د. محمد عز العرب

رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تشير الزيارة التي قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى جدة، في 3 أبريل الجاري (2023)، ولقائه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى قدرة النخب الحاكمة في البلدين على تجاوز أي خلافات طارئة أو تباينات قائمة، سواء في العلاقات الثنائية أو القضايا الإقليمية، لا سيما أن ما يجمع الدولتين من مصالح وطنية مشتركة والتصدي لتهديدات ضاغطة من كل اتجاه يدفعهما إلى الحفاظ على صلابة الشراكة الاستراتيجية، التي تعد عصية على الفشل أو التعثر في معظم الحالات، ويشتركان معاً في تحقيق الأمن والتنمية والاستقرار للإقليم ككل.

البيوت الخشبية

يعد الاستقرار الإقليمي أحد المحددات الحاكمة لتوجه وتحرك السياسة الخارجية المصرية في مناطق جغرافية مختلفة، وخاصة الشرق الأوسط وشرق المتوسط والقرن الإفريقي والساحل الإفريقي، التي شهدت مظاهر للاضطراب السريع والمتلاحق، وبصفة خاصة خلال السنوات العشر الماضية، بعد سقوط نظم وانهيار دول وتمدد ميلشيات وتوحش تنظيمات إرهابية ونفوذ جماعات إجرام منظم، على نحو يمثل تهديداً مباشراً للأمن الوطني لمصر، وفقاً لنظرية "البيوت الخشبية" في العلوم السياسية التي تشير إلى أن اندلاع نيران في أحد البيوت ينتج عنه امتداد تلك النيران إلى بقية البيوت الملاصقة لها، مما يستدعي التحرك الاستباقي من خلال آليات فعالية ومتعددة، دبلوماسية واقتصادية وأمنية، لتفادي أي تأثيرات من "كرة النار" المشتعلة.

وقد عبر عن هذا المعني الرئيس عبدالفتاح السيسي في خطابه بمناسبة الذكرى التاسعة لثورة 30 يونيو قائلاً إن "أمن مصر القومي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن محيطها الإقليمي، فهو لا ينتهي عند حدود مصر السياسية بل يمتد إلى كل نقطة يمكن أن تؤثر سلباً على حقـوق مصـر التاريخية، ولا يخفى على أحد أننا نعيش وسط منطقة شديدة الاضطراب، وأن التشابكات والتوازنات في المصالح الدولية والإقليمية في هذه المنطقة تجعل من الصعوبة على أية دولة أن تنعزل داخل حدودها تنتظر ما تسوقه إليها الظروف المحيطة بها؛ ومن هنا كان استشراف مصر لحجم المخاطر والتحديات التي ربما تصل إلى تهديدات فعلية تتطلب التصدي لها بكل حزم على نحـو يحفـظ لمصر وشعبها الأمن والاستقرار، ورغم امتلاك مصر لقدرة شاملة ومؤثرة في محيطها الإقليمي".

كما أن المملكة العربية السعودية تتجه سياستها الخارجية نحو دعم الاستقرار الإقليمي، بعد الفوضى الممتدة التي سادت في مرحلة ما بعد تحولات 2011، وطالتها بأشكال مختلفة بعد صعود ميلشيا مسلحة إلى السلطة وسيطرتها على أكثر من نصف مساحة اليمن، واتجاه إيران نحو توظيف وكلائها في بؤر الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، وخاصة في سوريا، مع تمديد نفوذها داخل العراق، وإثارة الشيعة في البحرين والكويت، فضلاً عن خطر الصعود المؤقت للإخوان المسلمين في بعض العواصم العربية قبل الإطاحة بنمط "الحكومات الملتحية" خاصة بعد ثورة 30 يونيو 2013، وعدم الرهان على الولايات المتحدة في الحفاظ على أمن الإقليم بشكل عام، ومنطقة الخليج بوجه خاص، كـ"حليف غير مستقر"، وفقاً لما أكدته خبرات عملية عديدة.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن هناك محفزات للتقارب أو التوافق أو التكامل المصري السعودي فيما يعزز خيار الاستقرار الإقليمي، تتمثل في:

1- تعزيز اتجاه عودة سوريا إلى المظلة العربية: كان لافتاً للانتباه أن زيارة الرئيس السيسي لجدة جاءت بعد زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد لمصر ودعوته لتكثيف قنوات الاتصال، وتزامنت مع وساطة روسية لعودة العلاقات بين الرياض ودمشق، في أعقاب وساطة بكين لعودة العلاقات بين طهران والرياض. ويمكن القول إنه يوجد توافق مشترك بين القاهرة والرياض بشأن الإسراع بعودة سوريا إلى محيطها العربي واستعادة عضويتها في جامعة الدول العربية التي تم تعليقها في نوفمبر 2011 بسبب الأحداث في سوريا، وذلك رغم النفي الرسمي على المستوى العربي المؤسساتي؛ إذ صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد/ أحمد أبو الغيط بأنه لا يوجد إجماع بشأن عودة سوريا إلى الجامعة، لا سيما في ظل مواقف معارضة تتبناها بعض الدول العربية. فقد أكد ماجد بن محمد الأنصاري، المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية القطرية، في 28 مارس الماضي، أنه حتى الآن لا يوجد إجماع عربي حول عودة النظام السوري للجامعة العربية، مشدداً على أن "الموقف القطري ثابت، فلا يوجد تطبيع مع هذا النظام حتى تزول الأسباب التي دعت لمقاطعته وحتى تحدث تطورات حقيقة داخل سوريا ترضي تطلعات الشعب السوري"، وأفاد بأن بلاده "تتعامل مع القضية السورية باعتبارها من أولويات القضايا العربية"، وأضاف أن الدوحة ترحب وتدعم جميع الجهود العربية الساعية لإيجاد حل للأزمة السورية، ولكن بشرط أن يكون هذا الحل مبنياً على وجود تطورات إيجابية، واستجابة حقيقية للمطالب الشعبية، وألا يكون هناك خيانة للدماء التي سالت لتحقيق هذه التطلعات، واختتم كلمته بالتأكيد على أنه في الوقت الحالي، لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بشأن وجود قرب التطبيع مع النظام السوري وإعادته للجامعة العربية.

غير أن هناك إشارات بأن السعودية قد توجه دعوة للرئيس بشار الأسد لحضور القمة العربية المقبلة في السعودية في 19 مايو 2023، وفقاً لما ذكرته وكالة "رويترز" للأنباء، في ضوء اعتبارات عديدة منها السعي لإنجاح الاستدارة في سياستها الخارجية تجاه مختلف القضايا الإقليمية، والنجاحات الميدانية التي حققها الجيش النظامي السوري خلال السنوات الثماني الماضية بعد الدعم الروسي والإيراني في مواجهة الأطراف الأخرى. فضلاً عن عدم تكرار درس الغياب العربي عن العراق بعد الغزو الأمريكي، والذي يتزامن مع مرور عقدين على نحو أتاح الفرصة لتغلغل إيراني في مفاصل الدولة والمجتمع بالعراق، بشكل يمكن تجاوزه أو على الأقل تقليص تكلفته في حالة سوريا. علاوة على الخيارات السيئة البديلة التي برزت في حال سقوط نظام الأسد مثل المعارضة المشرذمة والجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية.

هذه التداعيات كانت مصر قد حذرت منها في مرحلة مبكرة من عمر الأزمة السورية، إذ إن الركيزة الرئيسية التي تدفع السياسة الخارجية لمصر في اتجاهها خارجياً هي دعم بقاء وتقوية أداء أجهزة ومؤسسات الدولة الوطنية، وسلامتها الإقليمية، وتمكينها من بسط سيادتها وسيطرتها على كامل أراضيها، وإصلاحها وإعادة بناء بعضها على أسس جديدة، لا سيما أن هناك مشروعاً بديلاً موازياً وهو "الكيانات المسلحة ما دون الدولة"، التي تعبر عنها الميلشيات المسلحة والكتائب المناطقية والتنظيمات الإرهابية من خلال تسليحها وفقاً لأحدث التجهيزات العسكرية وسيطرتها على مناطق جغرافية محددة وامتلاكها موارد مالية واستنادها لشبكة من العلاقات الخارجية.

2-دعم خيار المصالحة أو التهدئة الإقليمية: تتبع مصر سياسة "تصفير المشكلات" -وفقاً لتصورها الخاص- مع كل دول الإقليم، بما فيها قطر وتركيا وغرب ليبيا، من خلال التوصل إلى حلول بشأن القضايا العالقة، سواء فيما يخص ملفات ثنائية أو قضايا إقليمية، عبر تشكيل لجان فنية أو عقد محادثات استكشافية أو تعويل على تحولات في مدركات النخبة الحاكمة في تلك الدول بما يؤدي في الحاصل الأخير إلى الحفاظ على المصالح الوطنية لمصر، التي يمثل الاستقرار الإقليمي أحد أبعادها الرئيسية. كما أن مصر لديها قدرة واسعة على التعايش مع "المصالح غير المتطابقة" مع الدول التي تُصنف بأنها "صديقة" لها في الإقليم، نتيجة تباين الرؤى إزاء بعض الملفات الإقليمية، إذ يوجد إدراك لدى القاهرة بأن ثمة إدارة للعلاقة مع الخصوم والحلفاء أيضاً. ولذا، تؤكد العديد من القوى الدولية على دور القاهرة الرئيسي في تحقيق الاستقرار الإقليمي لدورها في القضايا المرتبطة بذلك.

كما حدثت استدارة للسياسة الخارجية السعودية تجاه قضايا الشرق الأوسط خلال تفاعلات العامين الماضيين، وهو ما عكسته جملة من الشواهد الدالة على ذلك، منها تسوية أزمة مقاطعة قطر وفق اتفاق العلا، وطرح مبادرة لتسوية حرب اليمن، والانفتاح على النظام السوري، وتوثيق العلاقات مع العراق، وتهدئة التوتر وتوقيع اتفاق استئناف العلاقات مع إيران، واستجابة لرسائل التهدئة مع تركيا. ومن ثم، فإن هذه الاستدارة في السياسة الخارجية لكل من القاهرة والرياض تجاه العديد من الملفات الإقليمية تعزز من التوجه نحو الاستقرار الإقليمي.

3- تسوية سلمية للصراعات الداخلية المسلحة: في بعض الفترات، كان هناك تباين بين القاهرة والرياض بشأن سبل التعامل مع بعض الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، غير أنه حدثت متغيرات بالنسبة للجانب السعودي دفعته لتغيير الرؤية التي كان يتبناها بشكل جذري، لا سيما في ظل عدم قدرة أي من أطراف الصراع وخاصة في اليمن وسوريا، على حسمه لصالحه، وصارت المعادلة تحكمها "توازنات ضعف" وليست "توازنات قوة"، مما يضاعف من الخسائر البشرية والمالية التي تعرضت لها مختلف الأطراف. ومن ثم، صارت الرياض مؤيدة للقاهرة في دعواتها المبكرة لإيقاف "مروحة الصراع"، لأن تكلفة السلم أقل بكثير من تكلفة الصراع.

لذا، تشير البيانات الصادرة عن وزارتي الخارجية في البلدين إلى ضرورة وقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة والجلوس على موائد التفاوض والتوصل إلى صيغ "مستقرة" للتسوية لا يتم اختراقها أو عدم الالتزام بها، وفقاً للمرجعيات الدولية، حيث يتم تقديم الدعم والاحترام الكامل لكافة جهود وقرارات الأمم المتحدة والصادرة عن مجلس الأمن، والتعاون الكامل مع مبعوثيها، سواء لليبيا أو اليمن أو سوريا، ودعم كافة المبادرات الدولية والإقليمية التي طُرحت للتسوية السياسية في الدول الثلاث، وتطبيق خريطة الطريق التي يتم التوافق عليها بين الأطراف السياسية المختلفة وفقاً لإطار زمني محدد بهدف تجاوز "المتاهة الانتقالية" التي صارت ممتدة.

4- التصدي لخطر التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الرخوة: تعمل السياسة المصرية والسعودية، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، على الصعيد الثنائي أو المتعدد الأطراف، على التصدي لجماعات وتنظيمات الإرهاب "بالجملة" لا "بالتجزئة"، من خلال التعامل الشامل مع كافة مكوناتها، حتى وإن اختلفت مستوياتها، وتقويض قدرتها على استقطاب أو تجنيد عناصر جديدة وتجفيف منابع تمويلها، إذ يتساوى خطر الإخوان مع داعش والقاعدة وبوكوحرام وغيرها، فضلاً عما فعلته سهام الإرهاب من تقويض استقرار المنطقة عبر بروز ظواهر عابرة للحدود تتمثل في تهريب وانتشار الأسلحة وتفاقم الجرائم المنظمة والإتجار بالبشر والنزوح القسري مما يستلزم تقوية التعاون الأمني والتنسيق الاستخباري بين مصر والسعودية من جانب ودول الإقليم من جانب آخر، للتصدي لتلك التنظيمات، فضلاً عن بلورة رؤية تنموية للتحديث الاقتصادي والاجتماعي داخل دول المنطقة حتى لا تستغل التنظيمات الإرهابية ثغرات للنفاذ منها وتجنيد قطاعات مجتمعية في صفوفها، وعلى نحو يهدد استدامة الأمن.

5- تفكيك جمود القضايا الإقليمية المزمنة: والتي يأتي في مقدمتها القضية الفلسطينية التي تشكل أحد المنابع الرئيسية لعدم الاستقرار في الإقليم، وثمة توافق بين القاهرة والرياض بشأن حلحلة القضية، وعودة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى مائدة التفاوض، شريطة أن تسبقها المصالحة بين الفصيلين الفلسطينيين الرئيسيين "فتح وحماس"، بما يؤدي إلى تطبيق حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على طول حدود 5 يونيو 1967، وعاصمتها القدس، مع الأخذ في الاعتبار وجود تحديات عائقة في هذا الاتجاه منها وجود حكومة إسرائيلية يمينية متشددة رافضة للسلام وتحاول لفت أنظار الرأي العام عن الاحتجاجات المناوئة لها بجذب الانتباه لمعركة مع الفلسطينيين وخطر إيران، فضلاً عن النزعة الفصائلية المحركة للقوى السياسية الفلسطينية، وغياب الضغوط الدولية وخاصة الأمريكية على إسرائيل، علاوة على انشغال الدول العربية بقضاياها المركزية.

وقد عبّر عن هذا المعنى الرئيس السيسي في خطابه في اجتماعات الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً: "إن تصفية الأزمات المزمنة الموروثة شرط ضروري لأي عمل جاد لبناء منظومة دولية أكثر فاعلية، والمثال الأبرز في هذا الشأن، هو أقدم أزمات منطقة الشرق الأوسط، وهي القضية الفلسطينية. إن بقاء هذه القضية دون حل عادل مستند إلى قرارات الشرعية الدولية يفضي لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، لا يعنى فقط استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، وإنما يعنى أيضاً استمرار مرحلة الاستنزاف لمقدرات وموارد شعوب منطقة الشرق الأوسط". كما تشير تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى ضرورة التسوية العادلة للقضية الفلسطينية والاستناد إلى مبادرة السلام العربية التي قدمتها السعودية في قمة بيروت 2002، وعدم السير في اتجاه التطبيع قبل حدوث ذلك.

محور الارتكاز

خلاصة القول إن السياسة الخارجية لكل من مصر والسعودية تدعم صون وأمن استقرار المنطقة بأكملها، من خلال تمتين أطر التعاون وآليات التشاور، على الصعيد الثنائي أو الثلاثي أو المتعدد الأطراف، مع دول مختلفة وفي مناطق جغرافية متنوعة، بالتوازي وليس على التوالي، بما يؤدي إلى تسريع جهود تشكيل الحكومات لملء الفراغ المؤسسي وتوجيه مساعدات إنسانية وغذائية وطبية للدول وتخفيف الضغوط على المجتمعات المأزومة نتيجة أمراض وبائية وكوارث طبيعية وتحولات ديموغرافية وتأمين الحدود لدى الجوار و"جوار الجوار" ودرء تأثيرات الإرهاب وتفكيك تشابكاته مع عصابات الإجرام المنظم وتقليص تدخلات الخارج واحترام الحقوق السيادية لدول المنطقة واعتماد سياسات تنموية والمشاركة في جهود إعادة إعمار الدول في مراحل ما بعد النزاعات وإعلاء مبدأ التعاون والتضامن الدولي لمواجهة مخاطر متشابكة وتحديات عابرة للحدود مثل فيروس كورونا وتغير المناخ وتفكيك شبكات الإجرام المنظم والتصدي لخطاب الكراهية والتطرف الفكري وإعلاء ثقافة السلام وترسيخ أسس التسامح.