منذ توقيع اتفاقية جوبا للسلام عام 2020، التي ضمت العديد من الحركات المسلحة والقوى السياسية التي لم تنضو تحت مكونات قوى الحرية والتغيير، ثم الاتفاق الإطاري الأخير بين المكونين العسكري والمدني، الذي وُقع في ديسمبر 2022، ومثّل خارطة طريق تمهد لاتفاق نهائي وتشكيل حكومة تصريف أعمال حتى إجراء الانتخابات بعد 24 شهراً، تثار تساؤلات عديدة حول أسباب تباطؤ عملية التنفيذ.
وربما اكتسبت هذه التساؤلات مزيداً من الأهمية والزخم بعد إعلان المتحدث باسم العملية السياسية في السودان، خالد عمر يوسف، في 20 مارس الجاري (2023)، عن أن التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي سيكون في الأول من أبريل القادم، على أن يتم التوقيع في السادس من الشهر نفسه على الدستور الانتقالي.
فقد حددت جميع بنود تلك الاتفاقيات بشكل كبير الإجراءات والقرارات والمحاور التي يتم البت فيها في غضون ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى وضع مسارات مختلفة لتسوية الأزمات مثل شرق السودان، وجنوب كردفان والنيل الأزرق، والوسط والشمال، وعودة النازحين، ومعالجة قضايا الصراع بين الرعاة والرحل، وأخيراً الترتيبات الأمنية وحدود انتشار القوات من خلال الدمج والتسريح.
وكان من المفترض أن يكون شهر يناير 2023 نقطة انطلاق المرحلة النهائية من العملية السياسية فى السودان، إلا أن عملية التنفيذ واجهت إشكاليتين رئيسيتين هما: الانقسامات بين القوى السياسية، والتمويل.
انقسامات القوى السياسية
رفضت قوى إعلان الحرية والتغيير تقديم تنازلات لمكونات الكتلة الديمقراطية التي تضم حركات مسلحة وقوى سياسية، وطالبت بإجراء تعديلات جوهرية على التنظيمات التى تضم الكتلة الديمقراطية، مثل الحزب الديمقراطي، والمؤتمر الشعبي (تنظيم إسلامي)، وبعض منظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى مكونات الجبهة الثورية وعلى رأسها الحركات المسلحة، وهو الأمر الذى تسبب فى صراع آخر له دلالات وأبعاد اجتماعية وسياسية تتعلق بنسبة المشاركة السياسية فى المجالس التشريعية، مما أدى إلى عدم تكملة مرحلة الانتقال. وقد اشتمل الاتفاق النهائي على خمسة محاور أساسية هى: العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، ومراجعة اتفاق السلام وتقييمه، وتفكيك نظام الإخوان المسلمين، ومسار شرق السودان.
وقد ظلت خطوات تنفيذ الاتفاقيات بين القوى الفاعلة في الأزمة حجرة عثرة أمام تكملة المرحلة الانتقالية في البلاد. إذ لم تتجاوز عملية التنفيذ في أفضل التقديرات مراحلها الأولى، وذلك بسبب حالة الانقسام السياسي العميقة التي سادت المرحلة الانتقالية، وتمسك قوى الحرية والتغيير بصورة قاطعة ببروتوكول تقاسم السلطة بعيداً عن الانتقال إلى المرحلة المقبلة. وتزامن ذلك مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية وضعف التمويل الناتج عن توقف المساعدات الاقتصادية للفواعل الدولية والإقليمية.
وتعتبر الانقسامات والاستقطاب الحاد في الشارع السياسي السوداني، وبين أطراف العملية السياسية التي تقود هذه المرحلة بمثابة معضلة حقيقية، حيث فشلت المكونات السياسية في لملمة خلافاتها من أجل عبور المرحلة الانتقالية. وقد أدى الاستقطاب بين مختلف الأطراف إلى انتقال التشظي إلى المكونات الاجتماعية. وبدورها تسببت الانقسامات في تعطيل العملية السياسية، وبالتالي غياب المؤسسات المستقرة. وكان لقوى الحرية والتغيير نصيب كبير في المشهد السياسي السوداني خلال المرحلة الماضية منذ سقوط نظام البشير، فقد سعت مكوناتها لتحقيق أهدافها الأساسية بالسيطرة على السلطة التنفيذية وإخضاع المؤسسة العسكرية، على نحو أدى إلى تأجيج الصراعات والانقسامات المستمرة على السلطة.
والأهم من ذلك، أن بعض مكونات الحرية والتغيير تتحفظ حول مدى ملاءمتها مع المؤسسات الديمقراطية التي تسعى إلى الانتقال إليها لاحقاً. كما أن الحرية والتغيير لم تتخذ خطوات ملموسة من شأنها أن تضمن المشاركة الفعالة لمكوناتها، فلا شيء إيجابي تم تحقيقه على مدار السنوات الماضية.
أيضاً، طالت الانشقاقات لجان المقاومة الشعبية، والقوى الموقعة على اتفاق سلام جوبا، بما فيها الحركات المسلحة. ومن أبرز الخلافات القائمة بين تلك الأطراف الخلاف بين الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية وبعض أطراف الاتفاق الإطاري، حيث تعنتت الأولى فى موقفها الرافض للتفاوض مع الكتلة ككيان موحد، الذي كانت ترغب فى تجزئته، فيما ترفض الكتلة الحوار الجزئي بين مكوناتها، لأنه يتعلق بنسب المشاركة فى السلطة، خاصة فى المجلس التشريعي، وكلاهما يرفض تقديم تنازلات، من أجل الاحتفاظ بالتوازن بين مكوناته.
معضلة التمويل
لقد تسبب ضعف التمويل الخارجي في الحد من القدرة على تنفيذ بنود الاتفاقيات، لا سيما تلك التي ارتبطت بالمساعدات المالية من مجموعة "الترويكا" والاتحاد الأوروبي. ومن جهة أخرى، ليس في مقدرة الحكومة فى السودان توفير تلك الميزانية الضخمة من أجل دفع عملية الاستقرار السياسي ونهوض أي حكومة بمسئولياتها، فضلاً عن قيادة عملية السلام في المناطق المتنازع عليها؛ فالمانحون والضامنون للاتفاقات وعملية التحول الديمقراطي، تقع على عاتقهم مسئولية في توفير الدعم من أجل المضي قدماً في تنفيذ تلك الاتفاقيات، ولكن تأخير تقديم المساعدات المالية تسبب فى تعثر التنفيذ بشكل كبير، مما تسبب فى الضغط على إيرادات الدولة السودانية المحدودة في الأساس، وهو ما انعكس سلباً على الواقع السياسي والاقتصادي الذى ظلت البلاد تعيشه على مدى السنوات الماضية.
ووفقاً لبنود الاتفاق الإطاري الأخير، الذى تضمن 25 بنداً، فإن هناك العديد من القضايا العالقة التى تحتاج إلى الوصول لتوافق حولها فى فترة زمنية لا تتراوح الثلاثة أشهر من بدء سريان الاتفاق، إلا أن الأزمة الاقتصادية التى يمر بها السودان أدت إلى تأجيل البت فيها، وهو الأمر الذي انعكس بدوره على الوضع السياسي الراهن.
وقد حدد الاتفاق بشكل واضح جدولاً زمنياً لتنفيذ الالتزامات، على رأسها الترتيبات الأمنية، وبروتوكول المنطقتين "جنوب كردفان والنيل الأزرق"، ومسار دارفور، وشرق السودان، بالإضافة إلى تقاسم السلطة والثروة والعدالة الانتقالية، وعودة النازحين، والقضايا المعقدة بين الرعاة والرحل وطرق معالجتها من جذورها حتى لا تصبح بؤراً للتوتر والصراع مرة أخرى بين تلك المجموعات.
وتسببت معضلة توفير التمويل فى تأخير تنفيذ الاتفاق، على نحو توازى مع الانقسام الكبير بين أطراف المسارات السياسية المتقاطعة. كما أن تقديم الدعم من جانب المجتمع الدولي مرهون بتوافر شروط معينة من بينها تمرير أجندة بعض القوى، وتأسيس حكومة مدنية كجهة من مهامها تسوية القضايا العالقة.
وقد كشف مؤتمر مخرجات التقييم الذي عقدته المفوضية القومية للسلام فى بداية العام الحالي لبحث سبل التعامل مع الاتفاقيات الموقعة بين المكونين العسكري والمدني، العديد من السلبيات فى مقدمتها المرجعية التنفيذية لهذه الاتفاقيات ومراحلها المعقدة، وما واجهته من عراقيل ومشكلات متعلقة بضعف المخصصات المالية التي كان من المفترض أن يتم ضخها للجهات المعنية لتنفيذ الاتفاق على الأرض. كما أشار التقييم إلى أن الجهاز التنفيذي فى الوزارات والهيئات الحكومية، المناط به تنفيذ العديد من المهام في الاتفاق الإطاري، يعاني بدوره شحاً فى موارده.
وعلى ضوء ذلك، فإنه من الضرورة بالنسبة للقوى السياسية، لا سيما الحرية والتغيير ومكوناتها وشركائها والحركات المسلحة والمجتمع المدنى، العمل على إيجاد أرضية مشتركة بينها، لضمان نجاح تنفيذ الاتفاق النهائي. وربما يتم استدعاء تدابير أخرى كاتخاذ قرارات سيادية تنفيذية، مع الدعوة لاستحداث تشريعات دستورية بهدف معالجة بعض القضايا العالقة والتي تمثل حجرة عثرة بين أطراف العملية السياسية، وذلك حتى لا تدخل تلك العملية في دائرة مفرغة خلال المرحلة القادمة.