في سابقة تعد الأولى من نوعها في التاريخ الأمريكي، وبعد تحقيقات امتدت لخمس سنوات، وبعد موافقة هيئة محلفين كبرى، قام مكتب النائب العام بولاية نيويورك، يوم الثلاثاء 4 أبريل الجاري (2023)، بتوجيه لائحة اتهامات إلى الرئيس السابق دونالد ترامب، تضمنت 34 اتهاماً كلها مرتبطة باتهامه بالتلاعب ببيانات ومصروفات حملته الانتخابية عام 2016 لإخفاء قيامه بدفع مبلغ 130 ألف دولار للسيدة ستورمي ويليامز من خلال محاميه مايكل كوهين في مقابل امتناعها عن فضح علاقة ربطته بها عام 2006، وأن هذه المبالغ دفعت بشكل مخالف لقوانين تمويل الانتخابات في ولاية نيويورك والتي تجرم التآمر من أجل إخفاء معلومات مهمة عن المرشحين في الانتخابات.
وبالإضافة إلى الاتهامات التي وجهت لترامب بشكل رسمي في ولاية نيويورك، فإن الرئيس السابق يواجه تحقيقات أخرى قد تؤدي إلى توجيه اتهامات إضافية له بخصوص محاولاته التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية في 2020 وقيامه بتحريض أنصاره على اقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير 2021 وباحتفاظه بملفات حكومية سرية في منزله بولاية فلوريدا، مما يعني أن ترامب قد يواجه عدداً من الاتهامات والمحاكمات في عدد من الولايات الأمريكية المختلفة في الشهور القادمة، على نحو سوف يكون له تداعيات مهمة على الانتخابات داخل الحزب الجمهوري لاختيار مرشحه للرئاسة، ومن ثم على الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر 2024.
الجدير بالذكر أنه قبل توجيه الاتهامات بشكل رسمي لدونالد ترامب، كان الأخير هو المرشح الأكثر شعبية داخل الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة في 2024 يتلوه حاكم فلوريدا رون ديسانتيس والذي تزايدت شعبيته وفرص اختياره كمرشح الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة بشكل كبير بعد الانتخابات النصفية في 2022، حيث شهدت هذه الانتخابات سقوط الكثير من المرشحين الذين دعمهم ترامب وفشل الحزب الجمهوري في تحقيق الأغلبية في انتخابات مجلس الشيوخ ونجح في تحقيق أغلبية محدودة جداً في مجلس النواب، وقد أدت نتائج الانتخابات النصفية بالإضافة إلى فشل ترامب في الانتخابات الرئاسية في 2020 إلى ظهور توجه متزايد داخل قطاعات مهمة في الحزب الجمهوري لدعم رون ديسانتيس وظهرت انقسامات مهمة داخل الحزب بين التيار اليميني المتطرف الذي يقوده ترامب والتيار المحافظ الأكثر اعتدالاً الذي يقوده ميتش ماكونل زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ وبدا في الشهور الأخيرة أن ترامب بدأ يفقد سيطرته على الحزب الجمهوري.
كما أن سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2020 وادعاءاته -بدون أدلة- بأنه تم تزوير نتائجها لصالح جو بايدن وترويجه لسردية "السرقة الكبرى" للانتخابات الرئاسية مما دفع عناصر متطرفة من الحزب الجمهوري لاقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير 2021 في محاولة لتعطيل عملية اعتماد نتائج الانتخابات الرئاسية وعدم قيام ترامب بردع عملية الاقتحام بشكل حاسم، كل ذلك دفع العديد من الصحف والمنصات الإلكترونية المهمة مثل "تويتر" و"فيس بوك" إلى الحجب والتعتيم الإعلامي على ترامب وانحصرت أخباره وتصريحاته وتدويناته على المنصات والصحف المحافظة، مما قوّض من قدرته على التأثير في الرأي والجدل العام بشكل كبير منذ 2020.
تداعيات عكسية
إلا أنه في الأسابيع الأخيرة وفي ضوء تصاعد احتمالات توجيه اتهامات جنائية لترامب بشكل رسمي، أشارت استطلاعات الرأي المختلفة إلى ارتفاع شعبية ترامب داخل الحزب الجمهوري وتزايد الفجوة بينه وبين منافسه الرئيسي رون ديسانتيس بشكل ملحوظ، حيث يرى معظم أنصار الحزب الجمهوري أن ترامب يتعرض لحملة ممنهجة لإقصائه وأنه تم تسييس القضاء من أجل تقويض فرصه في الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة. ومن اللافت أن نسبة مهمة من الديمقراطيين يوافقون أيضاً على هذا الرأي.
ومن ناحية ثانية، دفعت هذه التطورات قيادات الحزب الجمهوري إلى الالتفاف حول ترامب وإصدار بيانات داعمة له، مما قد يؤثر بالسلب على فرص ديسانتيس في الحصول على دعم قيادات الحزب في الانتخابات الداخلية للحزب.
ومن ناحية ثالثة، أدت التطورات الأخيرة إلى عودة ترامب إلى صدارة المشهد الإعلامي في الولايات المتحدة، بعد أن تم إقصائه لفترة طويلة، ويرى الكثير من المحللين أن عودة ترامب إلى صدارة المشهد الإعلامي سوف تعزز من شعبيته ومن قدرته على التأثير في الرأي والجدل العام، كما سوف تؤثر بالسلب على قدرة المرشحين المنافسين له وفي مقدمتهم رون ديسانتيس في الحصول على المساحات الإعلامية التي تمكنهم من تعزيز شعبتيهم للانتخابات الرئاسية القادمة.
ومن المرجح أن تؤدي هذه التطورات مجتمعة إلى تعزيز موقف ترامب داخل الحزب الجمهوري وإلى تزايد احتمالات اختياره كمرشح الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة في 2024 وتراجع فرص المرشحين المنافسين له.
ومع ذلك، يرى بعض المعلقين أنه مازال من المبكر الوصول لاستنتاجات نهائية حول الانتخابات الداخلية للحزب الجمهوري التي سوف تنعقد بين فبراير ويونيو 2024، حيث أن الكثير من التطورات قد تحدث خلال تلك الفترة والتي قد تؤثر بشكل مغاير على فرص المرشحين المختلفين.
وبالرغم من أن الاتهامات الموجهة لترامب والتحقيقات الجارية والتي يمكن أن تؤدي إلى اتهامات إضافية أسفرت عن تصاعد شعبيته داخل الحزب الجمهوري وعودة ترامب إلى صدارة المشهد الإعلامي، ولكنها من المتوقع، وفقاً للعديد من التقديرات، أن تؤثر بالسلب على فرص ترامب في النجاح في الانتخابات الرئاسية في 2024 إن تم اختياره كمرشح للحزب الجمهوري، حيث أن هذه الاتهامات تقلل بشكل كبير من فرص ترامب في الحصول على دعم الناخبين المستقلين والمتأرجحين الذين يحتاجهم للفوز في الانتخابات الرئاسية والذين كان لهم دور أساسي في إسقاطه في انتخابات 2020 وفي إسقاط الكثير من مرشحي اليمين المتطرف في الانتخابات النصفية في 2022.
ولكن حتى إذا نجحت هذه الاتهامات في تقويض فرص ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة، كما يرى الكثير من المحللين، فإنها من المتوقع أن يكون لها الكثير من الآثار السلبية على المجال العام في الولايات المتحدة في الفترة القادمة، حيث أنها سوف تساهم في عودة وتعميق حالة الانقسام والاستقطاب السياسي والمجتمعي التي شهدها المجتمع الأمريكي خلال فترة رئاسة ترامب، كما أن عودة الأخير إلى صدارة المشهد الإعلامي من المتوقع أن تدعم سيطرة اليمين المتطرف على الحزب الجمهوري وربما إلى دفعه إلى تبني مواقف أكثر تطرفاً.
وأخيراً، فإن وجود انطباع عام في أوساط أنصار الحزب الجمهوري بأن الحزب الديمقراطي يقوم بتسييس واستخدام مؤسسات القضاء من أجل ملاحقة ترامب وأنصاره، قد يؤدي إلى اتجاه عناصر متطرفة داخل الحزب الجمهوري للانقلاب على الآليات السياسية الانتخابية والسلمية وتبني آليات العنف بشكل أوسع كما شهدنا خلال أحداث اقتحام الكونجرس في ٦ يناير 2021.