فى إطار فهم حالة التنوع داخل المجتمعات، جرى تقسيمها تقليديا على أساس الدين أو العرق أو المذهب أو اللون. وظهرت أدبيات عدة فى حقول معرفية كثيرة لفهم متى تتحول هذه الانقسامات التقليدية إلى مصدر للصراع، وكيف يمكن بناء ديمقراطيات فاعلة داخل هذا النمط من المجتمعات، فظهرت مفاهيم مثل المحاصصة، والديمقراطية التوافقية... إلخ. وظهرت كذلك الخبرات المجتمعية والدولية المختلفة؛ فوقعت بعض المجتمعات فى براثن الحروب الأهلية، بينما نجح بعضها فى تجنب هذه الخبرات السلبية، ما فتح المجال أمام اجتهادات نظرية لتقديم إجابات عن أسئلة: لماذا، وكيف تباينت هذه الخبرات...إلخ؟ واقع الأمر أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة يجب أن يسبقها سؤال مهم: كيف يدرك المجتمع حالة التنوع من الأساس؟ فقد يشهد مجتمع العديد من أشكال التنوع، لكنه لا يدرك هذا التنوع بشكل سلبى، ما يُضعِف من فرص تحوله إلى مصدر للصراع، ومن ثم يقلل من فرص تحوله إلى عامل ضغط على المجتمع.
فى مواجهة هذا الجدال التاريخى المفتوح، جرى خلال يومى الرابع والخامس من أبريل الحالى، بدعوة من الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، جدال من نوع مختلف بين نخبة من الأكاديميين والمفكرين المصريين حول التنوع وآليات التضامن المجتمعي. لم يكن موضوع النقاش العلاقة بين المسلمين والأقباط، أو غيرها من القضايا ذات الصلة. كانت القضية الأساسية هى كيف يمكن تعزيز التضامن المجتمعى فى مصر فى المرحلة الراهنة؟ إن الجمع بين التضامن كفكرة أو كآلية من ناحية، والتنوع من ناحية أخرى، سواء فى عنوان المؤتمر أو فى النقاشات المهمة التى جرت، لم يأت مصادفة، بقدر ما جاء كاشفا عن الخصوصية التاريخية لعملية تَكوُن وتطور الدولة والمجتمع فى مصر، وهى خصوصية حاضرة بالتأكيد فى وعى النخب المصرية، لكن الأهم أنه جاء محصلة لمجموعة من العوامل المهمة ترتبط بطبيعة التحولات العميقة التى تجرى فى مصر منذ عام 2013 وحتى الآن.
أول هذه العوامل يتعلق بطبيعة القيادة السياسية المصرية الراهنة، وهى قيادة إصلاحية تحديثية، تسعى إلى إدخال تغييرات عميقة على مستوى الدولة المصرية والمجتمع المصرى، فى مختلف المجالات وفى أسرع وقت ممكن، تعويضا لعقود طويلة من الركود والإهمال والتدهور. لكن الأهم هنا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يؤمن إيمانا عميقا بمفهومى الدولة الوطنية، والمواطنة كأساس للعلاقة بين المواطن والدولة. بل إن سياق ظهور هذه القيادة ارتبط بالدفاع عن الدولة الوطنية وعن الهوية المصرية التى واجهت تهديدا وجوديا خلال فترة حكم الإخوان وحلفائهم عقب أحداث يناير 2011، الأمر الذى أعطى المشروع الإصلاحى الراهن للرئيس السيسى درجة كبيرة من المصداقية. العامل الثانى، يتعلق بنجاح المصريين فى إنهاء مشروع الإسلام السياسى، وهو مشروع أسس لتقسيم المصريين ليس فقط على أساس الدين والمذهب، ولكن على أساس درجة الإيمان ونقائه، وهو ما أسس للتمييز بين المسلمين أنفسهم، وليس فقط بين المسلمين والأقباط. هكذا، فإن توحد المصريين ضد هذا المشروع الظلامى أسس لتوحدهم لاحقا تحت راية الدولة الوطنية وعلى أساس مبدأ المواطنة، وتوحدهم خلف المشروع الإصلاحى الراهن، وليتراجع بجانب ذلك أيضا، فى الإدراك العام، خطوط تقسيم المجتمع على أسس دينية.
العامل الثالث، يتعلق بأولوية قضية التنمية، التى باتت القضية المركزية للدولة المصرية والمجتمع المصري. هيمنة قضية التنمية كان لها تأثيرها المهم على إدراك المجتمع المصرى لمسألة التنوع والهويات الفرعية من زاويتين:
الأولى، إن ما ارتبط بعملية التنمية الجارية من تعميق لعملية الربط بين الأقاليم والمدن المصرية، وتراجع التمييز بين هذه الأقاليم على أساس موقعها من عملية التنمية أو على أساس سهولة الانتقال والوصول إليها، أدى بدوره إلى تراجع الجهوية فى مصر أو الهويات الجغرافية المحلية، إن جاز التعبير، مقابل تعمق الهوية الوطنية المصرية. عملية تحديث البنية التحتية، وتعميق الربط بين الأقاليم والمدن المصرية، شرط مهم فى سياق عملية التنمية الاقتصادية الجارية، لكن تداعياتها على تعميق الهوية الوطنية المصرية لا تقل أهمية.
الثانية، إن النجاحات المهمة التى تحققت على صعيد عملية التنمية الجارية أدت إلى إعادة تقسيم المجتمع المصرى على أسس وظيفية، وتراجع خطوط التقسيم التقليدية على أساس الدين أو غيره. عملية التنمية الجارية أدت إلى تعدد وتعقد المصالح داخل المجتمع، ولم يعد المجتمع ينظر إلى التنوع على أساس دينى أو جهوى، بقدر ما بات يعنى تنوعا وظيفيا فى سياق تدافع المصالح بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والثقافيين.
هذه التحولات لا تفسر لنا فقط لماذا أصبحت قضية التضامن قيمة عليا الآن داخل المجتمع المصرى والنخب المصرية (التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموي ومبادرة كتف فى كتف، أمثلة مهمة)، لكنها تفسر لنا أيضا لماذا يتم ربط قيمة التضامن بمسألة التنوع، وهو تحول مهم فى اتجاه تكريس مفهوم جديد للتنوع فى مصر بعيدا عن المفهوم التقليدى.