د. حسن أبو طالب

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تتسارع الأحداث فى السودان نحو الأسوأ، القتال الضارى الذى اندلع صباح السبت 15 أبريل الجارى (2023)، بين قوات ما يعرف بالدعم السريع وقوات الجيش السودانى، واللذين يعرفان بالمكون العسكرى وفقاً للسائد فى الأوساط السودانية، يضع السودان وشعبه والعملية السياسية التى استهدفت التحول المتدرج نحو صيغة حكم مدنى على مفترق طرق خطير. القتال والمواجهات العسكرية المفتوحة زمنياً هى فى حد ذاتها مؤشر خطر جسيم. تفكيك الجيوش الوطنية بأدوات محلية أو خارجية أو بمزيج منهما بات معروفاً ومشهوداً فى خطط القوى الدولية وحلفائها الإقليميين لتعميق الانقسامات فى البلدان المستهدفة، لغرض السيطرة المستدامة عليها وعلى مصائرها خدمة للخطط الاستراتيجية ذات المآلات المرتبطة بالصراع على قمة النظام الدولى.

السودان بموقعه الإفريقى والعربى يمثل بؤرة جاذبة لمثل هذه الخطط الصراعية الكبرى، والتى لا يصدها إلا مجتمع متماسك وصلب، ومتحد من كل مكوناته المدنية والعسكرية، يرافقه نظام سياسى يحمي حقوق كل تلك المكونات، تحت سقف القانون والدستور المقبول من الجميع. الخلل فى أى من هذين الشرطين المتكاملين مضموناً وسلوكاً، من شأنه أن يقود إلى ما لا يُحمد عقباه، وهو ما يواجهه السودان فى تلك اللحظة الحزينة، حيث يتقاتل السودانى مع أخيه السودانى، فى ظل مبررات وأسباب لا علاقة لها بمصلحة الوطن والشعب، ويغلب عليها طموحات شخصية، أعاقت كل الجهود التى بُذلت فى الأشهر الماضية لوضع السودان على بداية عملية سياسية يفترض أنها تُبشر بقدر من الأمل بالرغم من بعض الثغرات التى كان يجب معالجتها خطوة بخطوة، حتى يتم دمج كل المكونات السودانية فى صنع مستقبل بلدهم.

الأسباب المعلنة لبدء قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة، عملية السيطرة على المرافق العسكرية الاستراتيجية بما فيها المطارات العسكرية، ومقار الحكم والإذاعة والتليفزيون والمطارات المدنية وإغلاق الطرق المؤدية إلى العاصمة الخرطوم والمدن الكبرى، لا تبدو مقنعة؛ فخطة التحرك المتزامن لقوات الدعم فى أكثر من اتجاه وأكثر من مدينة، منذ ليل الأربعاء 12 إبريل الجارى، تكشف عن تخطيط مسبق وليس مجرد رد فعل على ما وُصف بـ"اعتداء" الجيش على بعض مقرات الدعم السريع، وهو المبرر الذى حاولت دعاية قوات الدعم إبرازه، بهدف إظهار مشروعية الدفاع عن تلك المقرات ومعاقبة قوات الجيش وقياداته.

هذا المبرر الظاهرى والدعائى لا يخفى أن هناك خلافات عميقة بين قائد قوات الدعم وقيادة القوات المسلحة فيما يتعلق بعملية دمج قوات الدعم فى الهيكل العام للقوات المسلحة، كشرط لازم لوحدة المكون العسكرى وخضوعه للقانون والدستور والأعراف المعمول بها فى أى بلد تسوده أوضاع طبيعية. ومعروف أن هذا الخلاف يستند إلى طبيعة قوات الدعم التى لها وضع خاص، سواء من حيث نشأتها التى تعود إلى عام 2003 كمجموعة مسلحة تمارس حرب العصابات عرفت باسم "الجنجويد"، وما قدمته من خدمات كبرى لنظام الرئيس المخلوع البشير فى سحق تمرد أبناء دارفور من غير العرب اعتراضاً على تهميشهم من قبل البشير ونظامه، ما دفع البشير لمكافأة قائد الجنجويد وقواته بإضفاء شرعية قانونية خاصة، سهلت لها حضوراً فى  المشهد السياسى والأمنى بلا حدود، حيث لا تلتزم بالضوابط التى تنظم عمل القوات المسلحة، ولديها حرية حركة ومقرات كبيرة منتشرة فى ربوع السودان بدون أى رقابة، وهى استقلالية تعفيها من الخضوع للقوانين على نقيض القوات النظامية، وتُثار بشأنها تساؤلات عديدة حول مصادر تسليحها وتمويلها، الملفوفة بالغموض والأقاويل، لاسيما ما يتعلق بسيطرة دقلو وأسرته على مناجم الذهب فى دارفور.

والراجح أن عملية الدمج فى القوات النظامية والتى هى مكون مهم ورئيسى فى أى عملية سياسية تنقل السودان إلى حكم مدنى دستورى، كانت تسبب لدى عناصر تلك القوات حساسية كبرى، لاسيما لدى قادتها الكبار، الذين ينظرون إلى الدمج النظامى أسلوباً ينزع عنهم كل الامتيازات التى يتمتعون بها لاسيما التأثير المباشر الخفى والظاهر فى الشأن السياسى العام فى السودان ككل، ويضع عليهم قيوداً ومسئوليات ليسوا مُعتادين عليها، كما يقيد حضورهم الطاغى فى الاقتصاد السودانى لاسيما مناجم الذهب، التى تمثل عاملاً رئيسياً فى الثراء الكبير لقيادة الدعم السريع، بالرغم من الأوضاع المعقدة للاقتصاد السودانى ككل.

 صحيح هنا أن الخلاف الظاهر يكمن فى رفض دقلو قيادة الفريق البرهان لقيادة القوات المسلحة فى المرحلة الانتقالية التى اتفق عليها فى الاتفاق الإطارى الذى كان يفترض أن يتم التوقيع عليه فى 6 إبريل الجارى، حيث طالب دقلو بأن تكون قيادة القوات المسلحة المطعمة بعناصر الدعم السريع التى ستدمج تدريجياً، لشخص مدنى كرئيس الوزراء، وهو ما رفضته القوات المسلحة، جنباً إلى جنب مع انتقادات الجيش السودانى للدعم السريع بكونها عناصر عسكرية غير منضبطة، وأن دمجها سيثير الكثير من مشكلات الانضباط والولاء داخل الهيكل العام للجيش السودانى، لاسيما وأن قوات الدعم تتضمن عناصر غير سودانية ومن بلدان مجاورة، ما سيضع أعباء كبرى على الجيش فى المرحلة المقبلة.

الأسباب وثيقة الصلة بالطموحات الشخصية، والثراء الاقتصادي، والانفلات من قواعد الانضباط القانونى لدى قادة الدعم السريع، وتلك الموضوعية الُمشار إليها، تفسران اندلاع القتال، كما تكشف حجم المراوغة الذى حاولت به قوات الدعم السريع تبرير تحركها العسكرى غير القانونى باعتباره يستهدف تحرير السودان من "احتلال مصري" مزعوم، لعل ذلك يضفى شرعية وتأييداً شعبياً على تحركها للسيطرة على السودان وشعبه، وإخضاع القوات السودانية المسلحة لأهدافها. وهو الأمر الذى يعكس التكوين النفسى والفكرى لتلك القوات وثيق الصلة بنظام البشير، والذى لعب دوراً غير مسبوق لإثارة الكراهية لدى عموم الشعب السودان تجاه مصر والمصريين، والتى ترد عليها مصر الرسمية والشعبية باحتضان الآلاف من السودانيين الذين جاءوا إليها هرباً من تردى الأوضاع فى بلدهم، ويُفضلون الإقامة والعيش فى مصر، حيث يُعاملون بأريحية كما يُعامل المصرى فى كل شئ.

معروف أن مصر حريصة على التعاون مع كل الجيوش العربية، وإجراء التدريبات المشتركة وفق برامج معلنة، تستهدف تعزيز التعاون العسكرى والأمنى انطلاقاً من رؤية عروبية راسخة تستهدف حماية الأمن القومى العربى، وتثبيت الاستقرار فى المحيط الإقليمى ككل، ومواجهة عصابات التهريب والجريمة المنظمة وجماعات التطرف الدينى المسلحة. ووجود قوات مصرية محدودة فى مطار مروى السودانى هو جزء من خطط التدريب المشترك المعلن مع القوات المسلحة السودانية، وأى تزييف لتلك الحقائق مردود على ناشره، ويفضح المرامى الخبيثة له، وأهدافه فى خدمة القوى الطامحة للإضرار بالمصالح السودانية والمصرية المشتركة. ولا شك لدى أي مصرى وسودانى وطني موضوعي بأن القوات المصرية وشقيقتها السودانية تظلان درعاً للأمن المشترك.

  هذا القتال المأساوى الذى بشر به دقلو بأنه سوف يستمر أياماً حتى النصر على القوات المسلحة لبلاده، وأنه يحمل الخير للشعب وسيقود إلى التحول الديمقراطى، والرافض لأى وساطات من أجل التهدئة والتفاوض لاحقاً، يثير فى الواقع الكثير من الشكوك حول المستقبل، لاسيما العملية السياسية والوساطات الرباعية والأممية والإفريقية، وكيف أنها لم تضع فى اعتبارها تلك الحساسيات والطموحات الضارة، وتصورت أن قوة الدفع الذاتى للاتفاق الإطارى يمكنها أن تتجاوز كل تلك الإشكاليات العميقة، وأن استبعاد بعض المكونات السودانية المتحفظة على أجزاء مهمة من الاتفاق الإطارى، لا يسبب عوائق كان يجب التعامل معها بجدية أكبر لجعل العملية السياسية شاملة للكل، وغير تمييزية،  قبل الاندفاع إلى خطوات غير مكتملة الأبعاد.

فمن ناحية، لا يُتصور لقوة لا تتجاوز 100 ألف مقاتل غير نظامى، ولا تزيد خبراتها عن حروب العصابات وممارسة الانتهاكات ضد المواطنين، وإفتعال الأزمات، ومُسلحة بأسلحة خفيفة، أن تكون قادرة على بسط سيطرتها على قوات نظامية ذات تسليح أكبر وخبرات قتالية وإدارية واتصالية كبرى، ويمكنها بعد ذلك بسط السيطرة على بلد متنوع وكبير الحجم جغرافياً كالسودان، وفرض نظام سياسى يعكس أهواء قادتها. والمرجح أن القتال فى حال رفض أى وساطات، سوف يستمر بالفعل عدة أيام إن لم يكن عدة أسابيع، وسوف يقود إلى تدمير البنية الأساسية لقوات الدعم السريع وحلها، والتعامل مع الرافضين منها كميليشيا متمردة ضد القانون العام، وإخضاع قادتها للمحاكمات لاحقاً. أما فى حال قبول وساطة بعد أيام قليلة من القتال، كما تأمل الوساطات المتعددة العاملة فى الداخل السودانى، فلن تكون سوى مرحلة لالتقاط الأنفاس، فعنصر الثقة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ككل، وليس فقط بين القادة هنا والقادة هناك، بات غائباً تماماً، كما أن ثقة المكون المدنى فى محترفى الانقلابات والنزوع إلى تدمير البلاد، بات مكسوراً وغير قابل للإصلاح إلا بمعاناة شديدة.

مكونات الوضع السودانى على النحو السابق ترنو إلى قفزة كبرى نحو مجهول لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وفى حالة واحدة قد تحمل بعض بصيص من الأمل، وهو أن ينتهى القتال بأسرع ما يمكن، ولم تعد هناك فصائل أو مجموعات مسلحة غير نظامية بأى شكل من الأشكال، وتختفى معها طموحات شخصية غير مسبوقة فى نهب وتدمير بلد كبير، يستحق شعبه مستقبلاً أفضل مصحوباً بعزة وكرامة.