في فعالية خاصة، وبحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية، السيد/ أحمد أبو الغيط، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، الأستاذ/ عبد المحسن سلامة، وعدد من القيادات الدبلوماسية، والأكاديميين، والكتاب، والمفكرين، أعلن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في 19مارس 2023، عن صدور التقرير الاستراتيجي العربي 2022، والذي يقدم تحليلا لأهم التحولات والاتجاهات الاستراتيجية التي جرت على المستويين الدولي والإقليمي، وفي مصر، خلال العام 2022.
بدأت الفعالية بكلمة مدير المركز، د. محمد فايز فرحات، والتي بدأها بالإشارة إلى أن العديد من مراكز البحث والفكر درجت على إصدار تقارير سنوية ترصد فيها أهم التفاعلات والاتجاهات الاستراتيجية التي يشهدها العالم خلال عام مضى. وقد خاض مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية هذه التجربة منذ عام 1985من خلال "التقرير الاستراتيجي العربي" الذي صدر عدده الأول في عام 1986، الذي صدر عدده الأول في عام 1986. وقد حقق التقرير منذ ذلك التاريخ رصيدا وتراكما علميا حظي باحترام الجماعة البحثية والأكاديمية في مصر والإٍقليم، لينضم بذلك إلى عدد محدود من التقارير المهمة في العالم والأبرز في منطقة الشرق الأوسط.
ويُعد التقرير الاستراتيجي العربي هو المشروع البحثي السنوي الجماعي الأهم في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وقد حقق التقرير هذا الرصيد العلمي الكبير بسبب مجموعة من المقومات والشروط، حددها د. فرحات في التزام المركز بالمنهج العلمي الرصين، والعمل البحثي الجماعي، فضلا عن التفاعل بين مختلف الأجيال، والانفتاح على مختلف الفروع المعرفية ذات الصلة. كما أن التقرير يمثل واحدا من أهم مؤشرات "الاستدامة البحثية"، إذ قلما يوجد مشروع بحثي استطاع الاستمرار لما يقرب من أربعة عقود متتالية. ولم يكن ليتحقق ذلك لولا الأمانة التي تحملتها الهيئة العلمية لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وإيمانها بقواعد البحث العلمي الرصين.
وفيما يتعلق بنتائج أعمال التقرير الاستراتيجي للعام 2022، أشار د. فرحات إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية وارتداداتها على النظامين العالمي والإٍقليمي استحوذت على الاهتمام الأكبر لتقرير هذا العام؛ حيث رصد التقرير على مستوى التفاعلات الدولية: العوامل التي أدت إلى عدم حسم الحرب خلال عامها الأول، ودلالات ذلك بالنسبة لطبيعة الصراع، وطبيعة المرحلة الراهنة في العلاقات الأمريكية- الصينية وما إذا كانت تمثل صراعا أم لازالت تقع في مرحلة التنافس الاستراتيجي؟ وما إذا كانت العلاقات الصينية- الروسية قد وصلت إلى مستوى التحالف؟ ناقش التقرير أيضا التداعيات الجيو-سياسية والجيو-اقتصادية للحرب، فرصد الاتجاهات الاستراتيجية فيما يتعلق بالفكر الدفاعي الجديد داخل الناتو، وتحولات الأمن الأوروبي، وتحولات العقائد الدفاعية والعسكرية للعديد من الفاعلين الدوليين، والأمن السيبراني، وتحولات اليمين الأوروبي، وحركات الهجرة والنزوح، والتدافع الدولي على أفريقيا، وانعكاسات الحرب على حجم الاهتمام العالمي بقضية تغير المناخ. كذلك رصد التقرير الاتجاهات الاستراتيجية الرئيسية على مستوى النظام الاقتصادي العالمي، خاصة التوسع في آلية العقوبات خارج النظام متعدد الأطراف، وأزمتي الطاقة والغذاء، وتأثيرات الحرب على مبادئ التجارة العالمية.
وعلى مستوى التفاعلات الإقليمية رصد التقرير الأبعاد الداخلية التي حكمت دول الإقليم من الحرب، وانعكاساتها على مختلف الملفات والقضايا الإقليمية الرئيسية، وحالة الأزمات العربية، وقدم التقرير تقييما لأداء المبعوثين الأممين في الأزمات العربية، ومسارات التفاعلات الأمنية في المنطقة، وانعكاسات التفاعلات الدولية والإقليمية على مسار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في ظل تفاعلات داخلية جديدة على الجانبين.
وعلى صعيد الداخل المصري قدم التقرير تحليلا للخطاب الرئاسي خلال العام 2022، وموقع الحوار الوطني في سياق تطور النموذج المصري في التحول، بهدف بناء "جمهورية جديدة" وتوسيع المساحات المشتركة بين كل القوى والتيارات السياسية الوطنية. كذلك، رصد التقرير الإدارة المصرية لقضية تغير المناخ واندماجها في الخطاب والجهود الدولية في هذا المجال، سواء فيما يتعلق بالسياسات الداخلية أو من خلال استضافتها لمؤتمر COP27. واستعرض التقرير كذلك السياسات الاقتصادية وأولويات مصر التنموية على ضوء تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية، والتجربة المصرية الجديدة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي خلال العام 2022، والتي عكست قدرة أكبر للمفاوض المصري على تحسين شروط الاتفاق في ظل وضع اقتصادي عالمي أكثر تعقيدا. كذلك، رصد التقرير صدور وثيقة سياسة ملكية الدولة كخطوة مهمة في اتجاه تعزيز تنافسية الاقتصاد المصري.
واختتم د. فرحات كلمته بتوجيه الشكر لأمين عام جامعة الدول العربية على تفضله بالمشاركة في هذه الفعالية الخاصة، وللهيئة الوطنية للصحافة برئاسة المهندس/ عبد الصادق الشوربجي، ولمؤسسة الأهرام ورئيس مجلس إدارة المؤسسة الأستاذ عبد المحسن سلامة، لدعمهم المخلص للنشاط العلمي للمركز في هذه المرحلة المهمة.
تلي ذلك كلمة د. عمرو هاشم ربيع، نائب مدير المركز ورئيس تحرير التقرير، والتي أشار فيها إلى دلالة استمرارية التقرير في الصدور حتى العدد الحالي، وعلى مدى ما يقرب من أربعة عقود متتالية. وتناول في هذا السياق أهمية التقرير كعمل بحثي جماعي، أجمع أساتذة المركز وخبراؤه على حتمية بقائه وانتظام صدوره كرمز من رموز قوة مصر الصاعدة فى محيطها العربي والدولي، مشيرا إلى أن التقرير على مدى تاريخه سد العجز فى رصد الأحداث وتحليلها، ووفر تحليلا سياسيا علميا معمقا للقراء وصناع القرار، وسعى إلى استشراف المستقبل، وتوقع الكثير من التحولات بأسلوب علمي موضوعي ومتوازن، وحمل أفكارا وحلولا ومقترحات لعديد من التطورات والظواهر.
تلي ذلك كلمة الأستاذ/ عبد المحسن سلامة، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، التي أشار فيها إلى الدور التنويري التاريخي لمؤسسة الأهرام على مدار ما يقرب من قرن ونصف القرن. ويأتي في قلب هذا الدور التاريخي للمؤسسة دور مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الذي مضى على تأسيسه 55 عاما، ليمثل بذلك واحدا من أقدم مراكز الفكر في إقليم الشرق الأوسط، وأحد مصادر القوة الناعمة لمصر، بما يمتكله من عقول وكوادر بحثية وأكاديمية مهمة، وما قدمه من أفكار كبرى منذ تأسيسه وحتي الآن، ما أهله ليحتل ترتيبا متقدما على مستوى إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعلى مستوى العالم وفق التصنيفات الدولية الأهم لمراكز الفكر. كما أعاد التأكيد على الدور الذي باتت تلعبه مراكز الفكر على مستوى العالم في ضوء ما يشهده العالم من تحولات سريعة ومعقدة.
واُختتمت الفعالية بكلمة السيد/ أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، التي بدأها بالحديث عن خبرته كدبلوماسي مع التقرير الاستراتيجي العربي، مؤكدا أن اهتمامه بالتقرير يعود إلى عدده الأول الصادر في عام 1986، حينما كان مندوبا مناوبا لمصر في الأمم المتحدة، وأنه كان يتشوق آنذاك لصدور تقرير علمي مصري أو عربي مماثل للتقارير الصادرة عن مراكز الدراسات الاستراتيجية الكبيرة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وأن هذا الطموح قد تحقق مع صدور التقرير الاستراتيجي العربي. وأكد أبو الغيط أن التقرير يمثل مصدرا لا غنى عنه للعاملين في حقل السياسة الخارجية لفهم حالة النظام العالمي والتفاعلات الدولية، بما يتضمنه من رصد علمي وتحليل لمعظم التطورات الدولية في العام المنصرم.
ودعا أبوالغيط مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية لإعطاء اهتمام أكبر بالتحولات الجارية في القارة الآسيوية، خاصة في ضوء ما كشفت عنه تفاعلات عام 2022، من تعدد الأزمات الدولية، خاصة أزمة الحرب الروسية- الأوكرانية وما تضمنته من صراع روسي- غربي، والصراع الأمريكي- الصيني. وأكد أبو الغيط في هذا السياق على عودة "الجيوبوليتكس" (الجغرافيا السياسية)، على نحو ما تنبأت به الكثير من التحليلات، على نحو يستدعي نظرية عالم الجغرافيا السياسية هالفورد ماكيندر (1861- 1947)، والذي جادل بأن منطقة أوراسيا تمثل قلب العالم، وأن من يسيط على قلب العالم يسيطر على العالم. كما أشار إلى النظريات الكبرى في فهم تحول النظام العالمي، وعلى رأسها نظرية "تحول القوة" التي تشرح مسار العلاقة بين القوة المهيمنة والقوة الصاعدة، والتي تجادل بدورها بأن القوة المهيمنة تسعى إلى إجهاض مشروع القوة الصاعدة، ما قد يؤدي إلى حدوث مواجهات عسكرية في لحظة محددة. وأشار أبو الغيط في هذا السياق إلى أن اللحظة الراهنة في تطور النظام العالمي تشير إلى تبلور كتلتين؛ كتلة تعبر عن "التحالف" الصيني- الروسي، وهو تحالف يتضح يوما بعد آخر، في مواجهة كتلة أخرى بقيادة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية وحلف الناتو.
وأكد أبو الغيط أن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تجاوزت التنافس، وأن الحرب في أوكرانيا تقد تُعجل بالمواجهة الأمريكية مع الصين، وأن العقود المقبلة سوف تتحكم بها المواجهة بين هاتين الكتلتين، داعيا إلى ضرورة منح اهتمام أكبر بمسار العلاقات الأمريكية- الصينية، والانفتاح على الثقافتين الروسية والصينية، وعلى مدارس التحليل غير الغربية. واختتم كلمته بالتأكيد على أهمية ما قدمه التقرير في وصف حالة النظامين العالمي والإقليمي، وما يسيطر على النظام العالمي من سيولة وانعدام اليقين، وأننا أصبحنا أقرب إلى حرب عالمية ثالثة من أي وقت مضى، بالإضافة إلى مخاطر وقوع حرب إقليمية جديدة.