لدى إثيوبيا مصلحة استراتيجية في الوصول إلى جميع الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي في إطار استراتيجية رئيسية يرتكز عليها آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، في مشروعه الإقليمي الذي يقوم على ضمان التقدم الاقتصادي لإثيوبيا والتغلب على كونها دولة حبيسة، مما يعزز المساعي الإثيوبية لامتلاك حصص في الموانئ البحرية بالمنطقة.
ومن ثم، فقد شرعت إثيوبيا عقب تولي آبي أحمد السلطة في أبريل 2018 في تبني دبلوماسية الموانئ، كجزء من المشروع الإثيوبي الإقليمي الطامح لتوحيد القرن الأفريقي ككتلة اقتصادية يلعب سلاح البحرية دورًا بارزًا ويكون جزءًا رئيسيًّا منه، بهدف التغلب على المعضلة الجغرافية التي لازمت إثيوبيا منذ تسعينيات القرن الماضي، وذلك عقب استقلال إريتريا في عام 1993، الذي شكل نقطة تحول استراتيجي في السياسة الإثيوبية التي انخرطت في البحث عن بدائل متنوعة من الموانئ البحرية في دول الجوار الإقليمي، للاعتماد عليها في النفاذ إلى البحر الأحمر أو المحيط الهندي من أجل ضمان استمرار عبور التجارة من وإلى أديس أبابا.
وقد دفع ذلك آبي أحمد إلى المسارعة لتوقيع سلسلة من الاتفاقات مع بعض دول الجوار الجغرافي مثل جيبوتي والصومال وكينيا والسودان إلى جانب أرض الصومال بشأن استخدام الموانئ البحرية، والحصول على حصص فيها لتسهيل التجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي، وهو ما تزامن مع عودة العلاقات الاستراتيجية مع إريتريا عقب توقيع اتفاق السلام بينهما في عام 2018. وعزز تلك المساعي الإثيوبية أيضًا إعلان آبي أحمد في عام 2019 نية بلاده إعادة تأسيس القوة البحرية الإثيوبية بمساعدة فرنسية حتى تكون إثيوبيا جاهزة لقيادة المنطقة في إطار مبادرة التكامل الإقليمي.
ومع ذلك، تزايدت المخاوف الإثيوبية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة بشأن إخفاقها في تأمين أكثر من بديل للتواصل مع العالم الخارجي عبر طرق الملاحة البحرية، خاصة مع التهديدات التي أطلقها مقاتلو قوات دفاع تيجراي خلال الحرب الإثيوبية الأخيرة بقطع الطريق الرئيسي الواقع في إقليم عفر والواصل بين العاصمة أديس أبابا وميناء جيبوتي؛ مما أثار انتباه الإدارة الإثيوبية لضرورة استمرار المساعي من أجل تأمين بدائل استراتيجية لميناء جيبوتي الذي تعتمد عليه أديس أبابا في عبور أكثر من 95% من التجارة.
مصفوفة المصالح الإثيوبية في القرن الأفريقي
تنظر إثيوبيا إلى منطقة شرق أفريقيا بما في ذلك القرن الأفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى باعتبارها منطقة نفوذ إقليمي تسعى لإبراز هيمنتها هناك رغبة في توسيع نفوذها على الصعيد القاري لتصبح أحد أقطاب القارة الأفريقية، وذلك بالرغم من عدم امتلاكها لمقومات القوة الإقليمية في المنطقة وهو أمر كان مثار جدل واسع بين العديد من الباحثين الأفارقة والغربيين، إلا أن هناك عدة عوامل أخرى قد لعبت دورًا في تموضع إثيوبيا كقوة إقليمية بارزة في الإقليم على رأسها الدعم الأمريكي والغربي للدور الإثيوبي في المنطقة على مدار العقدين الماضيين، وتراجع بعض دول المنطقة مثل كينيا وأوغندا ورواندا في مراحل معينة عن التنافس مع إثيوبيا خوفًا من الصدام المحتمل وأسباب أخرى تتعلق بالأوضاع الداخلية في هذه البلدان، إضافة إلى تدهور أوضاع بعض الدول الأخرى على مدار السنوات السابقة مثل الصومال والسودان.
ويمكن الإشارة إلى أبرز المصالح الإثيوبية الاستراتيجية في القرن الأفريقي على النحو التالي:
1- المصالح السياسية: وهي ترتبط بالمشروع الإثيوبي الإقليمي الذي يقوم بالأساس على الهيمنة الإثيوبية في القرن الأفريقي، وذلك من خلال تعزيز أديس أبابا علاقاتها مع دول المنطقة وربطها بها لضمان ولائها ودعمها في الدفاع عن قضاياها على الصعيدين الأفريقي والدولي. إضافة إلى الانخراط الدائم لإثيوبيا في أزمات دول المنطقة مثل السودان وجنوب السودان من خلال لعب دور الوساطة.
كما أنها تبنت دبلوماسية تصفير المشكلات في محيطها الإقليمي منذ عام 2018 وهو ما تجلى في توقيع اتفاق السلام الإقليمي مع إريتريا لتنهي قطيعة استمرت عقدين من الزمان تقريبًا، إلى جانب تعزيز العلاقات مع دول جوارها الإقليمي مثل الصومال وجيبوتي والسودان وجنوب السودان. حتى أن هناك تقارير أشارت في عام 2018 إلى تلميح الرئيس الإريتري أسياس أفورقي -عقب توقيع اتفاق السلام- للاتحاد بين بلاده وإثيوبيا بقيادة موحدة إثيوبية.
بينما أشارت تقارير أخرى إلى احتمالية قيام اتحاد كونفيدرالي بين إثيوبيا والصومال -في عهد الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو- خاصة بعدما صرح آبي أحمد في خطاب أمام البرلمان الإثيوبي بأن إثيوبيا والصومال ستندمجان معًا في دولة واحدة برئيس واحد وحكومة واحدة وجواز سفر واحد من خلال اندماج شرق أفريقيا، وهو ما فسره البعض برغبة آبي أحمد في الوصول للبحر الأحمر عبر بوابة الصومال وموانئها، الأمر الذي يعكس الطموح الإثيوبي الجامح في تعزيز الهيمنة الإقليمية لتحقيق أهدافه الاستراتيجية في قضاياه الإقليمية، في مقابل تقليص نفوذ بعض الأطراف الإقليمية الأخرى.
2- المصالح الاستراتيجية: يمثل امتلاك منفذ بحري دائم لإثيوبيا في البحر الأحمر هدفًا رئيسيًّا للإدارات الإثيوبية المتعاقبة منذ تحول إثيوبيا لدولة حبيسة، وهو الذي يضمن لها -حال نجاحها- وجود دائم في البحر الأحمر؛ يترتب عليه استمرار تجارتها مع العالم الخارجي، وقد يؤسس لها الحق في لعب دور في معادلة أمن البحر الأحمر وصولًا إلى امتلاك قاعدة بحرية إثيوبية -بدعم غربي- بالقرب من مضيق باب المندب بحجة تعزيز التجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي، وحماية مرور التجارة الدولية والملاحة البحرية في البحر الأحمر، خاصة أن أديس أبابا لديها شعور بالسخط بعد تجاهل مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تأسس في يناير 2020 لها، وهو ما عبر عنه آبي أحمد في فبراير 2022 بأن أمن البحر الأحمر لا يتحقق دون مشاركة إثيوبيا التي ستحافظ على مصالحها الاستراتيجية في المناطق البعيدة خلال السنوات الخمسة عشر القادمة.
3- المصالح الاقتصادية: تدرك إثيوبيا أن السعي نحو تقوية اقتصادها يعزز نفوذها الإقليمي في القرن الأفريقي، كونه يجعلها قادرة على ربط اقتصادات دول المنطقة بالاقتصاد الإثيوبي باعتباره الاقتصاد المهيمن هناك. كما يجعلها مقصدًا للاستثمارات الأجنبية، وبوابة مهمة للقوى الكبرى إلى دول المنطقة والعمق الأفريقي.
لذلك، تقود إثيوبيا مبادرة التكامل الإقليمي في القرن الأفريقي وما تتضمنه من مشروعات إقليمية عدة، من أجل تحقيق هدفين أساسيين هما؛ تعزيز ربط البنية التحتية بين إثيوبيا ودول المنطقة كما هو الحال في مشروع لابسيت LAPSSET الذي يربط بين دول كينيا -ميناء لامو- وإثيوبيا وجنوب السودان. بالإضافة إلى إمكانية توافر عدة بدائل استراتيجية فيما يتعلق بالموانئ البحرية، مما قد يسهم في تعزيز النفوذ الإثيوبي في القرن الأفريقي.
4- المصالح الأمنية: لدى إثيوبيا مصلحة حيوية في تعزيز الاستقرار الأمني الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي التي توصف بأنها إحدى البؤر المضطربة على مستوى العالم بسبب التوترات والصراعات السياسية والأمنية، في ضوء تصاعد نشاط الإرهاب هناك لا سيما حركة الشباب المجاهدين في الصومال وامتداداتها الإقليمية، وذلك في ضوء حرص إثيوبيا على تعزيز سلامة أمنها الداخلي، وتأمين حدودها من التهديدات الأمنية خاصة في ظل التأثيرات الجيوسياسية في القرن الأفريقي.
كما تنخرط إثيوبيا في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة وأفريقيا كوسيلة لتعزيز نفوذها الإقليمي ونيل ثقة القوى الدولية باعتبارها حليفًا مهمًا في هذا المجال، وهو ما يتجلى في مشاركة القوات الإثيوبية ضمن قوات الاتحاد الأفريقي الانتقالي في الصومال "أتميص" وقبلها "أميصوم" إلى جانب انتشار القوات الإثيوبية في بعض مناطق الصومال خارج سيطرة بعثة الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى المشاركة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مثل البعثة الأممية في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان الشمالي وجنوب السودان.
الدوافع الاستراتيجية الإثيوبية
تُحرّك إثيوبيا العديد من الدوافع الاستراتيجية لامتلاك منفذ بحري دائم في المياه الدافئة، وتتمثل أبرز تلك الدوافع في:
1- تعزيز المكانة الإقليمية: يخطط آبي أحمد منذ صعوده للسلطة لاستعادة ما يسمى بـ"المجد الإمبراطوري القديم" لإثيوبيا، وهو ما يعززه تصريحه بأن بلاده تسعى إلى أن تصبح القوة الإقليمية الأقوى في أفريقيا، وهو الجوهر الأساسي للمشروع الإثيوبي الذي يقوم على تعزيز الهيمنة والسيطرة الإثيوبية على دول القرن الأفريقي وتمدد النفوذ لمناطق استراتيجية أخرى في القارة، وهو ما قد يترتب عليه تقليص نفوذ وأدوار بعض القوى الإقليمية التي ترى فيها أديس أبابا أنها مناوئة لها، بينما قد يضمن لأديس أبابا في ذات الوقت زيادة اعتماد القوى الدولية الفاعلة في المنطقة بشكل أوسع على أديس أبابا لكي تستعيد ثقة الغرب لا سيما بعد تراجع العلاقات بينهما بسبب تداعيات الحرب الإثيوبية الأخيرة في إقليم تيجراي شمالي البلاد.
2- تنويع الخيارات الاستراتيجية: تسعى إثيوبيا بشكل حثيث إلى إيجاد موطئ قدم في كل الموانئ البحرية بدول المنطقة، بما يعزز البدائل المتاحة أمامها، وتأمين ممرات استراتيجية في المنطقة تهدف إلى تدفق تجارتها الخارجية والتحول إلى مركز اقتصادي ومالي إقليمي هناك. بالإضافة إلى تقليل الاعتماد على ميناء جيبوتي الذي يستحوذ على 95% من تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي، تحسبًا لأي تحولات محتملة في العلاقات بين البلدين في المستقبل في ضوء تعقيد التفاعلات الإقليمية في القرن الأفريقي، لا سيما أن مخاوفها تظل قائمة تجاه تزاحم القوى الدولية في جيبوتي، وما ينطوي عليه من تناقضات في المصالح الاستراتيجية الدولية، وما يمثله ذلك من تهديد للنفوذ الإثيوبي الإقليمي في المنطقة.
3- التغلب على الواقع الجغرافي: تدرك إثيوبيا منذ تحولها لدولة حبيسة في تسعينيات القرن الماضي بأنها افتقدت جزءًا من مقومات قوتها الإقليمية خاصة بعدما أعلنت تفكيك القوة البحرية الإثيوبية، وهو ما دفع أديس أبابا نحو تكثيف البحث عن منافذ بحرية دائمة تقلل من حدة المعضلة الجغرافية التي تعانيها البلاد، خاصة أن الحكومة الإثيوبية ترفض أن تُمارس عليها ضغوط إقليمية أو دولية لكونها دولة حبيسة، كما أنها لا تريد تكرار تجربة إريتريا في بداية الألفية حتى لا تكون مضطرة لدفع المزيد من التكلفة لمرور تجارتها عبر الموانئ البحرية في المنطقة.
4- البحث عن دور في أمن البحر الأحمر: هناك مساعٍ إثيوبية للانخراط في لعبة الأمم بإقليم البحر الأحمر، رغبة منها في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من خلال الحصول على موطئ قدم استراتيجي هناك. إلى جانب حماية السفن الإثيوبية البالغ عددها إحدى عشر سفينة تتمركز في البحر الأحمر، خاصة مع القرب الجغرافي لإثيوبيا من البحر الأحمر بمسافة تبلغ حوالي 60 كيلومتر تقريبًا، علاوة على تقديم تسهيلات عسكرية ولوجستية للدول الحليفة لها.
وقد يسهم ذلك بدوره في تعزيز دورها الإقليمي والظهور كرقم مهم في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر، وإبداء الرأي في صياغة الأهداف البحرية الإقليمية إلى جانب تقديم نفسها للقوى الدولية الفاعلة كشريك وحليف كفء في أمن واستقرار القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وذلك من خلال لعب دور في تأمين التجارة الدولية والملاحة البحرية والمضايق البحرية بما في ذلك مضيق باب المندب الاستراتيجي.
5- حماية المصالح الاقتصادية الإثيوبية: وهو ما يبرر مساعي إثيوبيا لامتلاك حصص مختلفة في الموانئ البحرية على ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي بهدف تسهيل نقل تجارتها وتجاوز التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى تنويع منافذها للمياه الدافئة وخفض رسوم الموانئ البحرية. فهي تستهدف أن تصبح قوة إقليمية تحظى بموقع استراتيجي بالنسبة لطرق التجارة والشحن والنقل البحري في القرن الأفريقي.
كما أن الاستراتيجية الإثيوبية للتحول لمركز تصنيع إقليمي يتطلب معالجة أزمة الموانئ البحرية، وذلك في إطار التوجه التنموي لإثيوبيا وتحسين قدرتها على الإنتاج، وخلق سياسة صناعية متطورة. كما أنها ترغب في توسيع الفرص الاقتصادية وتنويع طرق التجارة لكي تصبح إثيوبيا مركزًا لوجستيًّا في منطقة شرق أفريقيا بهدف زيادة النفوذ الاقتصادي الإثيوبي.
6- القلق من التنافس الدولي والإقليمي على الموانئ البحرية: هناك قلق إثيوبي من سيطرة القوات الأجنبية في بعض دول المنطقة مثل جيبوتي، وتزاحم القواعد العسكرية بما قد يعزز التنافس الدولي هناك وما قد يترتب عليه عسكرة المنطقة وتداعياتها السلبية على الأمن الإقليمي. فقد عبر روبا ميجرسا، رئيس الهيئة الإثيوبية لخدمات النقل والإمداد، عن المخاوف الإثيوبية ربما في المستقبل من تنامي نفوذ القوى الدولية وسيطرتها على قرارات دول القرن الأفريقي لا سيما جيبوتي التي ربما لا يكون لها رأي في تقرير مصيرها مستقبلًا.
7- المخاوف الأمنية لدى إثيوبيا: والتي تتمثل في تزايد نشاط الإرهاب في القرن الأفريقي لا سيما حركة شباب المجاهدين الصومالية التي تمثل تهديدًا للأمن البحري في البحر الأحمر والمحيط الهندي. بالإضافة إلى التخوفات الإثيوبية من اندلاع بعض الصراعات والنزاعات المسلحة في بعض دول القرن الأفريقي الساحلية مثل جيبوتي والصومال والتي ربما يترتب عليها انقطاع التجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي، وهو ما يدفعها نحو تعزيز إمكانياتها البحرية والأمنية من أجل الدفاع عن نفسها ومصالحها الاستراتيجية خارج حدودها.
8- ربط إثيوبيا بجوارها الإقليمي: تدرك أديس أبابا أن دول الجوار تمتلك منافذ بحرية وسواحل على البحر الأحمر، لكنها لا تستغلها بسبب افتقارها للقدرات المالية واللوجستية لاستخدامها. لذلك، شرعت إثيوبيا في التعاون مع دول الجوار الإقليمي من خلال بناء الممرات والطرق البرية التي تربط بينها مثل خط السكك الحديدية الواصل بين أديس أبابا وميناء جيبوتي بطول 750 كيلومتر بتمويل من الحكومة الصينية.
وهي تسعى بالأساس في هذا الصدد إلى تعزيز حكم أديس أبابا على الأقاليم الإثيوبية، إذ إن ربط مناطق إثيوبيا بالموانئ البحرية الإقليمية من شأنه تعزيز حكم أديس أبابا على هذه الأقاليم، لا سيما شرق إثيوبيا التي يسكنها قوميتا الأورومو والصوماليين الإثيوبيين.
9- حماية الأمن القومي الإثيوبي: تسعى إثيوبيا إلى الحفاظ على أمنها القومي وامتلاك القدرة العسكرية على التدخل في مناطق أخرى، وتقديم نفسها طرفًا في المعادلة الإقليمية الخاصة بالأمن البحري في القرن الأفريقي. وتحاول أديس أبابا التصدي لمحاولات بعض القوى الإقليمية المناوئة لها التواجد العسكري في فنائها الخلفي من خلال تأسيس قواعد عسكرية وبحرية بالقرب من إثيوبيا في بعض دول الجوار المطلة على البحر الأحمر مثل إريتريا وجيبوتي والصومال.
التحركات الإثيوبية
لم تقف إثيوبيا صامتة تجاه التحولات التي أعقبت استقلال إريتريا، حيث عززت تحركاتها على أكثر من صعيد لتجاوز معضلة الجغرافيا السياسية، وذلك على النحو التالي:
1- على الصعيد المحلي: تأسست القوة البحرية الإثيوبية في عام 1955 قبل أن يتم تفكيكها في عام 1996 وعرض أصولها للبيع عقب ثلاثة أعوام من استقلال إريتريا التي كانت قد بدأت في فرض رسوم على التجارة الإثيوبية التي كانت تمر عبر ميناء عصب الإريتري بشكل مجاني، مما ترتب عليه غلق ميناء عصب في وجه إثيوبيا لتصبح دولة حبيسة. إضافة إلى إصدار العملة الإريترية الجديدة "ناكفا" آنذاك، وهو ما شكل الشرارة التي أدت إلى اندلاع الحرب الإثيوبية الإريترية في عام 1998 والتي استمرت حوالي 18 عام تقريبًا حتى توقيع اتفاق السلام في عام 2018.
وقد حاول رئيس الوزراء الأسبق ميلس زيناوي حينها التقليل من الخطوة الإريترية ومن أهمية الموانئ وأن بلاده يمكنها التخلي عن الموانئ، وأن الاقتصاد الإثيوبي لن يتأثر، وعزز طرحه آنذاك بأن أوغندا بلد غير ساحلي بأداء اقتصادي جيد، إلا أن المخاوف الإثيوبية ظلت مستمرة منذ ذلك الحين. فقد أطلقت الحكومة الإثيوبية في أبريل 2015 استراتيجية لوجستية وطنية بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تستهدف استخدام موانئ متعددة في دول الجوار الجغرافي، حيث هدفت أديس أبابا بالأساس إلى استخدام جميع الموانئ البحرية في المنطقة.
وأعاد آبي أحمد عقب صعوده للسلطة قبل خمس سنوات إحياء الطموح الإثيوبي لامتلاك منفذ بحري في المياه الدافئة "البحر الأحمر والمحيط الهندي"، حيث تعهد في خطابه الأول عقب توليه السلطة بإعادة بناء سلاح البحرية الإثيوبية وهو حلم ظل يراود الإدارات الإثيوبية منذ تسعينيات القرن الماضي. كما أكد آبي خلال اجتماع مع قادة الجيش الإثيوبية في يونيو 2018 على ضرورة بناء قدرات القوات البحرية مستقبلًا عقب بناء قوة جوية قوية على صعيد القارة بحسب زعمه، كما أكد على ضرورة أن تصبح إثيوبيا جزءًا من الدول التي تمتلك قواعد عسكرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي حفاظًا على مصالحها وأمنها القومي.
إذ يمتلك آبي رؤية خاصة بامتلاك إثيوبيا قوات بحرية مزودة بالتكنولوجيا الحديثة، بالرغم من أنها دولة حبيسة، الأمر الذي يعكس رغبة إثيوبيا في توسيع تحركاتها لامتلاك منافذ بحرية على ساحل البحر الأحمر أو المحيط الهندي، وهو ما دفعها في فبراير 2022 للمطالبة بالانضمام إلى منتدى البحر الأحمر، واعتبر ديميكي ميكونين، وزير الخارجية الإثيوبي، أن استبعاد إثيوبيا من عضوية المنتدى هو أمر خاطئ لأنها تمتلك العديد من المقومات للعب دور مهم في تعزيز السلم والأمن بالقرن الأفريقي[1].
وفي هذا الإطار، وافق البرلمان الإثيوبي في ديسمبر 2018 على مشروع قانون حول إعادة هيكلة الجيش الإثيوبي، والذي تضمن مواد متعلقة بإعادة بناء القوات البحرية الإثيوبية. وكشفت القوات البحرية الإثيوبية في مايو 2021 عن شعارها الجديد والوسام والزي الرسمي خلال حفل أُقيم في كلية الدفاع الجوي في مدينة بيشوفتو. كما دشنت الحكومة الإثيوبية حجر الأساس لبناء مركز تدريب عسكري بحري في بيشوفتو، وهي خطوة حظيت بمعارضة الداخل لكونها بلا جدوى بينما رآها البعض بمثابة ذريعة لاحتلال إثيوبي جديد للساحل الإريتري. كما أعلنت البحرية الإثيوبية -مقرها في مدينة بحر دار بإقليم أمهرة- عن افتتاح مكتب مؤقت مستقل عن وزارة الدفاع الإثيوبية في منشأة شركة المعادن والهندسة (ميتك) في العاصمة أديس أبابا. وكانت إثيوبيا قد أسست في العقد الماضي مدرسة للبحرية في مدينة بحر دار حيث وضعت خططًا لتدريب حوالي 5000 من البحارة ومهندسي السفن على مدار أكثر من 10 سنوات بهدف تشغيلهم لصالح الأساطيل البحرية في سريلانكا والفلبين، وسط توقعات بعوائد كبيرة تبلغ قيمتها 250 مليون دولار، إضافة إلى الخبرات القوية للمهندسين الإثيوبيين[2]. وفي سبيل تسهيل التجارة الإثيوبية مع الخارج والقرب من الموانئ الإقليمية، تخطط إثيوبيا لبناء حوالي 35 ميناءً جافًا في البلاد إضافة إلى تسع موانئ جافة داخل البلاد[3].
2- على الصعيد الإقليمي: سعى آبي أحمد إلى توسيع دائرة التحالفات مع دول المنطقة من أجل البحث عن موطئ قدم استراتيجي لبلاده في القرن الأفريقي، وذلك في إطار السياسة الإثيوبية لتنويع خياراتها في مجال الموانئ البحرية، حيث استطاعت إثيوبيا خلال خمسة أشهر في عام 2018 إبرام اتفاقات لتخصيص حصص لها في بعض الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي.
إذ وقعت إثيوبيا اتفاقًا مع الصومال في يونيو 2018 يتضمن الاستثمار الإثيوبي في أربع موانئ بحرية من أبرزها ميناء جرعد وهوبيو بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية. كما أبرمت اتفاقًا مع جيبوتي في عام 2018 -في أول زيارة خارجية لآبي أحمد عقب توليه السلطة- لشراء حصة من ميناء جيبوتي وذلك في مقابل استحواذ الحكومة الجيبوتية على حصص من بعض الشركات الإثيوبية مثل شركة إثيوتيلكوم وشركة الكهرباء الإثيوبية وشركة الخطوط الجوية الإثيوبية، وهو أمر مرتبط بما كشفت عنه صحيفة كابيتال الإثيوبية في ديسمبر 2019 بشأن تفاهمات مبدئية لتأسيس قاعدة بحرية إثيوبية في جيبوتي خلال زيارة آبي أحمد لها في أكتوبر 2019.
بالإضافة إلى توقيع اتفاق آخر مع السودان في مايو 2018 للوصول إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وهو يخدم بشكل أساسي منطقة الشمال الإثيوبي في تجارتها مع الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا. كما أبرمت اتفاقًا مع كينيا في مايو 2018 يهدف إلى تسهيل حصول إثيوبيا على أراضي في جزيرة لامو كجزء من مشروع لابسيت LAPSSET -تبلغ تكلفته 24 مليار دولار- الذي يربط إثيوبيا مع كينيا وجنوب السودان.
وأعلنت هيئة موانئ دبي العالمية في مايو 2018 توقيع اتفاق يمكّن إثيوبيا من الاستحواذ على حصة نسبتها 19% في ميناء بربرة بإقليم أرض الصومال، في حين تمتلك موانئ دبي حصة نسبتها 51%، وحكومة أرض الصومال بنسبة 31%. كما وقعت إثيوبيا مع موانئ دبي مذكرة تفاهم في مايو 2021 لتطوير الطريق البري الرابط بين أديس أبابا وميناء بربرة بأرض الصومال ليصبح أحد ممرات التجارة الدولية بهدف تعزيز المصالح الاقتصادية الإثيوبية في المنطقة، خاصة أن موانئ دبي أعلنت أنها تستهدف تحقيق استثمارات بقيمة مليار دولار على طول الممر من خلال تدشين بعض المشروعات مثل الموانئ الجافة والصوامع وأحواض الحاويات.
إلا أن حكومة أرض الصومال قد أعلنت في يونيو 2022 فقد الحكومة الإثيوبية لحصتها في ميناء بربرة بسبب عدم استيفاء الشروط المطلوبة لإتمام الصفقة قبل موعدها النهائي. فقد كان من المفترض أن تقوم أديس أبابا بتطوير طريق بري بطول 260 كيلومتر يصل بين بربرة والحدود الإثيوبية.
3- على الصعيد الدولي: حاولت إثيوبيا الاستعانة ببعض الخبرات الدولية لمساعدتها في إعادة تأسيس قوتها البحرية، حيث أعلنت في 14 مارس 2019 عن توقيع اتفاق عسكري مع فرنسا بقيمة 96 مليون دولار تتضمن مساعدتها لبناء قوة بحرية إثيوبية في إطار سياسة بناء القدرات العسكرية لإثيوبيا. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقائه مع آبي أحمد بدعم بلاده لأديس أبابا في مساعيها لإقامة قوة بحرية إثيوبية، وذلك قبل أن يتم تعليق الاتفاق بسبب اندلاع الحرب الإثيوبية في إقليم تيجراي.
كما أعربت إيطاليا في يناير 2019 خلال زيارة رئيس الوزراء آبي أحمد لإيطاليا عن اهتمام الحكومة الإيطالية بتمويل تكاليف دراسة الجدوى الخاصة بمشروع خط السكك الحديدية الذي يربط بين أديس أبابا وميناء مصوع الإريتري، في محاولة لإعادة إحياء النفوذ الإيطالي في القرن الأفريقي لا سيما إثيوبيا وإريتريا.
أبرز البدائل الاستراتيجية لإثيوبيا
ترى إثيوبيا أنه لا يوجد سبب لأن تظل حبيسة، خاصة أن افتقادها للوصول للمياه الدافئة يحرمها من بعض المميزات والمكتسبات الاستراتيجية التي تحظى بها بعض دول القرن الأفريقي. ومع ذلك، لم تكشف أديس أبابا عن خططها المستقبلية بخصوص وجهتها الرئيسية لإقامة قاعدة بحرية لها في المنطقة، حتى أن البعض اعتقد أنها ترغب في تدشين شبكة موانئ إقليمية تابعة لها، وذلك في إطار محاولات إثيوبية توظيف علاقاتها مع دول المنطقة للدفع باتجاه تعزيز طموحاتها البحرية هناك[4].
ويمكن الإشارة إلى أبرز الخيارات الاستراتيجية أمام إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي على النحو التالي:
1- الصومال: وهو مرشح لاستضافة قاعدة بحرية إثيوبية دائمة لاعتبارات عدة على رأسها العلاقات الجيدة التي تربط نظام آبي أحمد بالنظام الجديد في مقديشو بقيادة الرئيس حسن شيخ محمود، بالإضافة إلى استمرار الاتفاقات المبرمة بين البلدين قبل خمس سنوات تقريبًا، فضلًا عن العلاقات القوية التي تربط بين أديس أبابا وبعض الولايات الصومالية لا سيما بونت لاند التي تسيطر على ميناء بوصاصو. إلى جانب الطموح الإثيوبي للاستحواذ على النفط في بعض الأقاليم الإثيوبية مثل الإقليم الصومالي الإثيوبي (أوجادين سابقًا) على الحدود مع الصومال الذي أشارت تقارير إلى امتلاكه احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، والمشاركة في حماية السواحل الصومالية في ظل المساعي الإثيوبية لعدم ترك الساحة الصومالية للنفوذ الكيني[5].
وتمتلك الصومال بعض الموانئ الاستراتيجية المطلة على خليج عدن والمحيط الهندي مثل بوصاصو، وكسمايو وميركا وهوبيو وجرعد وغيرها. ويمكن الإشارة إلى أبرز الموانئ الصومالية التي قد تكون وجهة رئيسية لإثيوبيا خلال المرحلة المقبلة على النحو التالي:
- ميناء هوبيو: يقع في شمال وسط إقليم مدغ شمالي شرقي الصومال بالقرب من خليج عدن ومضيق باب المندب، وهو يمثل حلقة وصل بين شمال الصومال وجنوبه، كما يمكن له أن يوفر خدمة بحرية لمناطق عدة في وسط الصومال، وأن يشكل منفذًا بحريًّا لإثيوبيا الحبيسة، وهو واحد من أربعة موانئ صومالية قد تضمنها اتفاق عام 2018 بين إثيوبيا والصومال. وتديره حاليًّا شركة Oriental Terminal وهو ائتلاف صومالي بريطاني تركي.
- ميناء جرعد: يقع في إقليم مدغ وسط الصومال ويبعد نحو 300 كيلومتر من الحدود مع إثيوبيا. وقد سلمت حكومة ولاية بونت لاند في عام 2019 الميناء إلى إثيوبيا، في أول تسليم رسمي للميناء الصومالي الأول من ضمن أربعة موانئ قد نص عليها الاتفاق الإثيوبي الصومالي في عام 2018 بين آبي أحمد والرئيس الصومالي السابق فرماجو، على أن يكون النصيب الأكبر من عائداته لصالح حكومة أديس أبابا، وهو يوفر لإثيوبيا طريقًا تجاريًا جديدًا يربط بين الميناء والمنطقة الجنوبية الشرقية في إثيوبيا[6].
2- جيبوتي: رغم أن إثيوبيا تعتمد بشكل رئيسي على ميناء جيبوتي في نقل أكثر من 95% من تجارتها الخارجية، لا سيما أنه يخدم الجزء الأوسط وشمال شرق إثيوبيا. إضافة إلى إشارة تقارير بوجود 17 فرقة بحرية إثيوبية و11 سفينة إثيوبية تتخذ من جيبوتي مقرًا لها خلال السنوات الأخيرة، إلا أن جيبوتي تظل احتمالًا مستبعدًا لإثيوبيا بسبب تزاحم القوى الدولية الفاعلة والقواعد العسكرية المتمركزة في البلاد، حيث تتخوف أديس أبابا من الضغوط الدولية على حكومة جيبوتي التي ربما لا تستطيع مواجهتها بما قد يهدد المصالح الإثيوبية في المنطقة.
كما تتخوف من التهديدات الأمنية كتلك التي تعرض لها خط السكك الحديدية الواصل بين ميناء جيبوتي والعاصمة أديس أبابا خلال الحرب الإثيوبية الأخيرة، حيث هددت قوات دفاع تيجراي بقطع الطريق أكثر من مرة، وهو ما شكل تهديدًا للحكومة الفيدرالية بعرقلة حركتها. فيما يعاني الاقتصاد الإثيوبي من ارتفاع تكلفة رسوم عبور التجارة عبر ميناء جيبوتي والتي تبلغ قيمتها أكثر من 16% من قيمة التجارة الإثيوبية الخارجية والبالغة نحو مليوني دولار يوميًّا، بحيث يبلغ إجمالي ما تدفعه إثيوبيا لجيبوتي كرسوم موانئ فقط بين 1.5 مليار دولار وملياري دولار سنويًّا[7].
3- كينيا: تحاول أديس أبابا التقارب مع نيروبي من خلال عدد من المشروعات المشتركة مثل مشروع مدينة مويالي Moyale والمنطقة الاقتصادية، والانتهاء من خط النقل الرابط بين إثيوبيا وكينيا، والإشراف على شبكات الطرق (لامو – جاريسا – إيسيولو – مويالي – حواسا – أديس أبابا).
وهناك بعض الإمكانات التي يمكن توظيفها لربط البلدين مثل الطرق السريعة الممهدة التي تربط بلدتي مارسابيت وتوربي الكينيتين مع مدينة مويالي الإثيوبية على الحدود بين البلدين مع إمكانية الوصول الإثيوبي إلى ميناء مومباسا الكيني. إضافة إلى خط السكك الحديدية الذي يجرى إنشاؤه للربط بين المدن الإثيوبية والكينية. كما يعزز هذا الطرح تصريحات روبا مجرسا، المدير التنفيذي لمؤسسة خدمات النقل والإمداد الإثيوبية، بأن إثيوبيا سوف تبني قاعدتها البحرية في كينيا كجزء من مشروع لابسيت LAPSSET الرابط بين ميناء لامو الكيني وكل من إثيوبيا وجنوب السودان[8].
ومن أبرز الموانئ الكينية التي تهتم بها إثيوبيا:
- ميناء لامو: يقع في شمال ميناء مومباسا، ويتألف من 32 مرسى، وهو جزء رئيسي في مشروع لابسيت LAPSSET الذي يربط بين كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان، ويهدف إلى تعزيز مكانة كينيا كبوابة ومركز للنقل في شرق أفريقيا، كما أنه يمثل أهمية بالنسبة لإثيوبيا في إيجاد منفذ بحري لها للمحيط الهندي. وفي حالة تنفيذ هذا المشروع، ربما يكون أحد الخيارات الرئيسية لإثيوبيا من أجل إقامة قاعدة بحرية لها في المحيط الهندي.
-ميناء مومباسا: بدأت حكومة أديس أبابا في استخدام مومباسا لخدمة المنطقة الجنوبية الإثيوبية، كما أنه يربط البلاد بسوق شرق أفريقيا. إلا أن سوء البنية التحتية يشكل عائقًا يمنع وصول إثيوبيا لميناء مومباسا.
4- إريتريا: شكلت عودة العلاقات السياسية والدبلوماسية بين إثيوبيا وإريتريا عقب توقيع اتفاق السلام بين آبي أحمد والرئيس أسياس أفورقي في عام 2018 تحولًا لافتًا فيما يتعلق بإمكانية استئناف الاعتماد الإثيوبي على الموانئ الإريترية لا سيما ميناءي عصب ومصوع، خاصة بعدما استقبل الأخير أول سفينة تجارية إثيوبية في سبتمبر 2018 بعد عقدين من القطيعة.
ومن المتوقع أن تسعى إثيوبيا للاستفادة من موقع إريتريا الجيوستراتيجي بالقرب من مضيق باب المندب الاستراتيجي، خاصة أن حصول أديس أبابا على منفذ بحري عبر إريتريا سيمكنها من تقديم نفسها كقوة إقليمية في مجال حماية النقل البحري، ويسهم في تعزيز إمكانياتها في الدفاع عن أمنها خارج حدودها.
ومن الممكن أيضًا أن يتم تدريب القوات الإثيوبية بمركز القوات البحرية الإريترية التي قامت بتدريب القوات الصومالية خلال الفترة الماضية. إلا أن العلاقات المتأرجحة بين البلدين بالإضافة إلى سوء البنية التحتية الإريترية والتخوف من نفوذ جبهة تحرير تيجراي في شمال إثيوبيا إلى جانب تخوف أسياس أفورقي من تنامي النفوذ الإقليمي الإثيوبي في القرن الأفريقي، ربما يعيق هذا الخيار الاستراتيجي بالنسبة لإثيوبيا أو على الأقل لا تعتمد إثيوبيا بشكل كلي على موانئ إريتريا خلال الفترة المقبلة.
ومع ذلك، يرى اتجاه في الداخل الإثيوبي ملاءمة ميناء عصب لإثيوبيا كأفضل خيار للتجارة الإثيوبية، وأنه يلبي حاجتها للمزيد من الموانئ البحرية في البحر الأحمر. ويبرر ذلك اعتقاد سائد بأن ميناء جيبوتي لا يكفي لخدمة إثيوبيا بسبب ارتفاع حجم الواردات والتزاحم الدولي هناك.
لذلك، يعد ميناء عصب خيارًا حيويًّا ومنفذًا بحريًّا مهمًا لخدمة شمال وشمال شرق إثيوبيا حيث يسهم في تسهيل حركة ونقل البضائع للأسواق الدولية بتكلفة مادية أقل لقصر المسافة وهو ما يعزز القدرة التنافسية الدولية للمنتجات الإثيوبية واختراق الأسواق العالمية وضمان الأمن التجاري ودعم كفاءة التصدير في إثيوبيا، مما يجعل ميناء عصب بديلًا مناسبًا لميناء جيبوتي، وإن كان عصب لا يمتلك بنية تحتية جيدة مثلما الحال بالنسبة للأخير. كما تشير تقارير إلى أن القاعدة الإماراتية في ميناء عصب ربما تكون مكانًا محتملًا لإثيوبيا لجاهزيتها خاصة بعد خروج القوات الإماراتية منها في الفترة بين ديسمبر 2020 ومارس 2021[9].
5- السودان: تنظر إثيوبيا باهتمام إلى ميناء بورتسودان باعتباره خيارًا استراتيجيًا للدولة الإثيوبية للتواصل مع العالم الخارجي. وبالرغم من توقيع اتفاق بين البلدين في عام 2018، إلا أن هناك تخوفات من أن العلاقات المتذبذبة بين البلدين خلال الفترة الأخيرة بسبب قضيتي سد النهضة الإثيوبي ومنطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين قد تسهم في تزايد احتمال انهيار الاتفاق في مرحلة مقبلة.
6- إقليم أرض الصومال: يعد ميناء بربرة الاستراتيجي هو الأقرب لإثيوبيا لا سيما الشرق الإثيوبي، ومن شأنه توفير منفذ تجاري لتصدير الزراعة والماشية. ويعد بربرة منافسًا قويًّا لميناء جيبوتي لا سيما أن المسافة بين أديس أبابا وبربرة هي نفسها المسافة تقريبًا بينها وبين ميناء جيبوتي، وهو ما قد يدفع إثيوبيا للاستعانة بميناء بربرة بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة خاصة أنه يسهل التجارة مع منطقة الجنوب والجنوب الشرقي لإثيوبيا ويربط المنطقة الشرقية الصومالية (الإقليم الصومالي الإثيوبي) بأديس أبابا من خلال استثمارات بقيمة 80 مليون دولار وهي عبارة عن طريق بري بطول 500 ميلًا تقريبًا يربط بين الميناء ومدينة توجوشال الحدودية الإثيوبية، مما يوفر منفذًا تجاريًّا إضافيًّا للتجارة الإثيوبية.
وإن كان يقابلها بعض التحديات الخاصة بالوضعية القانونية لأرض الصومال الذي لم ينل الاعتراف الدولي منذ إعلانه الانفصال عن الصومال في تسعينيات القرن الماضي. كما أن هناك محاولات إثيوبية للاستحواذ على ميناء زيلع في أرض الصومال للحصول على منفذ بحري استراتيجي، وهو ميناء يقع في شمال أرض الصومال على بعد حوالي 17 كيلومتر من الحدود الصومالية مع جيبوتي. وكان يخدم مدينة هرر الإثيوبية في السابق[10].
مستقبل التحركات الإثيوبية
لا يريد آبي أحمد الاعتراف بحقيقة أن إثيوبيا دولة حبيسة، ويبدو أنه يدرك صعوبة توسيع النفوذ الإقليمي لبلاده دون الوصول إلى الموانئ البحرية في المنطقة. ومع ذلك، تواجهه عدة تحديات ربما يصعب تجاوزها في المدى القريب، حيث يتطلب بناء قوة بحرية إثيوبية توافر التمويل المالي الضخم من أجل تدريب القوات وإيجار القاعدة.
في الوقت الذي لا تمتلك فيه إثيوبيا الموارد المالية اللازمة للاستثمار في الموانئ البحرية، لا سيما أن الاقتصاد الإثيوبي يعاني من اختلالات هيكلية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة نتيجة تفشي جائحة كوفيد-19، والحرب الإثيوبية في إقليم تيجراي، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. لذلك، ربما يتطلب تأسيس سلاح بحري إثيوبي شامل سنوات عديدة لشراء السفن وتدريب القوات، ومن هنا؛ يرى البعض أن إثيوبيا ربما تؤسس فرعًا من القوات البحرية في المدى القريب.
ورغم ذلك، تدفع العديد من المحفزات إثيوبيا نحو البحث عن بدائل متعددة لإيجاد منافذ بحرية تُمكِّنُها من الوصول للمياه الدافئة، على رأسها اندلاع الاضطرابات السياسية والأمنية في بعض دول القرن الأفريقي، والقلق الإثيوبي من تزاحم القوى الدولية والإقليمية في المنطقة. لذلك، تقود إثيوبيا مبادرة التكامل الإقليمي رغبة في أن تكون مركزًا إقليميًّا لتطوير الموانئ وربطها بدول المنطقة مثل ممر لابسيت. كما أنها تدرك أن التنافس بين الموانئ البحرية في المنطقة يصب في صالحها من ناحية تعزيز عمليات تطوير البنية التحتية والحصول على الخدمات مقابل رسوم مخفضة.
وعليه، تظل قضية الموانئ البحرية في القرن الأفريقي ذات أولوية استراتيجية بالنسبة للنظام الحاكم في إثيوبيا، فهي جزء من استراتيجية وطنية صدرت في عام 2015، ومثلت أحد الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية لآبي أحمد منذ صعوده للسلطة في عام 2018. ويبدو أن أديس أبابا ترغب في الاعتماد على نفسها في تطوير علاقاتها مع موانئ القرن الأفريقي دون أي وسيط أجنبي لكونها مصلحة مصيرية بالنسبة لها، وتفاديًّا لممارسة أي ضغوط دولية أو إقليمية عليها مستقبلًا، وإن كانت هي لا تمتلك القدرة المادية لتطوير الموانئ البحرية مقارنة بالقوى الدولية الفاعلة. إلا أنها في نفس الوقت تدعم بعض المساعي الإقليمية -لا سيما الخليجية- لتجديد وتطوير أداء بعض الموانئ البحرية في المنطقة مثل بربرة ومومباسا وبورتسودان للاستفادة من الطفرة التي تشهدها البنية التحتية لتلك الموانئ في خدمة أهدافها الاستراتيجية بتعزيز ارتباطها بها خلال الفترة المقبلة.
ومن المتوقع أن تسعى إثيوبيا إلى نسج شبكة إقليمية من الموانئ البحرية في القرن الأفريقي ترتبط بها سعيًّا إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية وعدم الاعتماد بشكل كلي على ميناء واحد، وذلك لاعتبارات جيوسياسية مرتبطة بتعزيز النفوذ الإثيوبي في المنطقة.
[1]. Strategics Think Tank, Addis Ababa and the Issue of Influence in Horn of Africa, 28 June 2021, available at: https://bit.ly/3Yqf4cf
[2]. Brendon J. Cannon and Ash Rossiter, how an Ethiopia-backed port is changing power dynamics in the Horn of Africa, The Conversation, 18 March 2018, available at: https://bit.ly/2KjH4rE
[3]. Ethiopia Plans to Build At Least 35 More Dry Ports, with Jimma and Jigjiga Ports Set to Be Built Shortly, Business info Ethiopia, 9 April 2022, available at: https://bit.ly/3K4D66T
[4]. Mahmoud Gamal, Ethiopia’s ambitions to have a naval power, Naval Post, 6 June 2021, available at: https://bit.ly/42Hdt4w
[5]. Mohammed Omar Ahmed and Simon Marks, Deep-Water Somali Port Gives Landlocked Ethiopia New Trade Route, Bloomberg, 9 September 2022, available at: https://bloom.bg/3FSMQQ9
[7]. Brendon J. Cannon and Ash Rossiter, Idem,.
[8]. Allan Olingo and Victor Kiprop, Ethiopia reaches out to Djibouti and Kenya to partner on mega projects, The East African, 12 May 2018, available at: https://bit.ly/3FQhvh0
[9]. Mahmoud Gamal, Idem,.
[10]. Brendon J. Cannon and Ash Rositter, Ethiopia, Berbera Port and the Shifting Balance of Power in the Horn of Africa, Rising Powers in Global Governance, December 2017, available at: https://bit.ly/3FRBifV