د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بعد افتتاح المواجهات المسلحة التي تشهدها السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، أسبوعها الثاني في 22 أبريل الجاري (2023)، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بعملية إخلاء لدبلوماسييها في سفارتها بالخرطوم، وذلك بعد أن قامت بنقل قوات أمريكية إلى قاعدة "ليمونييه" في جيبوتي التي يتواجد بها جنود أمريكيون، استعداداً لهذه العملية. لكن اللافت في هذا السياق، أن هذه الخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للتعامل مع المواجهات التي تخضع بدورها لمراقبة ورصد من جانب القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، جاءت بعد أسبوع بدا فيه الموقف الأمريكي "هادئاً" إلى حد ما إزاء ما يجري من مواجهات على الساحة السودانية.

هذا الهدوء انعكس في تصريحات جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، في 17 أبريل الجاري، والتي قال فيها إنه "لا توجد خطط لدى الحكومة الأمريكية للقيام بعمليات إجلاء من السودان في الوقت الحالي".

هنا يمكن القول إن ثمة ظروفاً جدّت خلال الأسبوع التالي على تلك التصريحات، وفرضت على الولايات المتحدة الأمريكية القيام بهذه العملية. وبالطبع، فإن ثمة محددات موضوعية تؤخذ بعين الاعتبار عند دراسة مثل هذه العملية، منها مستوى الخسائر البشرية في السودان، وانعكاسات الصراع المسلح على البنية التحتية من طرق ومرافق، خاصة المطارات، إلى جانب وسائل الإعاشة نفسها من أغذية ووقود وأدوية وغيرها.

اعتبارات أخرى

رغم أن ذلك في مجمله كان له، على ما يبدو، دور في تنفيذ عملية الإجلاء، فإن ذلك لا ينفي أن ثمة اعتبارات أخرى يبدو أنه كان لها دور أيضاً في الحسابات التي دفعت واشنطن إلى الإقدام على تلك الخطوة في هذا التوقيت، وهو ما يمكن تناوله في التالي:

1- تجنب السيناريو الليبي

يبدو أن واشنطن تحسبت مبكراً للسيناريو الليبي، الذي واجهت فيه أحد أكبر إخفاقاتها الدبلوماسية في العقود الأخيرة، عندما تعرضت قنصليتها في مدينة بنغازي للحصار والاقتحام في 11 سبتمبر 2012، وانتهى الأمر بمقتل أربعة أمريكيين من بينهم السفير كريستوفر سيتفنز. ورغم أن تقارير عديدة اعتبرت أن السبب الأساسي الذي أدى إلى الهجوم على القنصلية كان الاحتجاج على فيلم "براءة المسلمين" الذي وُصف بأنه "مسئ للإسلام"، فإن ذلك لا ينفي أن الجهة المتطرفة المسئولة عن الهجوم اختارت هذا التوقيت بعناية، لما له من رمزية تاريخية تتعلق بأحداث 11 سبتمبر 2001. ويوحي ذلك بأن العملية في مجملها كانت في سياق محاولة رفع كُلفة الحرب الأمريكية على الإرهاب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد تلك الأحداث، وأسفرت في النهاية عن سقوط نظام "طالبان" في أفغانستان عام 2001 وصدام حسين في العراق عام 2003.

المهم في ذلك كله، أن هذه العملية مثلت إخفاقاً دبلوماسياً وأمنياً للولايات المتحدة الأمريكية، وظل هذا الإخفاق يلاحق وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، حتى عندما ترشحت للانتخابات الرئاسية التي أُجريت في نوفمبر 2016 وأسفرت عن فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أمعن في استغلال هذا الحادث لتقليص فرص منافسته في الانتخابات، لدرجة أنه قام، في يناير 2016 خلال سعيه للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري، باستئجار مسرح لعرض فيلم "13 ساعة: جنود بنغازي السريون" مجاناً والذي يتناول الحادث.

من هنا، يمكن القول إن إدارة الرئيس بايدن ارتأت -ضمن أسباب عديدة- المسارعة في إخلاء الدبلوماسيين تجنباً لاحتمال تكرار ما حدث في ليبيا، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تُجرى في نوفمبر 2024، وأعلن الرئيس بايدن، في 10 أبريل الجاري، عزمه الترشح فيها.

2- تأثير "عقدة الصومال"

رغم مرور نحو ثلاثين عاماً، لا تزال "عقدة" الصومال ماثلة في أذهان صانعي القرار الأمريكيين، عندما اشتبكت قوات أمريكية مع قوات الجنرال الصومالي الأسبق محمد فارح عيديد، في 3 أكتوبر 1993، على نحو أسفر عن مقتل مئات الصوماليين و18 أمريكياً سُحل أحدهم في شوارع مقديشيو، بشكل أثار ضجة عالمية وأمريكية، وكان سبباً رئيسياً في القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بعد ذلك بسحب القوات من الصومال.

وهنا، فإن واشنطن تسعى إلى تأمين وجود عسكري في المنطقة، عبر قاعدة "ليمونييه" في جيبوتي، يكون لديها من خلالها القدرة على التدخل السريع لحماية مصالحها في حالة التعرض لأى خطر قد يكون داهماً على غرار ما حدث في مقديشيو وبنغازي، وذلك بالتوازي مع المهام التي تقوم بها القيادة الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم".

3- ارتدادات الانسحاب من أفغانستان

ما زالت الإدارة الأمريكية الحالية تتعرض لانتقادات داخلية حادة بسبب السياسة التي تبنتها لإتمام عملية الانسحاب من أفغانستان في منتصف أغسطس 2021، والتي شابتها حالة من الفوضى العارمة، وانتهت بعودة حركة "طالبان" إلى السيطرة على الحكم مجدداً. واللافت في هذا السياق، هو أن بعض نواب الكونجرس بدأوا بالفعل في استحضار هذه التجربة عن مناقشتهم لكيفية التعامل مع أزمة السودان.

إذ حثّ رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي مايكل ماكول، في 22 أبريل الجاري، وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن على عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن في الانسحاب من أفغانستان. وقال ماكول في خطابه المنشور على الموقع الرسمي للجنة: "أظهرت عملية إخلاء غير المقاتلين في أفغانستان (NEO) في عام 2021 عواقب الفشل في التخطيط بشكل مناسب لأسوأ السيناريوهات، واختلاط الرسائل من قبل وزارة الخارجية، والتسلسل القيادي غير الواضح، وعدم كفاية التنسيق بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الأمريكية، وعدم التنسيق مع المنظمات الخاصة لإجلاء المواطنين الأمريكيين"، مضيفاً: "لعدم رغبتي في تكرار أخطاء إخلاء أفغانستان، أطلب توضيحاً لعدة قضايا أساسية ضرورية لإجلاء ناجح للمواطنين الأمريكيين في السودان".

4- الرد على انخراط الخصوم

ربما يدخل هذا العامل تحديداً ضمن الحسابات الأمريكية طويلة الأجل إزاء ما يجري في السودان وما سوف يفرضه من معطيات جديدة على الأرض. إذ لا يمكن استبعاد أن تكون مسارعة واشنطن إلى الانخراط في التعامل مع تداعيات المواجهات، ومنها إجلاء دبلوماسييها، إلى جانب دعوتها المتكررة للوصول إلى هدنة بين الطرفين، فضلاً عن استعدادها لزيادة عدد قواتها في قاعدة "ليمونييه" بجيبوتي، محاولة من جانبها لتوجيه رسائل مباشرة بأنها موجودة في المنطقة ومعنية بأزماتها، ومستعدة للتعامل مع ارتداداتها.

وهنا، فإن ذلك قد يرتبط، في قسم منه، بمحاولاتها الرد على التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحة الإقليمية، ومنها توقيع اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، برعاية الصين، في 10 مارس الفائت، وهو تطور يطرح معانٍ عديدة لا تخطئها عين، وكلها موجهة إلى واشنطن في الأساس.

كما لا يمكن فصل ذلك عن تزايد التقارير الأمريكية التي تشير إلى أن روسيا ربما تكون حاضرة في المشهد السوداني، من خلال شركة "فاغنر". وبالطبع، فإنه إذا ما ربطت واشنطن بين هذه التقارير وبين ما سبق أن طُرح من احتمال تأسيس قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر، والتي اعتبر قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في 3 مارس 2022، أنه "لا توجد مشكلة بشأنها طالما أن ذلك يحقق مصلحة السودان"، فإن ذلك قد يمثل دافعاً آخر لاتجاه واشنطن إلى تعزيز وجودها العسكري بالقرب من السودان وتحديداً في منطقة القرن الأفريقي.

في النهاية، يمكن القول إن المسارات الحالية للمواجهات في السودان توحي بأن الموقف الأمريكي منها سوف يتطور تدريجياً، خاصة عندما تبدأ كل المتغيرات التي يمكن أن يكون لها تأثير في تحديد وجهة تلك الأزمة في التبلور والنضوج خلال المرحلة القادمة.