السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

مرة أخرى يبلغ التوتر درجة عالية حول تايوان. ومرة أخرى أيضاً السبب المباشر لقاء مسئول أمريكي رفيع بالمسئول التايوني الأعلى. لكن هذه المرة كان اللقاء على الأراضي الأمريكية وليس على أراضي تايوان كما حدث العام الماضي.

المسئول الأمريكي الذي التقى رئيسة تايوان على نفس درجة المسئولة الأمريكية التي التقتها في أغسطس الماضي. فكلاهما رئيس لمجلس النواب. لكن الأولى كانت ديمقراطية والثاني جمهوري. فما هي دلالة ذلك؟، هل ثمة إجماع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حيال تايوان؟.

مرة أخرى حدث اللقاء رغم كل الاحتجاجات والاعتراضات والتحذيرات الصينية من مغبته. حدث اللقاء الأحدث رغم ما ترتب على اللقاء السابق من ردود فعل صينية. فما الذي يعنيه ذلك؟، هل واشنطن مصرة على السير في هذا الدرب الذي يغضب الصين؟، وهل هي غير آبهة بردود فعل بكين؟، أم أنها تريد أن تجر بكين لما هو أبعد من الخطابات الاحتجاجية والتدريبات العسكرية قرب تايوان؟.

الصين من جانبها أعادت التأكيد على ثوابتها فيما يتعلق بالقضية وتقدمت خطوة أخرى على صعيد تدريباتها العسكرية التي أجرتها قيادة المسرح الشرقي لجيشها. فهل ستبقى وفية للتوحيد السلمي أم أنها ستضطر إلى ضم تايوان عسكرياً؟.

لائحة اتهام

"إننا نعارض بقوة أي زيارة لقادة تايوان إلى الولايات المتحدة تحت أي مسمى أو أي ذريعة، كما نعارض بشدة أي تواصل رسمي بين الحكومة الأمريكية ومنطقة تايوان". كان هذا كلام الخارجية الصينية في الثلاثين من شهر مارس 2023 معتبرة أن ذلك بمثابة انتهاك شديد لمبدأ الصين الواحدة، والبيانات الثلاثة المشتركة مع الولايات المتحدة أعوام 1972 و1978 و1982، كما أنه بمثابة تقويض شديد لسيادة الصين ووحدة أراضيها وسلامتها. ولم تكتف بذلك بل اعتبرت الأمر بمثابة رسائل وصفتها بالخاطئة لمن وصفتهم بالانفصاليين الذين يعملون على استقلال تايوان. وترتيباً على ذلك، فإن التوتر الذي سيحل بمضيق تايوان مترتب على كل من سلطات تايوان، والجانب الأمريكي الساعي لاحتواء الصين عبر تايوان.

ما أن أعلن عن مرور رئيسة تايوان تساي إنج ون بالأراضي الأمريكية في طريقها لأمريكا الوسطى، حيث ما زالت تايوان تحتفظ بعلاقات مع بعض دول المنطقة، والتي تفقد علاقاتها بها تباعاً وكان آخرها هندوراس التي أقامت العلاقات مع الصين قبل أيام من زيارة تساي لكل من جواتيمالا وبليز (ويلاحظ هنا أنه بينما يزداد فقدان تايوان للدول التي تقيم معها علاقات دبلوماسية فيما يمكن أن نطلق عليه الاختناق الدبلوماسي، فإن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية أخرى ترفع من مستويات لقاءاتها بالمسئولين التايوانيين)، ما أن أعلن عن ذلك حتى ظهرت حالة من الاستنفار لدى كل الجهات المعنية الصينية. فإلى جانب وزارتي الخارجية والدفاع برزت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ممثلة في مكتب عمل تايوان، وكذلك لجنة الشئون الخارجية في المجلس الوطني لنواب الشعب أعلى هيئة تشريعية.

هذه الجهات وفي تناغم واضح قدمت ما يمكن تسميته بلائحة اتهام لكل من واشنطن وسلطات تايوان. وتتضمن لائحة الاتهام تلك عناصر رئيسية يتمثل أولها في توصيف الأمر بأنه ليس مجرد مرور، وإنما هو عبارة عن تواطؤ بين الجانبين للإتيان باستفزازات هدفها تقسيم الصين، بما يؤدي إلى التوتر في مضيق تايوان، وتعريض السلام والاستقرار فيه للخطر، والتأثير بالسلب على التوحيد السلمي، حيث يصل هذا التأثير إلى حد التقويض.

العنصر الثاني في تلك اللائحة يتمثل في أن لقاء رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي مع رئيسة تايوان بمثابة خطأ جسيم، نظراً لأن ذلك يرفع مستوى التفاعلات الرسمية بين الجانبين، حيث أن رئيس مجلس النواب يعتبر في المرتبة الثالثة بين المسئولين في النظام السياسي الأمريكي، وأن هذا الأمر يخلق المشاكل للعلاقات الصينية - الأمريكية نظراً لأن تايوان والموقف منها يعد ركيزة سياسية أساسية للعلاقات بين البلدين، وأول الخطوط الحمر التي يجب على واشنطن عدم تجاوزها، وهي تعلم أن القضية على رأس المصالح الوطنية الجوهرية للصين.

ثالث عناصر لائحة الاتهام هو التحايل والمراوغة من قبل الجانب الأمريكي الذي يستمر في الإعلان عن الالتزام بسياسة الصين الواحدة، ومن ثم عدم تأييده لاستقلال تايوان، أو استخدام المسألة كأداة لاحتواء الصين، ثم يتحايل على الأمور المبدئية ويفرغها من مضمونها. والدلائل على ذلك واضحة في مجالات ثلاثة على الأقل تتمثل في إمداد تايوان بالأسلحة، وتعميق الاتصالات العسكرية معها، فضلاً عن تكثيف التفاعلات الرسمية معها.

عنصر الاتهام الرابع موجه بالأساس لرئيسة تايوان وحزبها الديمقراطي التقدمي، الذي يستغل ما يحدث على صعيد العلاقات الصينية - الأمريكية لجلب المزيد من الدعم الأمريكي لطموحاتهم الاستقلالية. ومن ثم فإن زيارة المرور تلك ما هي إلا غطاء لمخططات الاستقلال. كما أنه يضعها في موضع الأداة في يد القوى المناهضة للصين.

عنصر الاتهام الخامس انتقل إلى الحيز الدولي الأوسع خاصة في شقه القانوني، حيث عد الأمر بمثابة انتهاك للقانون الدولي والأعراف الحاكمة للعلاقات الدولية، وقد وصف هذا الانتهاك بالخطير.

خطوات مضادة

أمام لائحة الاتهام تلك تصبح المطالب الصينية واضحة من الجانبين الأمريكي والتايواني. فالجانب التايواني عليه التخلي تماماً عما يخطط له بالنسبة للانفصال والاستقلال، وأن لا يذهب بعيداً في مسار محكوم عليه بالفشل، وأن لا يصل إلى نقطة اللاعودة، حيث أن مصير أنشطة استقلال تايوان سيكون مواجهة اختبار صعب. أما الجانب الأمريكي، فإن عليه "الالتزام بمبدأ صين واحدة وبنود البيانات المشتركة الثلاثة بين الصين والولايات المتحدة، والوفاء بالوعود التي قطعها الرئيس الأمريكي جو بايدن في مناسبات متعددة، والتوقف عن رفع مستوى العلاقات مع تايوان، ووقف جميع أشكال التفاعل الرسمي مع تايوان، والتوقف عن التحايل على مبدأ صين واحدة وتفريغه من مضمونه".

لم تكتف الصين بمجرد تقديم المطالب وإنما قامت بإجراءات أبرزها تلك التدريبات التي أجراها الجيش الصيني، والتي جاءت انطلاقاً من تمسك الجيش بمهامه، وبقائه في حالة تأهب قصوى، وحمايته سيادة البلاد وسلامة أراضيها بحزم، وكذلك حماية السلام والاستقرار عبر المضيق.

بطبيعة الحال، فإن الجانب الأمريكي يذهب إلى أنه ليس هناك داعٍ لما تقوم به الصين ليس فقط على صعيد المناورات العسكرية بل وأيضاً على صعيد التصريحات، معتبراً أن ما حدث هو أمر عادي وحدث من قبل، وأنه لم يغير سياسته تجاه تايوان، ولا ينوي تغيير الوضع القائم. رئيسة تايوان التي عادت من لقاء رئيس مجلس النواب على الأراضي الأمريكية التقت فور عودتها وفداً تشريعياً أمريكياً برئاسة مايكل كول رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب. وفي لقاءاتها بالمسئولين الأمريكيين ركزت رئيسة تايوان على جانبين أساسيين: أولهما ما يمكن تسميته بالتقارب القيمي عبر الحديث عن القيم الديمقراطية، والعزف على الوتر الخاص بالنظم التسلطية، وهو وتر يروق لواشنطن ويغضب بكين كثيراً، خاصة إذا ما كانت السهام موجهة لها مباشرة. وقد كان ذلك واضحاً وجلياً على خلفية القمة الثانية للديمقراطية التي نظمتها واشنطن نهاية شهر مارس الماضي.

وثانيهما، الإلحاح على استمرار الدعم الأمريكي عبر ضمانات أمنية وتعاون أمني. لذلك لم يكن مستغرباً أن يقول مايكل كول في لقائه بتساي إن على الديمقراطيات أن تقف صفاً واحداً في وجه الاستبداد والشمولية، معتبراً أن الصين الشيوعية تتصرف بعدوانية تجاه تايوان ومنطقة المحيط الهادي. بالإضافة إلى ذلك فإنه تحدث عن اتفاق فيما بين الجمهوريين والديمقراطيين فيما يتعلق بدعم تايوان.

بالعودة إلى تدريبات الجيش الصيني، والتي استمرت لثلاثة أيام في الفترة من الثامن إلى العاشر من شهر أبريل الحالي حول تايوان، فإنها لم تقف عند محاكاة حصار كامل للجزيرة، وإنما كانت هناك محاكاة للقيام بهجمات داخل الجزيرة. ومن ثم فقد شاركت في المناورات القوات البحرية والجوية، بما في ذلك حاملة الطائرات الصينية شاندونج.

وبينما كانت المناورات الصينية في يومها الأخير، قامت واشنطن بإرسال مدمرة إلى بحر الصين الجنوبي، وقد مرت بالقرب من جزر تعتبرها الصين ملكية خالصة لها دون أن تحصل على موافقة صينية، وهو ما اعتبر مخالفة، بينما تذهب واشنطن إلى أنها لم تخترق قواعد الملاحة الدولية. وهذه قضية تتجدد من آن إلى آخر في ظل وجود نزاعات حول الجزر في بحر الصين الجنوبي بين بكين وبعض دول جنوب شرقي آسيا، ودخول واشنطن على الخط، وهو ما ترفضه بكين تماماً، وهذا يدل على أن مسألة تايوان لا يمكن معالجتها بعيداً عن مجمل ما هو دائر بين كل من واشنطن وبكين من تفاعلات، كما أنه لا يمكن فصلها عن مجمل تحركات الطرفين في العالم، وحيال قضاياه المعقدة والمتشابكة، وعلى رأسها قضية الحرب في أوكرانيا.

ماذا بعد؟

من الواضح أن الأمور تزداد تعقيداً فيما يتعلق بقضية تايوان. لكن في نفس الوقت ما زالت الأمور دون المواجهة العسكرية المباشرة. فهل ستظل الأمور عند هذا السقف أم أنها يمكن أن تنزلق؟ وإذا حدث هذا الانزلاق فإلى أي مدى يمكن أن يصل؟.

الصين لا تخفي احتمالية اللجوء إلى القوة العسكرية كخيار أخير للمحافظة على سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها. فهي وإن كانت مع التوحيد السلمي وسياسة النفس الطويل، إلا أنها تلحظ تصاعداً فيما تسميه النزعات الانفصالية في تايوان، وتزايداً في الدعم المقدم لأنصار هذه النزعات. والدعم هنا ليس سياسياً فقط، وإنما عسكرياً. كما أنها لا تخفي قلقها مما تعتبره تلاعباً بمبدأ صين واحدة وتفريغاً له من مضمونه عبر سلسلة من الإجراءات والتصرفات الأمريكية، خاصة وأن بعض المسئولين الأمريكيين أشاروا إلى أنهم لن يقفوا صامتين في حال تعرض تايوان لاجتياح صيني.

وهنا تطرح تساؤلات من قبيل: هل سيكون تحرك الولايات المتحدة شبيه بما تقوم به مع أوكرانيا في مواجهة روسيا أم أنها ستنخرط مباشرة في عمليات عسكرية مباشرة ضد الصين؟.

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا كثر الحديث عن إمكانية تكرار السيناريو نفسه في تايوان. بل إن البعض ذهب إلى أن الولايات المتحدة تبالغ في استفزاز الصين حتى تدفعها للقيام بما قامت به روسيا في أوكرانيا. والواقع أن المساواة في المقاربة بين حالتي أوكرانيا وتايوان تحمل من البداية اختلالات جسيمة، ومن ثم فإن ما يترتب على تلك المقاربة المختلة لا يمكن التسليم به. فالسياسة الصينية تختلف كثيراً عن السياسة الروسية من ناحية أولى، كما أن حالة تايوان تختلف كلياً عن حالة أوكرانيا. ناهيك عن أن السيناريو الذي حدث في أوكرانيا كان من الممكن أن تكون له بدائل. والصين تدرك تماماً أنه يمكنها اتخاذ خطوات تدريجية في التعامل مع التطورات، وهذا ما حدث برفع السقف عبر المناورات العسكرية ونوعيتها وأهدافها بما يقدم رسالة ردع واضحة تجعل باقي الأطراف تقف عند حدود معينة، وفي نفس الوقت فإن الرسالة واضحة ومفادها أنه إذا لم يُجد الردع فسيتم تنفيذ ما تم التدريب عليه.

بطبيعة الحال، لا تجري الأمور بهذه البساطة على أرض الواقع. لكن هناك حسابات كثيرة تؤخذ في الاعتبار لدى كل الأطراف. فعلى سبيل المثال، فإن واشنطن رغم كل "مراوغاتها" بالمنظور الصيني لم تصل إلى حد التحول عن سياسة صين واحدة، لأنها تدرك مدى خطورة ذلك الأمر، ومن ثم وعورة الدرب الذي سيترتب عليه ليس فقط في علاقاتها المباشرة مع الصين، وإنما في مجمل العلاقات الدولية.

فإذا كانت كل من بكين وموسكو تتحدثان عن علاقات استراتيجية لاحدود لها، إلا أنها حتى هذه اللحظة لا ترقى إلى مستوى التحالف. هذا يمكن أن يحدث لو أقدمت واشنطن على إجراء تغيير في سياستها حيال تايوان. وهذا إن حدث وتحالفت موسكو وبكين، فلن يقف الأمر عندهما، بل إن الأمر ربما لن يقف عند مواجهة عسكرية في أجواء تايوان، وإنما يمكن أن تكون هناك جبهة عريضة ممتدة من أوروبا إلى المحيط الهادي. فلا يجب إغفال ما تقوم به واشنطن من ترتيبات وتحالفات أمنية في آسيا.

وعلى الأرجح، فإن كل الأطراف تدرك كارثية هذا السيناريو، ومن ثم فإنها ستتصرف على الأغلب ولفترة طويلة دونه، وربما لن تصل الأمور إليه أبداً. ومرة أخرى، فإن الحسابات الرشيدة تقول إنه رغم كل المماحكات، فإن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة قد وصل في عام 2022 إلى حوالي 700 مليار دولار، رغم كل القيود والإجراءات والإجراءات المضادة التي فرضت من الجانبين في السنوات الماضية. والأمر لا يرتبط فقط بهذه الكثافة في التبادل التجاري وغيره من التفاعلات الاقتصادية، التي وإن كانت تتعرض للتضييق إلا أنها مستمرة، وإنما يرتبط بعوامل أخرى لا تقل أهمية بل إنها قد تفوق هذا العامل أهمية، ويتمثل أبرزها في عاملين أساسيين: أولهما، حسابات القوة الشاملة. وثانيهما، خطورة الانزلاق إلى استخدام الأسلحة النووية.

وعلى المديين القصير والمتوسط، ستجري التفاعلات في إطار دورات من التصعيد والتهدئة. وربما يترسخ الاتجاه الآخذ في التشكل والمتمثل في تقارب فترات التوتر العالي. لكن على المدى البعيد، يبقى الأمر مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما في ذلك توافق كل من بكين وتايبيه على صيغة وحدوية.