شهدت الضفة الغربية وخاصة المسجد الأقصى تصعيدًا غير مسبوق منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية (السابعة والثلاثين) برئاسة بنيامين نتنياهو فى 29 ديسمبر 2022، كما شهد الموقف الداخلى فى إسرائيل توتراً شديداً اعتراضاً على سياسات الحكومة الجديدة فيما يختص بسعيها لإجراء بعض التعديلات على نظام القضاء فى إسرائيل، ولكن سرعان ما تراجعت التوترات والمظاهرات الداخلية عندما أحس الإسرائيليون بأن هناك تهديداً خارجياً يتمثل فى صواريخ حماس والجهاد الإسلامى التى انطلقت من غزة ولبنان وسوريا بالإضافة إلى عمليات الدهس وإطلاق النار على المستوطنين فى الضفة الغربية وتل أبيب، فماذا وراء هذا التصعيد الأخير وهل هو مؤهل للاستمرار أم التهدئة؟
بداية، لابد من النظر لعناصر تصعيد الموقف، حيث أننا أمام ائتلاف حكومى دينى متطرف برئاسة بنيامين نتنياهو، لم يسبق لإسرائيل أن شكلت هذا الائتلاف الحكومى من قبل، بل إنه ضم أكثر العناصر الدينية المتطرفة فى إسرائيل وهو حزب الصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموطريتش ويضم معه إيتمار بن جافير رئيس حزب القوة اليهودية وهما حزبان لهما توجهاتهما الواضحة والمعلنة والمتمثلة فى القضاء على الفلسطينيين وطردهم من الضفة الغربية وخاصة القدس، وهدم المسجد الأقصى وإقامة المعبد المزعوم، وجاءت فرصتهما لتحقيق هذه الأهداف من خلال تواجدهما فى الائتلاف الحكومى وتوليهما مناصب تمكنهم من تنفيذ ذلك، فسموطريتش تولى وزارة المالية وبن جافير تولى وزارة الأمن القومى.
وتزامن ذلك مع معاناة نتنياهو من احتمالات مثوله أمام القضاء متهماً فى خمسة قضايا مخلة بالشرف (استغلال سلطات وتلقي رشى والاحتيال وخيانة الأمانة) وطوق النجاه الوحيد له هو توليه رئاسة الحكومة وإجراء بعض الخطوات التى تُؤمِّن له عدم دخول السجن بسبب هذه القضايا وهى:
1- التصديق على تعديلات قضائية أهمها منع المحكمه العليا من حقها فى إلغاء القوانين التى يوافق عليها الكنيست الإسرائيلى.
2- التصديق من الكنيست على قانون يقضى بعدم محاكمة رئيس الوزراء طالما هو مازال يشغل الوظيفة.
ولكى ينفذ هذين البندين كان لزاماً عليه حشد أصوات مؤيدة له فى الكنيست، وقد وجد ضالته فى الأحزاب الدينية المتشددة والتى اتفق معها على تحقيق توجهاتها الخاصة بالاستيطان والقدس فى مقابل معاونته على تمرير قانون التعديلات القضائية ووافق على توزيع حصة الوزارات كما فرضوا عليه لدرجة أنه عين إرييه درعى رئيس حزب شاس وزيراً للداخلية، رغم أن القانون فى إسرائيل لا يسمح لمن قضى عقوبة سجن بسبب جريمة مخلة بالشرف بأن يتولى حقيبة وزارية، إلا أن نتنياهو استصدر قانوناً من الكنيست باستثنائه وتم تعيينه فعلاً وبعد أسبوع من التعيين اعترضت المحكمة العليا على القرار وتم تنحيته من منصبه، وقام نتنياهو بتوقيع اتفاقيات ائتلافية مع هذه الأحزاب وتم الاتفاق ضمنياً معهم على تشكيل قوات الحرس الوطنى وتكون تحت إمرة وزير الأمن القومى (بن جافير) لكى يطلق له العنان لتنفيذ مخططاته فى القدس والمسجد الأقصى، وجاءت هذه الفكرة بعد أن أعطى نتنياهو لبن جافير بعض الصلاحيات فى الجيش وحرس الحدود، الأمر الذى صعّد من اعتراضات رئاسة الأركان الإسرائيلية واعتبرته تدخلاً غير مسبوق فى اختصاصات ومهام الجيش الإسرائيلى ويُنبِئ بكوارث داخل الجيش.
وبعد تولى الحكومة الإسرائيلية بأقل من أسبوع، بدأت الأحزاب فى تنفيذ مخططاتها، حيث بدأ بن جافير وبحماية الشرطة ومعه المستوطنون بتنفيذ اقتحامات للمسجد الأقصى، الأمر الذى أثار حفيظة العالم الإسلامى وأيضاً الولايات المتحدة، وتزامناً مع ذلك اعترضت المحكمة العليا على تعيين ارييه درعى وتم تنحيته وبدأ نتنياهو عن طريق وزير العدل في تقديم قانون بإجراء تعديلات فى النظام القضائى فى إسرائيل، وكانت أبرز النقاط في قانون التعديلات هى إمكانية سحب السلطات من قضاة المحكمة العليا، بوصفها مراقباً على الكنيست (البرلمان) والحكومة، وتقليص صلاحية المحكمة العليا في إسقاط القوانين التي ترى أنها غير قانونية، كما تحدد التعديلات شروطاً جديدة لتعيين قضاة المحكمة العليا، بخلاف ما هو معمول به حالياً، وهو لجنة تضم 9 قضاة من جهات متعددة مثل نقابة المحامين والحكومة والبرلمان والجهاز القضائي، ووفقاً لهذه التعديلات، فإن بوسع أعضاء البرلمان وبأغلبية بسيطة رفض قرارات المحكمة العليا.
ومع تقديم الحكومة التعديلات للكنيست للتصديق عليها بالقراءة الأولى، بدأت الاعتراضات فى الشارع الإسرائيلى ووصلت أزمة مشروع التعديلات القضائية في إسرائيل إلى ذروتها يوم الأحد 26 مارس الفائت (2023)، عندما خرج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع من شمالي البلاد إلى جنوبها، رفضاً لهذه التعديلات، في واحدة من أكبر الاحتجاجات في تاريخ إسرائيل، كما اعترضت الولايات المتحدة على لسان الرئيس جو بايدن الذى أبدى اعتراضه على التعديلات وطالب نتنياهو بالرجوع عنها وبدأ التلاسن بين وزراء الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية لدرجة أن بن جافير علق على رأى الرئيس الأمريكى بايدن وقال إن "إسرائيل ليست نجمة فى العلم الأمريكي".
وفى سياق الأحداث، أقال نتنياهو وزير الدفاع الإسرائيلى يؤاف جالانت لاعتراضة على مشروع قانون التعديلات القضائية، مما صعّد من الاحتجاجات الداخلية فى إسرائيل وخاصة داخل الجيش وأصدرت الأجهزة الأمنية تقارير تنصح بها نتنياهو بتأجيل الموافقة على التعديلات القضائية، وشعر نتنياهو بالخطر وبدأ يواجه تهديدات أخرى من داخل الائتلاف وخاصة بن جافير وزير الأمن القومى، إلى أن وصل إلى اتفاق بتأجيل قانون التعديلات القضائية فى مقابل الإسراع فى إنشاء قوات الحرس الوطنى التى ستتبع بن جافير، واستمرت الاحتجاجات والاقتحامات للمسجد الأقصى وطرد المصلين منه وحرق أجزاء منه مما دفع الفصائل الفلسطينية خاصة حماس والجهاد الإسلامى إلى التصعيد وإطلاق الصواريخ من ثلاثة جبهات على إسرائيل من قطاع غزة ولبنان (مدينة صور) ومن سوريا وتم اعتراض الصواريخ بواسطة منظومة القبة الحديدية ولم تقع أضرار ملموسة فى إسرائيل، إلا أنها جعلت الإسرائيليين، حكومة وشعباً، يشعرون بالخطر وخاصة أن تلك الأحداث تزامنت من احتفالات اليهود بعيد الفصح.
وكان رد الفعل الإسرائيلى متمثلاً فى قصف جوى لأهداف محددة فى قطاع غزة ومدينة صور اللبنانية ومواقع إطلاق الصواريخ فى سوريا، ولكن دون تصعيد للموقف العسكرى من الجانبين سواء الإسرائيلى أو الفلسطينى مع استمرار عمليات اقتحام المسجد الأقصى متزامنة مع احتفالات عيد الفصح بواسطة المستوطنين ووزراء وأعضاء الكنيست المتطرفين وعلى رأسهم سموطريتش وبن جافير، وهو ما عكس إصرار الحكومة على تنفيذ مخططاتها بالمسجد الأقصى، وهى على أقل تقدير ما توصلت اليه الآن، وهو التقسيم الزمانى والمكانى للمسجد الأقصى، ويقصد هنا بالتقسيم المكانى أن يخصص لليهود المنطقة بين المسجد العمرى وحائط البراق (حائط المبكى) لإقامة صلواتهم وذبح قرابينهم فيها دون تدخل من الفلسطينيين وتحت حماية الأمن الإسرائيلي، والتقسيم الزمانى مقصود به السماح للمسلمين بالدخول للمسجد الأقصى فى توقيتات الصلاه الخمس فقط بينما فى الفواصل بين هذه التوقيتات يسمح لليهود بالدخول وإقامة صلواتهم فى المكان الذى تم تحديده، وستكون هذه فقط البداية لأن المخطط لحزب القوة اليهودية الذى يقوده بن جافير هو هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
خلاصة القول، إن الحكومة الإسرائيلية نجحت فى تحقيق بعد النجاحات المعتبرة على طريق إنجاز أهدافها النهائية، وهو خلق وضع جديد فى المسجد الأقصى، وهو التقسيم المكانى والزمان للمسجد الأقصى، وتشكيل قوات الحرس الوطنى، فضلاً عن نجاح الحكومة فى احتواء التوتر الداخلى والمعارضة الإسرائيلية بقيادة رئيس الحكومة السابق يائير لابيد بتأجيل عرض قانون التعديلات القضائية إلى الفصل التشريعى الثانى للكنيست. ونشير هنا إلى أن قانون يهودية الدولة الذى أصدره الكنيست فى 19 يوليو 2018 كان يعرض على الكنيست ويؤجل لمدة خمس سنوات، وفى النهاية تم إقراره بالقراءة الثالثة وتنفيذه، وهو ما قد يحدث مع قانون التعديلات القضائية، ولكن لن ينتظر لوقت طويل لأنه سيحمى نتنياهو شخصياً من السجن، ويبقى هنا الرد على صواريخ حماس من الجبهات الثلاثة، فلا يستبعد أن تنفذ إسرائيل عمليات قصف أو اغتيالات للقيادات الفلسطينية الفاعلة فى المقاومة على أى من الجبهات الثلاثة مع تأجيل التورط فى عمل عسكرى فى لبنان تحسباً لردود فعل حزب الله التى ستلحق ضرراً بالجبهة الداخلية بإسرائيل وتنال من قدرة الردع الإسرائيلية.