ليس خافياً أن الصراع الحالي بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم يكتسب أهمية بالغة للقوى الإقليمية والدولية على حد سواء بسبب موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر وارتباطه بالمنطقة الأمنية القلقة في القرن الأفريقي. وعلى الرغم من المخاوف من أن القتال قد يتحول إلى حرب بالوكالة، فقد دعا الفاعلون الإقليميون الرئيسيون، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى السلام. إذ لا يرغبون في وجود صراع إقليمي يشكل عبئاً آخر على الإقليم. كما أدان الشركاء الدوليون، مثل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، العنف ودعوا إلى استئناف المحادثات، لكنهم يفتقرون إلى القوة اللازمة لفرض واتخاذ إجراء قسري. ومع ذلك، يبدو أن الجانبين المتصارعين في السودان متطابقان بشكل متساوٍ، مما يزيد من خطر نشوب صراع أهلي مستمر يمكن أن يعرقل انتقال البلاد إلى الحكم المدني ويؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية. وتشير الاشتباكات المستمرة في الخرطوم وأجزاء أخرى من البلاد إلى أن الحل السلمي لا يزال بعيد المنال، على الرغم من جهود الشركاء الدوليين للتوسط في السلام.
ويحاول هذا المقال تحليل المآلات وآفاق المستقبل للصراع العسكري المحتدم في السودان، ويستكشف المسار الذي يقود نحو الهاوية، والانزلاق إلى المسار الليبي. كما يتناول إشكالية البحث عن وسيط لإنهاء الصراع وتحقيق السلام في البلاد.
مسار حافة الهاوية
من الواضح تماماً أن ما تشهده الخرطوم وبعض مناطق السودان الأخرى من اقتتال عسكري عنيف هو أقرب إلى سيناريو حافة الهاوية المخيف الذي يحاول فيه كل طرف القضاء على الطرف الآخر بالضربة القاضية. لقد كان السودان في حالة صراع منذ سنوات طويلة، حيث بدأت الجولة الأخيرة من العنف بعد الإطاحة برئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021. الصراع حالياً هو حرب بين طرفين يمكن التعرف عليهما بسهولة ويحاولان السيطرة على سلطة الدولة: القوات المسلحة السودانية بزعامة الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بزعامة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكلاهما يتنافس من أجل السيطرة على البلاد.
وعلى الرغم من التكلفة البشرية والمادية العالية لهذا الصراع العنيف بين أفراد المكون العسكري الحاكم في السودان في مرحلة ما بعد البشير، فإن هناك فرصة للتسوية من خلال وقف إطلاق النار والحوار السياسي. ويمكن أن نلاحظ ذلك من تعدد المبادرات العربية والأفريقية والدولية التي تنادي بالهدنة والقبول بالجلوس على مائدة المفاوضات. ومع ذلك، إذا استمرت الحرب واستمر كل طرف على مبدأ المباراة الصفرية، فقد ننتقل إلى طور آخر من الصراع تتغير فيه خريطة التحالفات العسكرية والمدنية، وربما نصبح أمام حالة عبثية يحارب فيها الكل ضد الكل وكأننا أمام تكرار لحالة الفطرة الأولى التي تحدث عنها توماس هوبز في كتابه "التنين".
ويلاحظ من متابعة سير المعارك منذ اندلاعها يوم 15 أبريل 2023 أنها تتركز على مواقع ومحاور رئيسية مثل القصر الجمهوري ومبني القيادة العامة للجيش ومبنى الإذاعة والتليفزيون والمطارات الرئيسية بما في ذلك مطار الخرطوم ومروي. يحاول كل طرف السيطرة التامة على العاصمة لما لها من دلالة رمزية توفر له الاعتراف والشرعية على المستوى الوطني على الأقل.
ومع ذلك، يمكن أن يتحول الصراع إلى التنافس على مصادر المال والثروة، حيث يحاول كل طرف قطع الإمدادات وسلاسل التوريد عن الطرف الآخر وفي نفس الوقت تأمين موارد إضافية لأنفسهم. وفي هذه الحالة سوف تحاول القوات المسلحة السودانية السيطرة على مناجم الذهب في جبل عامر وطرق التهريب، بينما تريد قوات الدعم السريع قطع طرق النقل والتوريد الرئيسية، بما في ذلك الطريق من بورتسودان إلى الخرطوم.
وعلى الرغم من الحرب الإعلامية وحملات التهييج وتبادل الاتهامات بين الطرفين (لاحظ أن هناك نحو تسعمائة حساب على تويتر تحاول تبييض صورة قوات الدعم السريع)، فإن سيناريو حافة الهاوية هذا يمكن أن ينتهي بالجلوس على مائدة التفاوض ولاسيما إذا أنهكت قوى الطرفين واستعصى الحسم العسكري أو خارت قوى طرف معين. ولعل ذلك يستدعى حالة حرب التيغراي في أثيوبيا التي استمرت قرابة عامين وانتهت من خلال صفقة بريتوريا لإنهاء كافة الأعمال العدائية بين الحكومة الأثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي.
الانزلاق إلى المسار الليبي
من المرجح أن القيادة والسيطرة قد لا تبقى موحدة لفترة طويلة. فالموارد المادية والتنظيمية اللازمة لمواصلة المجهود الحربي المكثف سوف تنضب بسرعة في ظل وضع السودان الاقتصادي المتردي وإحجام الأطراف الإقليمية والدولية عن التدخل المباشر أو غير المباشر حتى الآن لمساندة أحد طرفي القتال. من المحتمل أن تستمر المرحلة الحالية لبضعة أشهر إذا استمرت المواقف المتصلبة من كل طرف، لكنها ستتحول على الأرجح إلى صراع أقل حدة ولكنه أكثر كثافة وانتشاراً مع وجود أطراف وفواعل عسكرية متعددة تتنافس من أجل السيطرة على مواقع مختلفة، وكثير منهم يغيرون مواقفهم أو يتصرفون بشكل انتهازي وذلك في استنساخ ظاهر للتجربة الليبية في مرحلة ما بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي.
ومن أبرز المؤشرات أن منطقة دارفور بغرب السودان بشكل خاص تتعرض لخطر نشوب صراع حاد، بالنظر إلى الارتباط التاريخي للمنطقة بقوات الدعم السريع (ظهرت هذه الميليشيات من قوات الجنجويد العربية، إحدى القوى الرئيسية في حرب دارفور عام 2003). كما شهدت دارفور أيضاً تصاعداً مؤخراً في الاشتباكات القبلية على مدار الأسبوع الماضي، إلى جانب زيادة جهود التجنيد التي يبذلها كل من الجيش وقوات الدعم السريع. من المرجح أن يوفر التوسع الجغرافي الإضافي للقتال فرصاً لجماعات مسلحة إضافية للانخراط في الاشتباكات، وقد يؤدي إلى نزاع طويل الأمد في أجزاء من البلاد، حتى لو هدأ القتال في الخرطوم. قد يكون لذلك تداعيات إنسانية وخيمة على السودان، الذي يواجه بالفعل موجات جفاف ونقص في الغذاء. ومن غير المرجح أن ينقذ وقف الصراع في وضعه الحالي الاتفاق الانتقالي، لكن الصراع المستمر بين الجيش وقوات الدعم السريع من شأنه أن يجعل المفاوضات حول تقاسم السلطة والإصلاح الأمني في المستقبل القريب أمراً مستبعداً للغاية.
وعليه من المرجح أن يكون التحول الفارق في هذه المرحلة مع طول أمد الصراع المسلح هو بروز المتغير العرقي والقبلي، وهو ما يضفي مزيداً من التعقيد والتشابك على الحالة السودانية. في هذه الحالة، سوف تكون التكلفة الإنسانية باهظة، حيث نشهد حالات من التهجير القسري والنزوح الجماعي وربما مذابح على أسس عرقية. ومن المرجح أن تؤدي التحالفات والهويات العرقية إلى حدوث هذا التحول، وهو ما يهدد بسيناريو التقسيم والتجزئة ولاسيما في ظل ما شهدته الخبرة السودانية من انفصال لجنوب السودان. في هذه البيئة المعقدة والصعبة، تصبح مسالة الوساطة أكثر صعوبة من حالة السيناريو السابق. إذ ينبغي توسيع دائرة التفاوض لتشمل مجموعات أخرى ومحاولة فهم دوافع وقاصد كل طرف، بالإضافة إلى العوامل التي تشجع الانقسامات وظهور الجماعات المسلحة الجديدة.
إشكالية البحث عن وسيط
مع استمرار تصاعد الصراع، يصبح دور الجهات الفاعلة الخارجية بارزاً بشكل متزايد، مع سعي دول مختلفة لتحقيق مصالحها الخاصة والتنافس على النفوذ في المنطقة. ويمكن التذكير بأن مشاركة القوى الإقليمية الكبرى لها أهمية خاصة في الملف السوداني. فمصر، على سبيل المثال، لها مصالح استراتيجية بحكم علاقات القربى والاتصال الحضاري والثقافي بين الشعبين المصري والسوداني، وهو الأمر الذي يجعل السودان شأناً مصرياً ومصر شأناً سودانياً في المقابل. وقد اتضح ذلك في سرعة طرح القيادة المصرية لمبادرة لتسوية الصراع بين الطرفين بالتنسيق مع جنوب السودان.
من ناحية أخرى، من المحتمل أن تصل مصر والسعودية والإمارات وبعض الأطراف الفاعلة الأخرى إلى موقف مشترك إزاء سبل إنهاء الأعمال العدائية بما يمنع انزلاق السودان إلى سيناريو التقسيم والحرب الأهلية. وفي هذه الحالة، قد يصبح الحل عربياً، وهو ما يتسق وجهود المنطقة في إغلاق ملفات صراعات مشتعلة كما حدث في كل من سوريا واليمن. وفي ظل هذه المشاركة العربية، من المحتمل أن تمارس الجهات الفاعلة الأفريقية مثل الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (ايغاد) تأثيراً سياسياً محدوداً. وفي الواقع، في عام 2019، كانت الرباعية الدولية التي تتألف من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة - وليس الاتحاد الأفريقي أو الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية - هم أصحاب السبق في اتفاقية السلام. وهذا يسلط الضوء على ضعف تأثير الفاعلين الأفارقة في مجريات وأحداث سودان ما بعد البشير، والحاجة إلى مزيد من الجهود المتضافرة لتمكين المبادرات والمؤسسات التي تقودها أفريقيا.
على أن هناك دولاً أخرى في المنطقة، مثل إريتريا وإثيوبيا، لديها أيضاً مصلحة في الصراع. اتُهمت إريتريا، على سبيل المثال، بدعم حميدتي الذي زار أسمرة قبل أيام من بدء القتال، بينما تمتعت إثيوبيا بعلاقات أفضل مع البرهان. ومع ذلك، من المرجح أن يجري كلا البلدين حساباتهما بناءً على عوامل مثل موقف منطقة الأمهرة والنزاعات الإقليمية بخصوص إقليم الفشقة مع السودان. وفي هذه الحالة، يمكن أن تكون قضية سد النهضة على المحك.
ومن جهة أخرى، يبدو أن الولايات المتحدة منذ إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تفوض ملف السودان للقوى الإقليمية التي تمتلك حرية التصرف لتحقيق مصالحها الخاصة. وعلى أية حال، فإن مشاركة العديد من الجهات الخارجية في النزاع السوداني تمثل تحديات كبيرة لأي جهود وساطة. وربما يمثل تعدد الوسطاء مشكلة فيما يتعلق بالتنسيق والقيادة. ومن المرجح أن هذه الجهات الفاعلة سوف تكرس معظم الوقت من أجل تبني فهم ونهج مشترك، بخلاف الدعوة إلى وقف إطلاق النار. وقد يؤدي هذا إلى استهلاك المزيد من الوقت في الجدل فيما بينهم بدلاً من معالجة النزاع نفسه. ويعني ذلك أن الأبعاد الإقليمية والدولية للصراع السوداني تشكل تحديات كبيرة لأية جهود لحله، ومع سعي مختلف البلدان لتحقيق مصالحها الخاصة والتنافس على النفوذ في المنطقة، تخاطر الجهات الفاعلة الخارجية بفقدان البوصلة وغياب التنسيق فيما بينها.
في الختام، فإن الصراع العسكري الحالي في السودان هو في مرحلته الراهنة يجسد مقولات سيناريو حافة الهاوية، حيث يتنافس الجانبان على السيطرة على البلاد. وعلى الرغم من أن التكلفة البشرية والمادية الباهظة للصراع تثير القلق، لا تزال هناك فرصة لتسوية سلمية من خلال وقف إطلاق النار والحوار السياسي. ومع ذلك، إذا استمر الصراع، فمن المرجح أن يتطور إلى طور آخر أكثر كثافة وانتشاراً مع إمكانية وجود عدة جهات عسكرية تتنافس على السيطرة والنفوذ. علاوة على ذلك، فإن البعد العرقي والقبلي للصراع يمكن أن يجعله أكثر تعقيداً ويرفع التكلفة البشرية.
ومن جهة أخرى، فإن تزايد مشاركة الجهات الخارجية، لا سيما القوى الإقليمية ذات المصالح الاستراتيجية، قد يزيد الأمور تعقيداً وتشابكاً، وهو ما يجعل البحث عن وسيط لإنهاء الصراع أكثر أهمية. ففي الوقت الذي توجد فيه بالفعل العديد من المبادرات من قبل الجهات الفاعلة العربية والإفريقية والدولية لوقف إطلاق النار وتعزيز فرص السلام، فإن مشاركة لاعبين إقليميين آخرين، مثل إريتريا وإثيوبيا، يمكن أن يعقد الوضع. في نهاية المطاف، يتطلب الحل السلمي للصراع في السودان جهوداً مستدامة وجماعية من قبل جميع الأطراف المعنية.