د. معتز سلامة

خبير - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لواء/ د. محمد قشقوش

أستاذ الأمن القومي ومستشار أكاديمية ناصر العسكرية العليا

أحمد عليبه

باحث - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

د. أحمد أمل

أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الأفريقية العليا - جامعة القاهرة

عمرو عبد العاطي

باحث في الشئون الأمريكية، ومساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية

دخلت السودان دورة الصراع المسلح الذي لم تغادره كلية بعض الدول في المنطقة؛ كاليمن وسوريا وليبيا. فقد جاءت السودان في الموجة الثانية من "الربيع العربي"، ويبدو أنها ستدشن  لموجة الثانية من الصراعات المسلحة في الإقليم؛ فعلى مدار أسبوعين من المعارك لم تصمد الهدنة التي تم التوصل إليها لاعتبارات إنسانية، وفيما تقوم الدول بإجلاء رعاياها  على وقع موجة نزوح غير مسبوقة في الخرطوم والولايات السودانية المتوترة، فإن فضاء هذا المسرح يتم -على ما يبدو- إخلائه تحسبا لحرب مفتوحهة تضع مستقبل السودان على مفترق طرق.

ومن المتصور أن تداعيات استدامة حالة الفوضى في السودان ربما تكون أسوأ في تداعياتها، وأكثر كُلفة من الناحيتين السياسية والأمنية، إذا ما قورنت بحالة ليبيا والتي لم تتعاف، خاصة بعد حرب طرابلس في ربيع العام 2019حتى صيف العام 2020، حيث لا تزال في متاهة الانتقال السياسي المتعثر. وقد تمثلت أولوية الأمن القومي المصري في حالة ليبيا في عملية ضبط الحدود للحيلولة دون تمدد مظاهر الفوضي، والعمل على تفادي خطر تقسيم البلاد. لكن أولويات الأمن القومي المصري في السودان تتجاوز مسألة ضبط الحدود، إلى ما يرتبط بملف الأمن المائي. كما أن هشاشة الدولة المركزية القابلة للتمزق في السودان والتحول إلى صومال جديد باتت واردة، خاصة في ظل عدوى التفكك، سواء في منطقة القرن الأفريقي أو في السودان نفسه الذي شهد استقلال الجنوب في يوليو 2011، وهو ما لم يؤد إلى استقرار أي منهما. وهناك أكثر من 30 فصيلاً مسلحاً في السودان، الأمر الذي يعزز سيناريو انتعاش الفوضي في البلاد.

وكانت مصر في دائرة الضوء منذ انطلاق الشرارة الأولى للتصعيد العسكري بين الطرفين، والتي اندلعت من قاعدة "مروي" الجوية في الشمال، والتي كان يتواجد بها قوة عسكرية مصرية -في إطار برتوكول مشترك بين الجانبين المصري والسوادني- وكانت تستعد لإجراء تمرين جوي مشترك في مايو المقبل. وقد أدارت مصر هذه الأزمة باقتدار ، مكنتها في النهاية من إعادة القوة العسكرية المصرية من السودان، في أول وأهم اختراق حدث منذ اندلاع الأزمة.

لقد استكلمت مصر جهودها بتشكيل فريق إدارة أزمة من الوزارات المعنية (وزارة الدفاع، جهاز المخابرات العامة، وزارتي الخارجية والداخلية) لإجلاء رعاياها من السودان، كأولوية مرحلية أيضاً، والتنسيق المشترك مع بعض الدول للمساعدة في إجلاء رعاياهم، ثم استقبال آلاف اللاجئين عبر معبر أرقين الحدودي، وتوفير المتطلبات الإنسانية للتعامل مع هذا الموقف. وعلى التوازي، تحركت مصر  دبلوماسيا وبشكل سريع على مستوى ثنائي مع دولة جنوب السودان لإطلاق مبادرة لوقف إطلاق النار، وعبر الآليات الإقليمية كالجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، وأيضا الأمم المتحدة والقوى الدولية، لتنسيق الجهود في الاتجاه نفسه.

من المتصور أن محدد الوساطة في المرحلة الحالية ينصب أولا على مساعي التوصل إلى هدنة متماسكة، حتى وإن كانت وساطة غير مباشرة ما بين الطرفين، ثم تطويرها وتمديدها لأطول فترة ممكنة لإفساح الطريق أمام منظمات وهيئات العمل الإنساني، بالإضافة إلى ضمان عدم تحولها إلى استراحة حرب، بل محاولة كسب الثقة ولو جزئيا لإعادة ترتيب الوضع بهدف تهيئة الأجواء للانتقال إلى مرحلة الوساطة المتقدمة لجمع الأطراف على مائدة التفاوض.

حسابات القوى المنخرطة في الصراع

حسابات القوى المنخرطة في الصراع هي حسابات الحرب بعد أن تعثرت حسابات السياسة عقب انهيار التوافق على مشروع الإصلاح الأمني والعسكري في محطته الأخيرة. ومن ثم، يتوقع كل طرف من الحرب أن تُعيد تشكيل الموازين السياسية وفقاً لما ستسفر عنه الحرب التي يسعى كل طرف فيها إلى إلحاق الهزيمة بالآخر، وبالتالى الهزيمة العسكرية أولاً ثم الهزيمة السياسية، على الرغم من أن كافة التجارب المماثلة تقطع بأن حروب المدن هي حروب تدمير للدول التي تدفع كُلفتها من مقدراتها ومواردها البشرية والمادية، ومن ثم يصعب أن تتحقق فيها معايير النصر والهزيمة بالمعني التقليدي.

إن أكبر  الحسابات الخاطئة التي كشفت عنها الحرب الجارية في السودان هي توقع أن طرفي الصراع كان بإمكانهما الاندماج في كيان واحد، في ظل عدم توفر الشروط المناسبة لذلك؛ فبذور الاندماج التي غُرست في عهد النظام السابق نمت في إطار تحالف مصالح مشتركة. تفكك هذا التحالف في لحظة سقوط النظام، وأُعيدت التحالفات مرة أخرى على نفس الأسس وهي المصالح المشتركة في مرحلة الانتقال السياسي، بالإضافة للاعتبارات الفنية التي تشير إلى صعوبة الاندماج في ظل حالة اللاتماثل ما بين هيكلي الجيش النظامي وميليشيا قوات الدعم السريع. كذلك الجيوش النظامية لديها حسابات وطنية فيما يتعلق بالتسلح، والسياسية الخارجية، والتمويل من موازنة الدولة، على العكس من ذلك هناك مصادر تمويل أخري للدعم السريع، أبزرها ما يُعرف بتحالف "أمراء الذهب"، وعوائد صفقات مشاركة قواتها خارج البلاد، وهو ما يعكس أيضا أن لديها أجندة مختلفة للسياسية الخارجية.

أيضاً من المتصور أن أحد الأسئلة الخطأ والشائعة في الوقت نفسه، هو من سيحسم الصراع من الطرفين؟ كون هذا السؤال هو مدخل للتحول من الوساطة إلى الانحيازات، وبالتبعية الوقوع في فخ الحرب بالوكالة، وهي أحد الدروس المستفادة من العديد من الصراعات الإقليمية.  ومن الأهمية بمكان في هذا الصدد الإشارة إلى مقولة وزير الخارجية الكيني "ألفريد موتوا" خلال لقاء له مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ( 24 أبريل) بأن العديد من القوى الدولية والإقليمية لديها علاقات مع طرفي الصراع، ومن ثم فإن اللحظة الحالية تحتم على تلك الأطراف عدم الانحياز لطرف بعينه.

في حين من المتصور أن تستحق المعارك الجارية في السودان بأن توصف بأنها "مواجهات ضد المنطق"، ليس فقط بحسابات الوضع الإقليمي والدولي، وإنما أيضا بحسابات واقع الداخل السوداني. فقد جاء تفجر المواجهات بعد أيام من الإعلان عن مسودة الاتفاق السياسي النهائي في السودان في مارس 2023، وهو الاتفاق الذي وضع النقاط التفصيلية بشأن إصلاح المؤسسة العسكرية، وحدد أسسا وخطوات دمج قوات الدعم السريع في الجيش، ونص الاتفاق على تشكيل مجلس للأمن والدفاع بعضوية القائد العام للقوات المسلحة يتلوه قائد قوات الدعم السريع. كل ذلك يشير إلى أن التوترات التي تعرض لها السودان في مرحلة ما بعد الثورة، بين المكونين العسكري والمدني كانت تجد جذورها في الصراع الدائر الآن بين المكونين العسكريين.

وبغض النظر عن أن نشأة قوات الدعم السريع في 2003، كمكون عسكري آخر إلى جانب الجيش، لم يكن أمرا طبيعيا أو اعتياديا مطلقا، وكان يستبطن مواجهات بالضرورة مع الجيش في لحظة تالية، إلا أن تأكيد مقولة أنها "حرب ضد المنطق"، مبعثه أن الرجلين (البرهان وحميدتي)، لهما خبرة طويلة، وفي مثل هذه المواجهات لا يكون هناك منتصر ومغلوب، والخاسر الأساسي هو السودان. وفي الأغلب تبدأ مثل هذه المواجهات ويعتقد أطرافها بأنهم سيحققون أهدافهم ويقصون خصومهم خلال أيام، فإذا بهم يجدون أنفسهم إزاء مواجهة قد تمتد لسنوات. وبعد سنوات من الآن لن يجد الطرفان إلا الجلوس معا، بعد أن يكونا قد تكبدا كل الخسائر، واستنزفا ثروات السودان وشتتا شعبهما، وبعد أن يصبح السودان أسيرا لصراعات القوى الخارجية، ومسرحا لإدارة الصراع لحساب الخارج.

حسابات إقليمية

الحرب في السودان هي "حرب ضد المنطق" أيضا لأنها تأتي في سياق مزاج إقليمي مع المصالحات والتسويات، بعد خبرات طويلة مع الحروب الداخلية والإقليمية؛ حيث تفجرت مواجهات السودان بعدأن لاحت بشائر الأوضاع نسبيا في اليمن، على أثر الاتفاق السعودي- الإيراني، والمحادثات المباشرة بين السعودية والحوثيين، وبعد استقرار نسبي في ليبيا، ومع بدء خطوات عربية للمصالحة مع النظام السوري، وبعد سلسلة مصالحات عربية بينية (دول الرباعي العربي وقطر، والمصالحة القطرية مع البحرين)، وأيضا على أثر مصالحات بين دول عربية وتركيا. وكانت الخلاصة الكبرى من العقد السابق، هي ضرورة إنهاء الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، وتقليص التدخلات الخارجية في الواقع العربي، إلى أن جاءت معارك السودان لتقلب المزاج كليا.

أما على صعيد الحسابات الإقليمية في إفريقيا، يمكن القول إن السودان يرتبط بجوار إقليمي معقد يجمعه بمصر شمالاً على نحو يضعه في قلب تفاعلات الشرق الأوسط، كما يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقاً بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بإقليم القرن الأفريقي، هذا بجانب جواره الغربي مع كل من ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى الذي يعزز من مكانته كلاعب مهم في إقليم الساحل الأفريقي، إضافة إلى جواره الجنوبي المتمثل في جمهورية جنوب السودان الذي يربط السودان بتفاعلات منطقتي البحيرات العظمى وشرق أفريقيا.

ومن بين المفارقات اللافتة في المشهد السوداني الحالي، أنه على الرغم من كون الأزمة الحالية هي الأعقد والأكثر حدة منذ سقوط البشير في إبريل 2019، إلا أنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية من دول جوار السودان مقارنة بمختلف الأزمات السابقة المتعاقبة في الأعوام الأربعة الأخيرة. هذا الاتجاه غير المتوقع لسلوك دول الجوار لا يعكس عزوفاً من جانب اللاعبين الإقليميين أو تقدير أي منهم لمحدودية مصالحه المتأثرة بما يجري في السودان، وإنما جاء نتيجة مباشرة لمستوى الخطورة المرتفع للأزمة الحالية والتي تحمل فرصا حقيقية لإدخال السودان في حالة من الاحتراب الداخلي الشامل، وكذلك للتحول لصراع إقليمي متعدد الأطراف.

على هذا، غلب على دول الجوار السوداني في الأزمة الأخيرة تبني التصريحات والمواقف المسؤولة التي تُعد انعكاسا لحساسية الموقف الميداني على الأرض. لكن تظهر المواقف الإثيوبية بصورة خاصة لتجسد آلية إجراء دول جوار السودان لحساباتها تجاه الأزمة الحالية وتأثيرها على مآلات الأوضاع المستقبلية على مستوى السودان والإقليم ككل. فقد مرت إثيوبيا بسلسلة من التغيرات الكبرى على المستويين السياسي والعسكري واكبت الأوضاع المضطربة في السودان ما كان له انعكاسات مباشرة على موقف الحكومة الإثيوبية من المواجهات بين القوات المسلحة والدعم السريع. فقد وصل آبي أحمد للسلطة قبل نحو عام من سقوط عمر البشير في السودان في إبريل 2019. ويمكن تحديد عدد من الاتجاهات الرئيسية التي كشفت عن التحيزات الإثيوبية تجاه التفاعلات في السودان والتي تمثلت فيما يلي:

- الانحياز لقوى الحرية والتغيير على حساب القوات المسلحة، ومحاولة استغلال الوضع المضطرب في السودان بهدف تعزيز الدور الإقليمي لإثيوبيا، على نحو ما ظهر في التفاعلات التي تسبب فيها تعثر التوافق السياسي بين المكونين المدني والعسكري بعد سقوط البشير في الفترة بين فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في الثالث من يونيو 2019، وحتى توقيع الوثيقة الدستورية في السابع عشر من أغسطس من العام نفسه؛ فخلال تلك الفترة استغل آبي أحمد تفويض منظمة إيجاد له باعتباره رئيسها الدوري آنذاك للتواصل مع الأطراف السودانية لتقريب وجهات النظر.

- تصاعد الصدام مع القوات المسلحة السودانية التي اتخذت قرارا مبكرا بالتصدي للاحتلال الإثيوبي لمنطقتي الفشقة الكبرى والصغرى القائم منذ تسعينات القرن العشرين، وهو ما أنتج سلسلة من المواجهات المسلحة تمكنت فيها القوات المسلحة السودانية من استرداد نحو 90% من الأراضي السودانية. وقد فجرت هذه المواجهات العداء بين الجانبين، خاصة في ظل صياغة الحكومة الإثيوبية خطابا إعلاميا روج بأن التحركات العسكرية السودانية جاءت استغلالا للحرب في إقليم تيجراي، وأنها تجاوزت نطاق الأراضي السودانية، كما أنها جاءت -حسب الرواية الإثيوبية- في إطار مراجعة سودانية لتموضعها الإقليمي بخطوات تباعد بينها وبين أديس أبابا وتقربها أكثر من القاهرة.

-التقارب الإثيوبي المطرد مع محمد حمدان دقلو الذي زار أديس أبابا للمرة الأولى في يونيو 2020، ثم في يناير 2022، وهي الزيارات التي جاءت متنافرة مع المواقف الرسمية للحكومات السودانية ودون الحد الأدنى من التنسيق مع أي من شركاء الحكم العسكريين والمدنيين في السودان.

-ممارسة الضغوط المباشرة على السودان إعلاميا ودبلوماسيا بمعارضة المواقف السودانية المتزنة من سد النهضة، خاصة في فترة حكومة عبد الله حمدوك الثانية، ثم الاتهامات المتكررة للسودان بدعم جبهة تحرير تيجراي في الشهور الأولى التالية على تفجر الصراع في الإقليم الواقع شمال إثيوبيا في نوفمبر 2020.

هذه الاتجاهات الأربعة لسلوك الحكومة الإثيوبية تجاه السودان منذ سقوط البشير انعكست بوضوح في الموقف من الأزمة السودانية الحالية، فعلى الرغم من امتلاك الحكومة الإثيوبية مصلحة واضحة في انتصار قوات الدعم السريع أو على الأقل بقائها لاعباً رئيسياً في المشهد السوداني عسكرياً وسياسياً، لم تتمكن إثيوبيا من تقديم أي دعم ملموس لقوات الدعم السريع الأمر الذي يمكن إرجاعه لعدد من الأسباب أبرزها:

- التفوق الميداني الواضح من اليوم الأول للقوات المسلحة السودانية، خاصة في أقاليم شرق السودان ذات الحدود المشتركة مع إثيوبيا والتي كانت الأسبق في إعلان إحكام القوات المسلحة على مقار الدعم السريع الذي لا يزال يتم التعامل معه باعتباره كيان "غريب" عن ولايات الشرق.

- وقوع الاشتباكات الأخيرة على مقربة من الهدنة القائمة في العلاقات بين آبي أحمد وعبد الفتاح البرهان منذ زيارة الأول للخرطوم نهاية يناير 2023 والتي اتفق خلالها على احتواء القضايا الخلافية بين الجانبين.

- الرغبة الإثيوبية في تجنب إثارة المزيد من التوجهات الشعبية العدائية لدى قطاعات سودانية عديدة ما قد ينعكس سلباً على مستقبل العلاقات في مرحلة ما بعد انتهاء المواجهة العسكرية على نحو ما تجسد في النفي السريع للحكومة الإثيوبية للأنباء التي أشارت لتمدد عسكري إثيوبي جديد في الفشقة الصغرى استغلالاً للوضع المضطرب في السودان.

- الخشية الإثيوبية من إثارة رد فعل أمريكي سلبي، خاصة بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لأديس أبابا في منتصف مارس 2023، وهي الزيارة التي شهدت تشديد الضغوط الأمريكية على حكومة آبي أحمد بإحراز تقدم في مسار السلام الهش مع جبهة تحرير تيجراي. ومما زاد من اتجاه الحكومة الإثيوبية لتبني موقف متحفظ من الأوضاع في السودان التحذيرات الأمريكية التي أعلنت مبكراً لكافة الدول والأطراف المعنية بالكف عن أي شكل من أشكال التدخل في المواجهات المسلحة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.

من كل ما سبق، يبدو أن الموقف الإثيوبي على وجه الخصوص من الأزمة السودانية قد غلب عليه التحفظ والتحرك وفق خطوات محدودة محسوبة، وهو ما لا يمكن قراءته باعتباره مؤشراً على تراجع الاهتمام الإثيوبي بالسودان، بقدر ما يشير لإرجاء عودة النشاط الإثيوبي على الساحة السودانية لمرحلة تالية.

حسابات دولية: دور أمريكي متواضع في الأزمة

على الرغم من إعلان الرئيس "جو بايدن" منذ اليوم الأول له بالبيت الأبيض في 20 يناير 2021، وعديد من مسئولي الإدارة الأمريكية أن قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية على أجندة الولايات المتحدة، وعقد قمتين للديمقراطية، في ديسمبر 2021، ومارس 2023، فإن الولايات المتحدة لم تتخذ العديد من الخطوات لدفع عملية الانتقال الديمقراطي في السودان منذ الإطاحة بنظام "عمر البشر".

وقد أظهر الموقف الأمريكي –حتى وقتنا هذا– من تأجيج الصراع بين أقوى قائدين عسكريين في السودان، المدعومان بشبكات معقدة من التحالفات الدولية والإقليمية ذات المصالح المتضاربة التي قد تعرض مستقبل البلاد للخطر، أظهر حدود الدور الأمريكي في السودان، حيث لم تعد الولايات المتحدة هي الفاعل المركزي في السودان بعدما كانت الفاعل الدولي المؤثر في إنهاء الحرب بين شمال السودان وجنونه لعقود، ودعم استفتاء الاستقلال لجنوب السودان.

ولم تكن أزمة الانتقال الديمقراطي في السودان أولوية لإدارة الرئيس "جو بايدن"، حيث لم يزر وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" خلال زياراته لأفريقيا السودان، على عكس رؤساء وزراء الخارجية السابقين بالإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة (كولين باول، كونداليزا رايس، مايك بومبيو، وجون كيري)، فضلا عن تساهلها في التعامل مع القادة العسكريين السودانيين في أعقاب تعثر نقل السلطة لقوى مدنية، حيث لم تفرض عقوبات عليهم رغم مطالب المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين بذلك. وقد سمح تراجع الدور الأمريكي بالسودان لصعود قوى إقليمية ودولية، ولاسيما روسيا، لتعزيز نفوذها ومصالحها في السودان، الذي يتفق في كثير من الأحيان مع استمرار سيطرة القيادة العسكرية السودانية على مفاصل الدولة السودانية، وهو ما يتعارض مع المصالح والرؤية الأمريكية. وقد أصبحت تلك القوى أكثر تأثيراً من الولايات المتحدة في تحديد مستقبل السودان.

وفي ظل تراجع النفوذ الأمريكي في السودان، فإن الخيارات أمام إدارة الرئيس "جو بايدن" للتعامل مع الأزمة الراهنة تنحصر في خيارين رئيسيين:

أولهما، انتهاج نهج إدارة الرئيس السابق "دونالد ترامب" بالاستعانة بالقوى الإقليمية والدولية الحليفة للولايات المتحدة الفاعلة في السودان لتنسيق استجابة للأزمة، وللضغط على "البرهان" و"حميدتي" للجلوس على طاولة المفاوضات لإنهاء الاقتتال العسكري، والاتفاق على صيغة تحقق الاستقرار والأمن السوداني، الذي لن تقتصر تأثيراته على الداخل، ولكن سيكون لها تداعيات إقليمية في منطقة القرن الإفريقي ذو الأولوية لواشنطن، وللنفوذ الأمريكي في القارة الإفريقية التي تحولت لساحة منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. فقد قال وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" في 24 أبريل الجاري إن الإدارة الأمريكية "ستنسق مع شركائها الإقليميين والدوليين والقوى المدنية السودانية للمساعدة في إنشاء لجنة للإشراف على التفاوض لوقف دائم للأعمال العدائية، والترتيبات الإنسانية في السودان، وإبرامها، وتنفيذها".

وفي محاولة للعب دور في الأزمة السودانية، توصلت الولايات المتحدة بدعم من شركائها الإقليميين والدوليين لهدنة لوقف إطلاق النار، وافقت عليها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لمدة 72 ساعة، بعد يومين من المفاوضات المكثفة. ولا يُتوقع أن تُساهم تلك الهدنة في تهدئة القتال بين الفصائل السودانية، وأن تستمر كمثيلاتها خلال الأسبوع الماضي، حيث أشار مستشار الأمن القومي الأمريكي "جيك سوليفان" أن هناك احتمالاً لشكل من أشكال الصراع الطويل للأزمة السودانية الراهنة، حتى لو تخللته لحظات من هدنات إطلاق النار.

ثانيهما، الانصياع لمطالب العديد من المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين، الذين يقومون بدور أكثر نشاطاً في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان وتعويض الفراغ الدبلوماسي الأمريكي، لفرض عقوبات على القيادات العسكرية السودانية، وشبكاتها بهدف تعطيل مصادر إيرادات الجيش وقبضته على السلطة؛ مما يوفر فرصة لتصاعد المكون المدني بالبلاد. وتلك الدعوات بفرض عقوبات على المسئولين العسكريين السودانيين ليست وليدة تأجج الصدام العسكري الراهن بين "البرهان" و"حميدتي". ويمكن للإدارة الأمريكية بالبدء في فرض تلك العقوبات من خلال أمر تنفيذي يصدره الرئيس الأمريكي، أو بالاستناد إلى قانون "ماجنيتسكي". لكن هذه العقوبات لن تكون كافية لوقف الاقتتال بين "البرهان" و"حميدتي". فضلا عن أنها قد تدفعهما للتعاون مع القوى المنافسة للولايات المتحدة على النفوذ في السودان، ولا سيما روسيا التي طورت ومجموعة "فاجنر" علاقات واتصالات بقوات "حميدتي"، والتي تتطلع لإقامة قاعدة بحرية في السودان لمنحها طريقا للمحيط الهندي. 

لقد أظهر تعامل الإدارات الأمريكية (الجمهورية والديمقراطية) منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019 فشل الولايات المتحدة في تقديم الدعم الكامل والمساعدة لتحقيق الانتقال الديمقراطي في السوادان، ليتراجع دورها لصالح قوى إقليمية ودولية لديها مصالح تتعارض مع المصالح الأمريكية. وقد قوض تراجع النفوذ الأمريكي في الخرطوم والفجوة بين الخطاب والسياسيات من خيارات إدارة "بايدن" للتعامل مع الأزمة الراهنة.