عبير ياسين

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

لم يستمر الحديث الإسرائيلي عن هدوء شهر رمضان الجاري (2023)، واعتباره أحد الشهور الأكثر هدوءاً لفترة طويلة، وانتهى الهدوء بدرجة أكثر عنفاً من التصعيد مساء الثلاثاء الرابع من أبريل الجاري، وفجر الأربعاء الخامس من أبريل، وسط الغضب والتنديد والتحذير الإقليمي والدولي. وأدى استهداف إسرائيل للمعتكفين في المسجد، وإلقاء القبض على ما يصل إلى 500 فلسطيني، بالإضافة إلى الاعتداءات والاصابات التي حدثت، للحديث فلسطينياً عن هدف تفريغ المسجد من المعتكفين والمصلين، وتمهيد الأوضاع من أجل اقتحامات المستوطنين مع الاحتفال بعيد الفصح اليهودي، والذي يتم الاحتفال به هذا العام في الفترة ما بين 5 أبريل (ليلة عيد الفصح اليهودي)، و12 أبريل الجاري.

بدوره كان التصعيد خلال شهر رمضان الجاري متوقعاً للعديد من الاعتبارات، بما فيها تلك التي تتسم بالثبات والخاصة بتكرار التصعيد خلال شهر رمضان خلال الأعوام السابقة، وتلك التي تتسم بالتجدد على الساحة الإسرائيلية وخاصة مع تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو في ديسمبر الفائت (2022)، وما تعبر عنه من سياسات يمينية ويمينية متطرفة تدافع عن استهداف المسجد الأقصى، وتقوية المستوطنين، وغيرها من التحركات والسياسات التي تنذر حال تنفيذها بالتصعيد. بالإضافة، إلى المشاكل الداخلية على الساحة الإسرائيلية وما يمكن أن يرتبط بها من محاولة تحقيق إنجاز عبر التصعيد في الساحة الفلسطينية من أجل تقليل ضغوط الداخل الإسرائيلي على الحكومة، مع محدودية اقتراب مماثل وتوقف تأثيره على العديد من العوامل الأخرى. ويضاف لما سبق، طبيعة العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية، وتراجع فرص التسوية، وتصاعد المقاومة والعمليات الفلسطينية في الضفة الغربية، ومعها عمليات الاستهداف الإسرائيلية سواء التي يقوم بها الجنود أو المستوطنون، كما حدث في الاعتداءات التي تعرضت لها مدينة حوارة في مارس الفائت، بكل ما لها من انعكاسات على الأوضاع الداخلية وفرص التصعيد القائمة والمحتملة.

وفي ظل إدراك التحديات التي تواجه شهر رمضان، وخاصة على صعيد المسجد الأقصى، عقدت قمة العقبة (26 مارس الفائت)، وقمة شرم الشيخ (19 مارس الفائت)، ضمن جهود تجنب التصعيد. ولم تهدد التحركات الإسرائيلية التي استهدفت المصلين والمعتكفين في المسجد الأقصى التوافقات التي تم التوصل لها في العقبة وشرم الشيخ فقط، ولكنها ولّدت احتمالات أكبر للتصعيد القابل بدوره للتمدد خارج حدود المسجد الأقصى والقدس، وربما خارج فلسطين، في حال استمرت التحركات الإسرائيلية دون ضوابط، بما يعيد إلى الواجهة، مع الفارق، أجواء الأحداث التي سبقت حرب غزة الرابعة في مايو 2020، وما هو أبعد منها.

وفي حين أسست أوضاع ما قبل حرب غزة الرابعة لفكرة قواعد الاشتباك بين غزة والقدس، وفي القلب الأوضاع في المسجد الأقصى، والتعامل مع المصلين في المسجد الأقصى، والفلسطينيين في عموم القدس، بوصفها مبررات لدخول قطاع غزة على ساحة المواجهة، فإن الفصائل الفلسطينية، ورغم الرد على التصعيد الإسرائيلي الأخير في المسجد الأقصى عبر إطلاق عدد من الصواريخ تجاه البحر أو على مستوطنات غلاف غزة، ظلت على بعد خطوة من إعلان تفعيل قواعد الاشتباك. واكتفت الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، كما فعلت إسرائيل، بمساحة التصعيد المقيد عبر الرسائل التحذيرية، وهي رسائل تتضمن تحركات محدودة لا تتجاوز تسجيل موقف والتحذير من رفع درجة التصعيد القائمة. وفي تلك التحركات تقوم الفصائل بإطلاق عدد من الصواريخ، لا تتجاوز مستوطنات غلاف غزة، في حين تقوم إسرائيل بتوجيه عدد من الضربات لمواقع في القطاع تراها جزءاً من المواقع التابعة للفصائل أو بنيتها التحتية.

ورغم دخول شخصيات فلسطينية مؤثرة على المشهد مثل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وزياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، والتنديد في تصريحاتهم وبياناتهم بالتحركات الإسرائيلية، وحديث النخالة عن حتمية المواجهة، فإنها لم تعلن عن دخول غزة على خط المواجهة، ومعها تحويل المشهد من التصعيد المحدود إلى حالة الحرب على القطاع.

بدوره، لا يعبر رد الفصائل حتى اللحظة عن استبعاد فرص التصعيد بشكل مطلق، ولكنه يتيح الفرصة للوساطة، قبل أن تتطور الأوضاع إلى حالة الحرب. وفي هذا السياق، تظهر أهمية التسريبات التي أعلنت عن رفض الفصائل الالتزام بقصر حدود الرد على إطلاق الصواريخ، وهو الرفض الذي يعبر بدوره عن رغبة الفصائل في الحصول على تأكيدات واضحة بوقف الاعتداءات والاقتحامات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، على الأقل خلال شهر رمضان الجاري.

ولا يبدو هدف الفصائل الفلسطينية في غزة، والمتمثل في إلزام إسرائيل بوقف أسباب التصعيد، سهل التحقق في ظل الحكومة الإسرائيلية القائمة، والتي يفترض أنها وافقت في قمة العقبة، التي استهدفت التوصل إلى تفاهمات لفترة انتقالية تتضمن وقف الإجراءات الأحادية مثل الاستيطان والهدم والاقتحامات لمدة 6 أشهر، على اتخاذ خطوات فورية بهدف إنهاء تصاعد أعمال العنف، ودعم خطوات بناء الثقة والعمل من أجل تحقيق سلام عادل ودائم. كما التزمت في قمة شرم الشيخ بتعزيز الأمن والاستقرار ووقف التصعيد، ووضع آلية للحد من العنف والتحريض والتصريحات التحريضية، والالتزام بالحفاظ على الوضع التاريخي الراهن في الأماكن المقدسة في القدس دون تغير قولاً وفعلاً.

ولا يتضح الخروج الإسرائيلي على تلك الالتزامات القريبة، والتي حدثت خلال حكومة نتنياهو نفسه، في استهداف المسجد الأقصى والمصلين والمعتكفين عبر تحركات تعرف نتائجها بشكل مسبق عبر تجربة فقط، ولكنها ظهرت عبر تصريحات بعض العناصر الأكثر يمينية في الحكومة، ومنها تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي كتب في تغريدة عبر حسابه على تويتر بعد قمة العقبة، إن "ما حصل في العقبة سيبقي في العقبة"، فيما اعتبر رفضاً لتجميد أو وقف خطط توسيع الاستيطان. واتفق وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموترتيش مع بن غفير بتأكيده إنه لن يوافق على أي تجميد في النشاط الاستيطاني بالضفة الغربية، مؤكداً على ذلك بقوله: "لن يكون هناك تجميد للبناء والتطوير في المستوطنات، ولا حتى ليوم واحد، إنها تحت سلطتي".

وتعبر المواقف السابقة عن الفجوة بين ما يمكن أن تلتزم به إسرائيل رسمياً، وما يمكن أن يطبق على أرض الواقع فعلياً. كما تعبر عن الفجوة بين الحديث عن الالتزام باحترام "الوضع الراهن"، وتغيير الأوضاع على الأرض بحيث يكون الحديث عن الحفاظ على الوضع مصدر للجدل يتطلب العودة إلى تعريف "الوضع الراهن" الذي يفترض الحفاظ عليه، وربما ضرورة التوقف عن المطالبة بالالتزام بالوضع الراهن وتحديد محتوى ما يفترض أن تلتزم به إسرائيل تجاوزاً للتغييرات التي تتم في جوهر المعنى المقصود.

تحمل الأجواء الحالية ملامح من حالات تصعيد، وفرص تصعيد سابقة، وفي حين تظل فرص التطور من حالة الصراع المقيد القائم إلى صراع مفتوح رهناً بتحركات الأطراف المعنية خلال الساعات، وربما الأيام القادمة، وجهود الوساطة، والضغوط الدولية والإقليمية، فإن الحرب التي يمكن أن تحدث في حالة الانتقال إلى التصعيد المفتوح من شأنها أن تكون أكثر عنفاً من حرب غزة الرابعة في ظل العديد من الاعتبارات، ومنها: طبيعة الحكومة الإسرائيلية، وقدرة نتنياهو المحدودة على فرض قيود ذات معنى، أو الزام عدد من الأعضاء البارزين في الحكومة بممارسة قدر من الدبلوماسية المطلوبة، وما تمثله الحرب من فرصة لليمين المتطرف لفرض رؤيته، وللحكومة من فرصة لتجاوز، نسبي ومحدود التأثير، لضغوط الداخل. من ناحية أخرى، فإن الحرب التي تتم تحت عنوان كبير مثل المسجد الأقصى، وما تبرزه التحركات الإسرائيلية وردود الفعل الدولية عموما، والغربية خصوصاً، من قواعد مزدوجة مقارنة بالحرب في أوكرانيا، من شأنها أن تضيف لزخم الحرب المفتوحة، التي لا تستبعد تدخل أطراف إقليمية فيها بشكل مباشر أو غير مباشر باسم محور القدس، وحرب الأقصى الإقليمية وخاصة مع إطلاق صواريخ من لبنان في السادس من أبريل الجاري تجاه إسرائيل، وسقوط بعضها في مستوطنات الشمال، والربط بين تلك الصواريخ والأوضاع في المسجد الأقصى، سواء تم الإعلان عن مسئولية جهات فلسطينية في لبنان عن الهجمات، كما ترجح الجهات الأمنية الإسرائيلية، أو جهات لبنانية أخرى، حيث تظل فكرة الربط بين الجبهات مطروحة ومعها مخاطر الحرب المفتوحة متعددة الجبهات، وعدم استعداد إسرائيل لدخول حرب مماثلة وفقاً للتقديرات الأمنية المختلفة.

المسجد الأقصى وترسيخ وضع راهن جديد

قررت إسرائيل بشكل أحادي بداية من عام 2003 السماح للمستوطنين باقتحام المسجد الأقصى، وهو الاقتحام الذي يتم بحراسة الشرطة الإسرائيلية ورغم معارضة الأوقاف الإسلامية، واستمرت الاقتحامات لساحات المسجد الأقصى، ولكن دون السماح لليهود بأداء الصلوات التلمودية.

بدوره، شهد عام 2022، تصاعد وتيرة وعدد الاقتحامات التي تعرض لها المسجد الأقصى، حيث اقتحمه أكثر من ٤٨ ألف مستوطن. وشملت تحركات المستوطنين أداء طقوس تلمودية علنية، مع رفع العلم الإسرائيلي في وقت يقيد فيه رفع العلم الفلسطيني في سياقات متعددة. بالإضافة إلى فرض قيود على رفع الآذان، وملاحقة المرابطين والمرابطات، والتضييق على المعتكفين، بما فيها تأجيل الاعتكاف ومنعه خلال الأيام العشرة الأولى من رمضان الجاري، لتحدث الاعتداءات الإسرائيلية بعد أيام قليلة من بداية الاعتكاف بهدف توفير المناخ المناسب للاقتحامات. وإلى جانب الصلوات التلمودية، استمرت محاولات الترويج والضغط من أجل تقديم القرابين داخل المسجد الأقصى خلال عيد الفصح اليهودي.

وطورت إسرائيل المشهد من خلال اقتحام المسجد الأقصى مساء الرابع من أبريل، وفجر الخامس من أبريل، بالاعتداء على المعتكفين، وملاحقة المصلين والمعتكفين وإفراغ المسجد القبلي منهم. ورغم انسحاب القوات الإسرائيلية، تركت قوات عند الأبواب، كما قيدت من لهم حق دخول المسجد للصلاة في الوقت الذي حدث الاقتحام الأول من قبل المستوطنين. وبغض النظر عن مشاهد العنف والتنديد المصاحب للاعتداء على المعتكفين، فإن الرغبة الأساسية كما يبدو هي ترسيخ صورة الاقتحامات الإسرائيلية بوصفها ممارسة طبيعية تحدث دون كثافة إسلامية.

وبعد ساعات من الاقتحام الذي حدث في 5 أبريل، وبعد الاعتداء على المصلين والمعتكفين وتقييد دخول المسلمين للمسجد الأقصى، تم اقتحام المسجد للمرة الثانية من قبل المستوطنين يوم 6 أبريل، كما حاول بعضهم إدخال قرابين للذبح في باحات المسجد. وفي هذا السياق تبرز المخاوف الفلسطينية من الأسباب التي تقف وراء التركيز على خطاب تقديم القرابين والإعلان عن مكافآت مالية لمن يستطيع القيام بهذا، وغيرها من الأخبار التي تدور حول هذا الموضوع بشكل متزايد وواضح. وتتمثل المخاوف الفلسطينية في تحويل فكرة تقديم القرابين إلى الخط الأحمر الذي يتم القياس عليه. وبهذا، بدلاً من أن يكون الهدف الأساسي هو إيقاف الاقتحامات التي يتعرض لها المسجد الأقصى، واحترام الوضع الراهن القائم الخاص بوقف الصلوات وغيرها من الممارسات التي يقوم بها المستوطنون في المسجد الأقصى كهدف مرحلي، يتحول الهدف والانتصار إلى الحيلولة دون تقديم قرابين في المسجد.

وفي هذا السياق، يتحول الحديث عن القرابين إلى أداة تشتيت انتباه، ومكسب مصطنع للقوى الفلسطينية، يفترض وفقاً له الحديث عن إنجاز منع خطر ليس هو الأساس، ولم يكن قائماً، في الوقت الذي يتم فيه ترسيخ الوضع الراهن الجديد الذي تتحرك إسرائيل بناءً عليه والذي ظهر في حكومة رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت سابقاً وحكومة نتنياهو حالياً بشكل واضح. والمشكلة الحقيقية، أنه إذا استطاعت إسرائيل ترسيخ فكرة الوضع الراهن الجديد، فإنها ستكون قادرة على تأسيس الخطاب المناسب لتقديم القرابين وغيرها من الممارسات من خلال بوابة حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع بالتجاوز عن واقع المسجد المعني بهذا الجدل.

وفي هذا السياق، حرص نتنياهو بعد التصعيد الذي حدث في المسجد الأقصى، وما ارتبط به من تنديد واسع النطاق، لتكرار ما تحدث عنه رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، والخاص بالحديث عن التزام إسرائيل بالحفاظ "على حرية العبادة وحرية ممارسة شعائر جميع الأديان والوضع الراهن في حرم المسجد الأقصى"، مبرراً ما حدث بوجود متطرفين في المسجد بحوزتهم أسلحة وحجارة وألعاب نارية، وأن إسرائيل لن تسمح، وفقاً له، للمتطرفين الذين يمارسون العنف بالمساس بحرية العبادة.

وتعيد تصريحات نتنياهو في جوهرها حديث بينيت بعد الاقتحامات التي حدثت خلال شهر رمضان وعيد الفصح اليهودي في أبريل 2022، عن "حرية إقامة الشعائر الدينية لكل الأديان" في المسجد الأقصى، بالمخالفة لما يفترض أن يكون عليه الوضع في مسجد، ولما يفترض الالتزام به وفقاً لترتيبات "الوضع الراهن" القائمة، والتي يمكن وفقاً لها زيارة غير المسلمين للمسجد الأقصى في حين يسمح للمسلمين فقط بالصلاة فيه. ولكن ما حدث، ويتم تكراره وتحويله إلى "وضع راهن" جديد في الخطاب الإسرائيلي هو السماح بالصلوات التلمودية في المسجد الأقصى، والاقتحامات المتكررة، بما فيها خارج المواعيد التي كان يتم الالتزام بها، بالإضافة إلى تكرار الحديث عن استهداف تقديم القرابين في المسجد وغيرها من التحركات التي تستهدف تغيير واقع المسجد و"الوضع الراهن" الأصيل، وتأسيس وترسيخ وضع راهن جديد تحت خطاب كبير، يفترض سهولة ترويجه، وهو حرية ممارسة الشعائر الدينية. وما حدث في 2023، هو استخدام القوة، بدون الاهتمام بردود الفعل الدولية والإقليمية، وبدون الاهتمام بالاتفاقيات والالتزامات، من أجل تفريغ المسجد بالدرجة الممكنة من المصلين والمعتكفين، والتحول من القوة إلى القرارات عبر تقييد وصول المسلمين للمسجد في الوقت الذي تتم فيه الاقتحامات وسط حراسة أمنية إسرائيلية مشددة تحاول إسكات المصلين حتى يتم الاقتحام بدرجة أكبر من الصمت، وحتى يتم ترسيخ هذا الوضع بوصفه طبيعياً ومجرد وضع راهن جديد يجب الالتزام به من الجميع كما تفعل إسرائيل.

صواريخ غزة... دون قواعد الاشتباك

اكتفت الفصائل الفلسطينية في التعامل مع التطورات التي شهدها المسجد الأقصى بالتحرك المقيد القائم على توجيه رسائل إلى إسرائيل، والأطراف المعنية، عبر إطلاق صواريخ من القطاع تجاه مستوطنات غلاف غزة. وفي حين يتم الحديث عن إطلاق أكثر من 20 صاروخ من قطاع غزة خلال يومي الاعتداءات والاقتحامات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، فإن الخسائر الناتجة عن تلك الصواريخ ظلت محدودة، ولم تتجاوز فكرة التحذير والإشارة إلى إمكانية دخول غزة إلى ساحة المواجهة.

وعلى عكس حرب غزة الرابعة، لم تدخل الأجنحة العسكرية للفصائل على ساحة الجدل، واكتفت القيادات السياسية، على مستوياتها المختلفة بما فيها قادة الفصائل، بالتنديد بما حدث ومطالبة إسرائيل بالتوقف والشعب الفلسطيني بالدفاع عن المسجد الأقصى. ولكن ظلت كل الأحاديث الدائرة بعيدة عن تفعيل قواعد الاشتباك. ولا يتصور في السياق القائم إعلان حركة الجهاد الإسلامي التحرك المنفرد، رغم إعلان زياد النخالة أن المواجهة حتمية، باعتبار أن خبرة معركة وحدة الساحات، التي أطلقت عليها إسرائيل اسم طلوع الفجر واستهدفت فيها الحركة وبنيتها التحتية في القطاع في أغسطس الماضي (2022)، مثلت تحدياً واضحاً للعلاقة بين الجهاد وحماس، وأثارت العديد من التساؤلات وأسباب النقد، بما يستبعد، مرحلياً، التحرك المنفرد من الجهاد. بالمقابل، تجد حماس نفسها مقيدة، بحكم توازنات السلطة والمقاومة التي تعبر عنها وضعية إدارة القطاع المحاصر، بالعديد من المطالب والتوازنات الضرورية، بما فيها العلاقة بالأطراف المعنية، والحاجة إلى تجنب حرب جديدة من شأنها زيادة معاناة وخسائر القطاع البشرية والمادية، ما لم تكن ضرورية وحتمية، وترتبط بتفعيل قواعد الاشتباك دون تأجيل.

تؤدي تلك الأوضاع إلى تأجيل خيار تفعيل قواعد الاشتباك، ولكن طبيعة المعركة، والاعتداءات الإسرائيلية الواضحة، والتجاوز الذي شهده المسجد الأقصى، وما تعرض له المصلون والمعتكفون، والخطاب التحريضي والتصعيدي لبن غفير، وغيرها من الاعتبارات تصب في خيار تصعيد المواجهة ودخول غزة على خط التصعيد في الاقصى. ولهذا، تحافظ الفصائل على خيار تفعيل قواعد الاشتباك قائماً من خلال رفضها الالتزام بقيود على طبيعة الرد الذي يمكن اللجوء إليه في مواجهة إسرائيل.

في حين يتوقف إعلان تفعيل قواعد الاشتباك، ودخول غزة في مواجهة مفتوحة مع تل أبيب على قراءة الفصائل الفلسطينية، وخاصة حماس والجهاد الإسلامي، للمشهد، وإذا كان حدث معين يتطلب تفعيل تلك القواعد من عدمه، فإن الوقائع على الأرض تتوافر فيها الظروف الموضوعية للحرب، ولكن يتوقف الأمر على توازنات أخرى تتحرك فيها جميع الأطراف من أجل اتخاذ القرار أو السير نحوه دون اختيار. أوضاع ترى إسرائيل أنها يمكن أن تواجه معها معركة مفتوحة على أكثر من جبهة بشكل يمكن أن يتسبب في مشاكل أمنية حقيقية بصفة عامة أو في الوقت الراهن بصفة خاصة، في حين ترى الفصائل أن عليها أن توازن بين متطلبات المقاومة والإدارة، والعلاقات مع الحلفاء والوسطاء، ومع الأطراف الداخلية والأطراف المعنية والمؤثرة في المشهد الفلسطيني.

وفي هذا السياق، في حين تتشابه بعض التفاصيل مع الأحداث التي قادت إلى حرب غزة الرابعة، وبعض التطورات التالية التي هددت بتفعيل قواعد الاشتباك دون أن تصل إلى تلك الحالة، يتميز المشهد الحالي بتعاظم الأصوات اليمينية الإسرائيلية المتطرفة بشكل يتجاوز ما حدث خلال حكومة بينيت، وخاصة أن شخصيات مثل بن غفير تجاوزت مساحة التحرك على الأرض والتوجيه وإثارة الكراهية، إلى التواجد في السلطة، وممارسة ضغوط للحصول على مكتسبات باسم الحفاظ على الائتلاف، والدفع نحو سياسات أكثر عنفاً. وبهذا، في حين استطاعت حكومة بينيت تقييد بعض التحركات في القدس والمسجد الأقصى، بما فيها مسيرة الأعلام التي شارك فيها بن غفير، عضو الكنيست آنذاك، في أبريل من العام الفائت (2022)، تحدث بن غفير نفسه بعد استهداف بعض المواقع في قطاع غزة رداً على الصواريخ التي أطلقت عقب الانتهاكات التي تعرض لها المصلون والمعتكفون في المسجد عن ضرورة الرد بقوة أكبر على صواريخ غزة، مطالباً بالتوقف عما أسماه "تفجير كثبان رملية"، واستهداف رؤوس في غزة، مشيراً إلى قادة الفصائل الفلسطينية. وبهذا، يدعو بن غفير الحكومة، الذي هو جزء منها كما قال، لتجاوز خط أحمر إضافي يتمثل في استهداف قادة الفصائل، بعد استهداف إسرائيل لخط أحمر آخر وهو المسجد الأقصى.

مع إدراك أن الأوضاع لم تصل بعد إلى تفعيل قواعد الاشتباك، يصعب التأكيد على استمرار تلك الأوضاع، ويمكن أن يؤدي تطور إضافي على صعيد المسجد الأقصى، أو استهداف غزة تنفيذاً لحديث بن غفير، أو تطور غير مخطط كما هو الوضع على صعيد الجبهة الشمالية اللبنانية، إلى دخول غزة على خط المواجهة وبداية حرب جديدة.

وفي حين تدرك الأطراف المختلفة على المستوى الإقليمي والدولي مخاطر التحركات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، وتتخوف من تحركات حكومة نتنياهو المحتملة بصفة عامة وفي اللحظة بصفة خاصة، بما يفسر الاجتماع الطاري لجامعة الدول العربية (5 أبريل)، والجلسة الطارئة لمجلس الأمن الدولي (6 أبريل)، فإن القدرة على إلزام إسرائيل بقراءة التحديات بنفس الطريقة، والتعامل وفقاً للمخاطر والتهديدات التي يراها الإقليم والعالم، تظل قضايا مختلفة كلياً. ومن خلال التطورات، لا يمكن استبعاد أن ما يراه العالم مخاطر قد تراه شخصيات في حكومة نتنياهو فرصة لتدشين سياسات يمينية متطرفة غير مسبوقة في التعامل مع غزة أو المقاومة أو الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية بصفة عامة. ما يراه العالم لحظة فارقة في منحى خطر، يؤذن بحرب، قد يراه البعض فرصة للقضاء على الخصم وتحقيق إنجاز ما بغض النظر عن الخسائر والثمن.