعات في التكلفة الفعلية للقروض الدولية، خاصة إذا ما تغيرت تصنيفاتها الائتمانية».

فهل تم اتخاذ المسار المانع من الدخول في أزمة مديونية من خلال تبني نهج متكامل لتمويل النمو والتنمية المستدامة؟. ولمعرفة تفاصيل هذا النهج يمكن الاطلاع في هذا الشأن على تقرير «تمويل التنمية المستدامة في مصر» الذي أشرف عليه الكاتب، والصادر في إطار مشروع لجامعة الدول العربية بالتعاون مع منظومة الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.  

الحالة الخامسة: تغيرات المناخ

لقد حققت «قمة شرم الشيخ» نتائج فاقت التوقعات، خصوصًا في ظل الظرف الدولي السياسي والاقتصادي الذي انعقدت في إطاره. وقد منحت القمة آمالاً جديدة لإمكانيات التعاون الدولي يمكن البناء عليها ودفعها قدمًا في المجالات الأربعة للعمل المناخي من تخفيف وتكيف وتمويل فضلاً عن ملف الخسائر والأضرار. ورغم ما تم إنجازه في القمة، فهناك أهمية لإدراك خطورة ما آلت إليه أزمة المناخ؛ فوفقاً للتقرير العلمي الصادر عن الأمم المتحدة، هناك ضرورة لتخفيض الانبعاثات الضارة بما لا يقل عن 50 % بحلول عام 2030. ولسنا -عالميًا- على المسار اللازم لتحقيقه الذي يتطلب تخفيضًا  للانبعاثات الضارة بحوالي 7 % سنويًا  للوصول إلى هدف الحياد الكربوني. فمنذ عام 1980 حتى عام 2021 أفضل ما تم التوصل إليه من تخفيض أقل من ربع الجهد المطلوب. وهو ما يحتم ضرورة مراجعة الالتزام الدولي في تخفيض الانبعاثات الضارة، ويأتي ذلك من خلال التركيز على ما يمكن أن تقوم به الدول المسؤولة عن أكثر من ثلثي الانبعاثات الضارة، وهي تحديدًا الدول الأعضاء في مجموعة العشرين. كما يحتم العمل المناخي إدراك أن تكاليف الوقاية -وإن ارتفعت- تظل أقل كثيرًا من تكاليف علاج التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات إدارة المخاطر أن كل دولار واحد ينفق في مكافحة الكوارث المناخية يوفر 5 دولارات على الأقل من تكاليف العلاج وإدارة الأزمات. وتأكيدًا على ما أشارت إليه الاقتصادية «إستر ديفلو»، الحائزة على جائزة نوبل في الاقتصاد، نطرح تساؤلاً إذا كان من المتفق عليه أن مكافحة تغيرات المناخ تتطلب تمويلاً ملائمًا  وتعاونًا تكنولوجيًا  وتغيرًا في السلوك؛ فهل تحقق أي من هذا على النحو المطلوب؟.

ثالثًا: التوجهات العالمية الجديدة ومربكاتها.. جاهزية الاستعداد والمواجهة

من الخطأ أن يتم التعامل مع الظواهر المشهودة اليوم وتبعاتها برؤية قصيرة المدى بمعزل عن التطورات الاقتصادية والسياسية عالميًا ومدى تأثيرها على كل دولة مستقبلاً. فبسقوط حائط برلين في عام 1989 انتهى عمليًا  ما يسمى بالعالم الثاني بعد تهاوي النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي. وذهب «روبرت زوليك»، الرئيس الأسبق للبنك الدولي، في كلمة ألقاها في عام 2010، أن عام 2009، شهد زوال ما يسمى بالعالم الثالث أيضًا  بفضل بزوغ عدد من الدول النامية والاقتصادات الناشئة بعد الأزمة المالية العالمية كقوى اقتصادية مؤثرة ومراكز للنمو المتصاعد؛ بما يجعلنا فعليًا بصدد عالم متعدد الأقطاب بكل ما يترتب على ذلك من آثار. فالتحولات الاقتصادية يترتب عليها حتمًا تحولات سياسية ترتبط بها. وإذا اتبعنا ذات المنطق الذي تبناه زوليك بإشارته إلى عام 1989 كعام نهاية لما يسمى بالعالم الثاني، وبعده بعقدين جاء عام 2009 كعام زوال لمسمى العالم الثالث. ومع إدراج تأثير المربكات الكبرى، والأزمات المُشار إليها في الاعتبار، فما الذي يمنع أن يشهد المستقبل القريب مثلاً بداية انقضاء مسمى العالم الأول على النحو المتعارف عليه؟.

العالم بصدد نظام جديد تتشكل معالمه وقواعده السياسية والاقتصادية وفقًا لقدرات تعامل دوله مع ترتيبات قديمة تتشبث بها القوى التقليدية وإمكانيات جديدة يكتسبها ذوو القدرة على التعامل مع مستجدات العصر ومربكاته الكبرى، سواء كانوا من اللاعبين الجدد القادمين للمنافسة، أو بعض القدامى من دائمي التطور والمثابرة. ولهذا يجب أن تأتي قواعد تعامل الدولة مع المخاطر والأزمات المُشار إليها في إطار سياسات متسقة محددة الأولويات لا تنزعج بما يجري عليه نعت الأزمات سواء كانت متعددة أو مستمرة. ولا يجب أن تقتصر الدولة في مواجهتها للأزمات على إجراءات متناثرة قصيرة الأجل بل وفقًا لنهج متكامل للتقدم والتنمية المستدامة.

وبالتالي، فأعراض التغيرات شديدة الأثر التي أُطلق عليها «المربكات الكبرى» ستؤدي لتغيرات مهمة  في الأنشطة الاقتصادية وترتيبات النظام الدولي المتعارف عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتسبب هذه المربكات  تغيرات اقتصادية واجتماعية داخل الدول، وبين بعضها البعض. ويتطلب التعامل معها موارد ضخمة وأولويات في الإنفاق العام والاستثمار، وتوجهًا مختلفًا في أولويات السياسات العامة. ووفقًا للكتاب المُشار إليه سلفًا الذي أصدره كاتب هذه المقالة، تحت عنوان «في التقدم: مربكات ومسارات»؛ حيث تم التعرض لهذه المربكات بالتفصيل، ويمكن إيجازها وسبل التعامل معها على النحو التالي:

1 - تغيرات في معدلات زيادة السكان مع زيادة في توقعات الأعمار عند الولادة مع شبابية التركيبة السكانية في بلدان الجنوب وميلها إلى الشيخوخة في بلدان الشمال، ومؤخرًا أعلنت التقارير الدولية للسكان سبق الهند للصين في تعداد السكان، كما جاءت إشارة ذات مغزى أن حافظات الأطفال في اليابان أقل مبيعًا من الحافظات التي يحتاجها كبار السن والمصابون بأعراض الشيخوخة. وتتطلب الاستفادة من الذخيرة السكانية استثمارًا في البشر خاصة فيما يتعلق بالتعليم والرعاية الصحية ونظم الضمان الاجتماعي.

2 - آثار شديدة لتغيرات المناخ على الحياة والنشاط الاقتصادي والهجرة وبداية ظاهرة اللجوء المناخي. ويستلزم التصدي لها استثمارات تحتوي آثارها سواء للوقاية منها أو التوافق معها في مجالات التخفيف والتكيف والتعامل مع ملف الخسائر والأضرار، مع توفير اللازم لها من تمويل ميسر طويل الأجل، واستثمارات في مشروعات تُبنى على التكامل بين العمل المناخي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.  

3 - سرعة وتيرة الانتقال للحضر ومتطلباتها التنظيمية، لمنع العشوائية وزيادة البطالة، وما تستلزمه من استثمارات ضخمة في البنية الأساسية والتكنولوجية.

4 - انتشار النزاعات والصراعات، وما يترتب عليها من خسائر إنسانية مروعة، ومتطلبات منعها، والتعامل مع تداعياتها بتمتين أسس الحوكمة، وإرساء قواعد العدالة ونظم الضمان الاجتماعي، والتصدي لتداعياتها عبر الحدود.

5 - تفشي الأوبئة المعدية والأمراض المتوطنة والمزمنة، وأعباء تدبير تكلفة الوقاية والعلاج، ولنا في جائحة كورونا عبرة كما سبقت الإشارة.  

6 - اضطراب أسواق السلع الرئيسية، كالأغذية والطاقة والذهب والخامات والبورصات المالية المرتبطة بها وبأسهم الشركات المتداولة، وتقلب أسواق السندات والديون والعائد عليها، وما يستلزمه ذلك من تفعيل للسياسات النقدية والمالية العامة والتنسيق الحتمي بينهما.

7 - تداعيات الثورة الصناعية الرابعة وتأثيراتها على أسواق العمل والتجارة ورؤوس الأموال، وتوزيع الدخول. وهذا يستلزم إتقان علوم الثورة الصناعية الجديدة ومواكبتها ببنية متطورة للاقتصاد الرقمي ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي. ويرتبط بذلك تبني سياسات متكاملة للتعامل مع البيانات، والحقوق والالتزامات المرتبطة بها، خاصة فيما يتعلق بالأمن والخصوصية وحقوق الملكية.

8 - التغير المستمر في مركز الجاذبية الاقتصادية عالميًا، وتحوله تجاه الشرق بفعل الثقل النسبي للسكان في الصين والهند وجيرانهما وقطاعات النشاط الاقتصادي في هذه البلدان، وسبل التفاعل معها، خاصة فيما يتعلق بتدفق حركة التجارة والاستثمار والعمل.

رابعًا: التوجهات الجديدة وسبل الوقاية

إن هذه التوجهات العالمية الجديدة، وما تتضمنه من مربكات تستدعي نهجًا مبادرًا للتعامل معها دون إبطاء، والاستفادة منها بل واستغلالها لصالح الدولة. والجدير بالذكر أن نظرة أخرى لهذه التوجهات، في حال عدم الاستعداد لها، قد تحيلها إلى «مهددات عظمى»، على النحو الذي ورد في كتاب حديث للاقتصادي «نوريل روبيني» تحت نفس العنوان. إذ أورد «روبيني» عشر اتجاهات عامة اعتبرها ظواهر خطيرة، كان أولها ما أسماه بـ«أم أزمات الديون الدولية»، كما تضمنت القائمة التحديات المرتبطة بالتركيبة السكانية، والركود التضخمي، وفشل القطاعين الحكومي والخاص، وانهيار العملات والاضطرابات المالية، ونهاية العولمة، والذكاء الاصطناعي، والحرب الباردة الجديدة، ولم تخل القائمة من أزمة المناخ التي عبر عنها الكاتب بـ «أرض غير صالحة للعيش فيها».

وفي ظل هذه الظروف المعقدة حرى بمؤسسات صنع القرار القيام بأمرين متلازمين: أولهما، يكون بالاسترشاد ببيانات فعلية ومعلومات تفصيلية محدثة باستمرار. وثانيهما، هو تتبع الظواهر الاقتصادية والسياسية الكبرى وتوجهاتها العامة، ومدى تأثيرها على الأمور الجارية، والتحسب لها بسيناريوهات بديلة بقدر عال من المرونة للتغيرات المفاجئة، وعوامل الارتباط بينها، خاصة في حالة الأزمات المتداخلة والمتراكبة.   

أيضًا يجب الاعتماد على مصادر متعددة للاستشراف للوقاية من المخاطر في عالم تكتنفه أزمة مستمرة تتنوع في مسبباتها بما يجعل الاقتصاد في حالة دائمة من إدارة الأزمات. فظروف اللايقين الراهنة أكثر صعوبة في التعامل معها من أحوال المخاطرة المحدودة أو العالية التي يمكن فيها التعرف على نسب احتمال وقوع الحدث بقدر عال من الدقة. فالتوقعات في هذا العالم شديد التغير، الذي يعاني من أزمة في الثقة وفوائض في الأزمات، ليست كسابقتها من توقعات تصيب وتخطئ. وبالتالي يجب التعامل مع التوقعات المتواترة بدرجة أكبر من الحذر.

ومن المستفاد في التعامل مع الأزمات المركبة والمتداخلة أنها تتطلب تعاونًا  مكثفًا  بين أطراف حكومية وغير حكومية تشمل القطاع الخاص والمجتمع المدني. كما أنها تستوجب تنسيقًا للجهود على أربعة مستويات: المستوى العالمي بتفعيل دور المؤسسات متعددة الأطراف؛ وعلى المستوى الإقليمي، وهنا يبرز نسق التعاون لدول مجموعة الآسيان كنموذج لتغليب المصالح الاقتصادية براجماتيًا والابتعاد عن المهاترات السياسية والصراعات؛ وعلى المستوى الوطني المركزي، بتحديد الأولويات والاختيارات السياسية المحققة لأهداف التقدم والأمن والاستقرار، وعلى المستوى المحلي، باتخاذ كل السبل الممكنة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وأولها القضاء على الفقر المدقع.

الأزمات، وإن تعددت، ما هي إلا معابر من واقع قديم إلى واقع جديد، ولهذا نتعجب من متخوف في البلدان النامية على مصير النظام الدولي القائم الذي لم تستفد بلداننا منه إلا قليلاً مما يفيض عن الأغنياء المهيمنين فيه من خلال قنوات التجارة وبعض الاستثمارات وتحويلات المهاجرين، وما قد يقدم من منح وهبات.

قد يكون من أسباب التخوف أن عملية الانتقال من نظام إلى نظام لا يعلم أحد مداها الزمني وملابسات انتقالها سواء سلمًا أو حربًا، وأن هناك خسائر ومكاسب محتملة، وحلفاء وأعداء جددًا. وهو ما يستوجب الاستثمار في سبل التعامل مع المربكات المُشار إليها لتدعيم فرص التقدم في سباق الأمم، ومن أهمها على الإطلاق الاستثمار في البشر ومهاراتهم والاستثمار أيضًا في تمتين المجتمع والاقتصاد بآليات ممكنة لاستيعاب الصدمات والتعامل معها باعتبارها من معالم الواقع الجديد.