فى 20 مارس من عام 2023 الجارى، تحل الذكرى العشرون للغزو الأمريكى للعراق عام 2003؛ حيث شنت الولايات المتحدة وبريطانيا، بالتعاون مع عدة دول شكلت ما يسمى آنذاك بالتحالف الدولى، حرباً ضروساً ضد دولة ذات سيادة وعضو فى الأمم المتحدة، وكان الهدف الرئيسى لهذه الحرب هو الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق صدام حسين. وساقت الولايات المتحدة عبر مسئوليها مجموعة من المبررات التى بنت على أساسها غزوها العسكرى للعراق ومن ثم احتلال أراضيه فى إبريل 2003، وتبين بعدها بسنوات أنها مبررات "كاذبة" وصفها العديد من الخبراء الاستراتيجيين بــ "كذبة القرن".
وقد استهدفت الولايات المتحدة عبر تلك المبررات خداع العالم أولاً، وإقناع الرأى العام الأمريكى ثانياً بمدى "شرعية الحرب المقدسة" التى يجب أن تخوضها بالتعاون مع شركائها الدوليين ضد النظام السياسى العراقى "المارق". وتنوعت مبررات "كذبة القرن" بين امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل - نووية وبيولوجية ثبت عدم وجود أى أثر لها – وبين عدم تعاون النظام بفاعلية مع لجان التفتيش الدولية بشأنها، وأخرى تتعلق بامتلاكه منظومة صواريخ بعيدة المدى بإمكان بغداد تهديد أمن دول الجوار بها، وثالثة تتعلق بتعاونه مع تنظيم القاعدة وإيوائه لعدد من عناصره النشطة التى لها علاقة مباشرة بأحداث 11 سبتمبر 2001.
إذ تبين ووفقاً لوثائق بريطانية تخص مجلس الوزراء تم الإفراج عنها مؤخراً، أن بريطانيا - شريكة الولايات المتحدة فى غزو العراق - كانت على علم بأن العراق لم يكن لديه القدرة على امتلاك لا أسلحة دمار شامل ولا صواريخ بعيدة المدى قبل عامين من تاريخ الغزو، نتيجة لخضوعه لعدة عقوبات دولية فى أعقاب حرب تحرير الكويت فى عام 1991.
بهذا المنطق المغلوط، تعرضت العراق لأكبر عملية "عنف ممنهج" تخالف القوانين الدولية وتنافى "دستور الأمم المتحدة" وفقاً لوصف الأمين العام وقتها كوفى أنان.
وبعد سقوط بغداد فى 3 إبريل 2003، اتجهت الولايات المتحدة إلى ترويج نموذجها التى ترغب فى تطبيقه داخل العراق المحتل بهدف تحويله من "دولة مارقة" إلى "دولة ديمقراطية". ومنذ ذلك التاريخ، عمدت إلى تفكيك شامل لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والسياسية بما خلف أوضاعاً كارثية أدخلت العراق فى حلقة مفرغة من العنف المسلح نتيجة ما خلقه تفكيك المؤسسات الأمنية من فرص لتزكية الانشقاقات الطائفية وظهور الميليشيات المسلحة التى استخدمت العنف المسلح منهجاً للتعامل البينى على مدى سنوات، وغذاها بقوة صياغة دستور عام 2005 فى ظل وجود المحتل الأمريكى، الذى دعم بناء عملية سياسية تقوم على تقاسم السلطة وفقاً لنظام محاصصة طائفية، وزعت فيه رئاسات الدولة (الجمهورية والحكومة والبرلمان) توزيعاً طائفياً، وأُعطى المكون الشيعى بمقتضاه أفضلية باعتباره الأكثر عدداً، هذا التوزيع الطائفى ترسخت على أساسه سياسات العديد من الحكومات العراقية الشيعية التى تولت السلطة منذ عام 2006، وحتى الآن، لاسيما مع خطورة امتلاك عدد من القوى السياسية أذرع وميليشيات مسلحة استطاعت توظيف سلاحها فى خدمة مصالحها السياسية، بل تجاوزت هذه المرحلة إلى ما هو أبعد بكثير حينما وظفت سلاحها فى مواجهة الدولة نفسها.
وفى عام 2008، ربطت الولايات المتحدة وجودها العسكرى فى العراق بعدة اتفاقات أطلقت عليها "اتفاقية الإطار"، ثم توالت عملية إحكام السيطرة الأمريكية على العراق بإبرام اتفاقات التعاون الاستراتيجى عام 2010، وهى اتفاقات شاملة لكافة مناحى التعاون المشترك بين البلدين الأمنية والعسكرية والاقتصادية ومن خلالها رتبت الولايات المتحدة وجودها فى العراق فى مرحلة ما بعد الانسحاب عام 2011. ومع انتشار تنظيم الدولة "داعش" فى العراق عام 2014، عاد الوجود العسكرى الأمريكى للعراق مرة أخرى من باب محاربة الإرهاب. وفى يناير 2020، أصدر البرلمان العراقى قراراً يطالب فيه الحكومة العراقية بالعمل على إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى. وبالرغم من اتجاه الولايات المتحدة عام 2021، إلى تغيير طبيعة وجودها العسكرى فى العراق من مهامه القتالية إلى التعاون الاستخباراتى والمشورة العسكرية والتدريب، إلا أن ما خلفه هذا الوجود على العراق سواء على صعيد العملية السياسية وتفاعلاتها بين القوى السياسية والحزبية وتداول السلطة بها، أو على صعيد السياسة الخارجية العراقية وعلاقاته الإقليمية والدولية قد خلق من العراق دولة مأزومة غير مستقرة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ما يدفع إلى التساؤل حول مدى نجاح الولايات المتحدة وبعد عشرين عاماً من اجتياح العراق فى تحويله إلى "نموذج ديمقراطى" تحتذى به دول المنطقة.
خطاب التضليل وتبعاته
فى 5 فبراير 2003، قبيل الغزو، ألقى وزير الخارجية الأمريكى كولن باول خطابه فى الأمم المتحدة، أعلن فيه أن ثمة تقارير استخباراتية مؤكدة بشأن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل – اعترف بكذب هذه التقارير فى عام 2005 أى بعد عامين من الاحتلال- بهدف تبرير الإعداد لغزو العراق. خطاب التضليل هذا كان بوابة الدخول العسكرى للعراق، والذى بموجبه دفع العراق وعلى مدى عقدين من الزمن أثماناً سياسية باهظة له.
فالأسباب الظاهرة للغزو الأمريكى للعراق السابق الإشارة إليها لم تخف الأسباب الحقيقية التى تكشفت خلال العشرين عاماً الماضية، والتى على أساسها نسج المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة خطتهم – طبقاً لدوافع أيديولوجية - لرسم مصالح الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق وبذريعة معاقبة مرتكبى أحداث 11 سبتمبر 2001.
وبدون الدخول فى تفاصيل الأسباب الحقيقية للغزو الأمريكى للعراق الذى أرّخ لحقبة سياسية جديدة على مستوى التفاعلات الدولية والإقليمية على مدى العشرين عاماً الماضية، يمكن إجمالها فى عدة نقاط تمثل أبرزها فى العامل الاقتصادى، حيث يمتلك العراق ثروة نفطية هائلة – ثانى أكبر احتياطى نفطى بعد السعودية - وكان هذا السبب تحديداً هو المحرك الرئيسى لآلة الحرب الأمريكية ضد العراق، بحيث تتمكن الولايات المتحدة من التحكم فى أسواق النفط وأسعاره. هذا بالإضافة إلى تحجيم العراق كقوة إقليمية تتمتع بوزن عسكرى يعتد به فى المنطقة لاسيما بعد انتهاء حربه مع إيران، وتخوفات الغرب من تحويل فائض هذه القوة العسكرية لمواجهة إسرائيل. بخلاف ما يمثله العراق من أهمية جيوسياسية حيث موقعه الاستراتيجى فى منطقة المشرق العربى، والذى يوفر عمقاً استراتيجياً لسوريا ولبنان ومدى ارتباط ذلك بإسرائيل، فضلاً عن أن الموقع نفسه يمكن الوجود العسكرى فيه من مراقبة قوى دولية مناوئة فى استراتيجيتها للولايات المتحدة كروسيا والصين، وفى الوقت نفسه حماية أمن إسرائيل.
بينما تركزت الأهداف الاستراتيجية للغزو فى إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط وتغيير الأنظمة غير الحليفة بها لتتبنى وجهات نظر أمريكية تجاه قضايا المنطقة، مع ربط هذه الاستراتيجية بضرورة وجود عسكرى كبير فى بعض من دولها الرئيسية عبر قواعد عسكرية وتوافر هذا فى العراق، لاسيما بعد فرض الحصار الاقتصادى عليه جراء غزوه للكويت عام 1990. كما ارتبطت عملية إعادة هيكلة الدول الرئيسية فى المنطقة - وفقاً لرؤى المحافظين الجدد - بالعمل على نظرية "تفتيت" المجتمعات التى تتكون من طوائف وعرقيات مختلفة، مع الإعلاء من شأن إحداها على أخرى كآلية تؤدى إلى صراعات على أسس طائفية أو عرقية من شأنها إضعاف الدولة، وتراجع مؤسساتها، وافتقادها القدرة والسيطرة على ما دونها من طوائف وجماعات.
هذا إلى جانب ترويج المحافظين الجدد لفكرة الربط بين مواجهة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وبين غزو العراق باعتباره ترجمة للحرب على الإرهاب لاسيما بعد أن وفرت سيطرة اليمين المتطرف للإدارة الأمريكية آنذاك مسوغات تشريعية عبر إصدار عدة قرارات من الكونجرس تمكنها من شن حرب على العراق باعتباره دولة ترعى الإرهاب.
تداعيات على مدى عقدين من الزمن
خلال الفترة من 2003، وحتى موعد الانسحاب الأمريكى الرسمى فى ديسمبر 2011، بدا أن إدارة الولايات المتحدة لعميلة خلق النموذج الديمقراطى فى العراق على المحك وأقرب إلى الفشل منها إلى النجاح. بل ثمة من يقول بأن استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، أثبتت فشلها الذريع سواء فى أفغانستان أو العراق. فقد اتسم الوجود العسكرى فى العراق حتى عام 2011 بغياب استراتيجية أمنية واضحة الأهداف باستثناء حماية آبار النفط. كما أن ما خلفته الإدارة الأمريكية على مستوى السياسة الداخلية كان سبباً مباشراً فى ظهور الإرهاب الحقيقى متمثلاً فى تنظيم الدولة، خاصة تفكيك الجيش والشرطة وحزب البعث ومؤسسات الحكم.
هذا إلى جانب أن مسار إدارة التفاعلات بين القوى السياسية منذ تشكيل الحاكم العسكرى للمجلس الانتقالى فى 2003، خلق العديد من الصراعات الطائفية المسلحة التى بلغت أوجها خلال الفترة 2006- 2007؛ نتيجة تكوين أحزاب سياسية على أسس الهوية الطائفية وليس الهوية الوطنية. واستمرت الصراعات الطائفية تلك فى زخمها حتى منتصف عام 2014، حيث تعاقبت منذ عام 2006 وحتى عام 2014، عدة حكومات شيعية عُدت أكثر الحكومات طائفية فى تاريخ العراق المعاصر.
وبالرغم من أن دستور 2005 الذى صيغ فى ظل الاحتلال الأمريكى، لم ينص صراحة على اعتبار الهوية الطائفية أساساً لتقاسم السلطة، إلا أن الممارسات التطبيقية لنصوصه جعلت من "الهوية الطائفية" أداة سياسية؛ أى اندمجت "الهوية الطائفية" مع "طائفية سياسية" أقرها النظام المعمول به من جانب الحاكم العسكرى للعراق آنذاك، الأمر الذى زاد من حدة التمييز الطائفى وتحديداً عندما ترجم على صعيد المشهد السياسى العراقى إلى محاصصة سياسية وحزبية، بما أدى إلى تهميش القوى السياسية السنية والكردية لصالح دور أكبر وأوسع للقوى السياسية الشيعية؛ التى مارست أحزابها السياسية الدينية المتشددة وأذرعها العسكرية أعنف سياسات القمع الطائفى ببعديه الدينى والسياسى تجاه غيرها من الفئات، وهو ما أدى إلى غياب كامل للمصلحة الوطنية العراقية التى من المفترض أن تؤسس على "الهوية الوطنية" بدلاً من"الهوية الطائفية"، حيث استعملت الأخيرة كأداة سياسية كانت سبباً مباشراً فى تداعيات مدمرة على العراق أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
ورغم الانسحاب العسكرى الأمريكى من العراق فى ديسمبر 2011، إلا أن العراق – ووفقاً للنظام الذى أقره المحتل - ظل يعانى حالة من عدم الاستقرار الأمنى والسياسى، بل ظلت الحكومات الشيعية المنتخبة المتعاقبة تمارس سياسات تهميش اجتماعى وسياسى واضحة تجاه غيرها من الفئات الاجتماعية والقوى السياسية، وأعلت من مصلحة التيارات الشيعية الاقتصادية والاجتماعية لتمتزج مع مصالحها السياسية بصورة خلقت بيئة صالحة لانتشار الفساد بكافة صوره وأنماطه، وتراجعت فى الوقت نفسه كافة خطوات بناء الدولة لاسيما فى مستويات البنية التحتية والخدمات. وبات واضحاً أن الحكومات الشيعية الطائفية منذ انتخابات عام 2006 مارست سياسات تمييز متعددة الأوجه تجاه المكون السنى وأحزابه السياسية، بما همشه اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وخلق لدى هذا المكون قناعة تامة بمظلومية وجوده داخل النسيج الاجتماعى والسياسى فى الدولة، وكانت قناعة الطائفة السنية بالمظلومية باباً واسعاً تم عبره نشأة تنظيم أشد شراسة ودموية من القاعدة – الذى يعد أحد أسباب دخول الولايات المتحدة للعراق - هو تنظيم "داعش" الذى اجتاح العديد من المحافظات العراقية السنية، التى وفرت له بدورها حاضنة شعبية متطلعة إلى التخلص من حالة الإقصاء والتهميش والتمييز التى مورست ضدها من قبل الحكومات الشيعية المتعاقبة.
ونتيجة لإدارة الدولة على أسس طائفية – رسخها الاحتلال الأمريكى - بعيداً عن أسس المواطنة نمت فى العراق شبكة ضخمة من أصحاب المصالح من المنتمين للأحزاب والقوى السياسية، ومن المرتبطين بها، ما أدى إلى انتشار جامح للفساد بكافة أنواعه السياسية والإدارية والمالية. وبدا كذلك أن العملية السياسية فى العراق وفقاً للرؤية الأمريكية هدفها الرئيسى خدمة مسارات السياسة الأمريكية تجاه الدول "العنيدة" فى منطقة الشرق الاوسط، وتقوم هذه الرؤية على "تفتيت" المجتمع السياسى وتحويله لمجموعة من أصحاب المصالح. هذا إلى جانب "تفكيك" المجتمع نفسه، الذى أصبح وبعد السنوات العشر الأولى من تاريخ الاحتلال الأمريكى يعانى من أكبر نسبة بطالة فى تاريخه، وتراجع مستوى الخدمات المقدمه له من تعليم وصحة وبنية تحتية. وبعد السنوات العشرة الثانية اتجه إلى البحث عن مخرج للاستقطاب الطائفى، وهيمنة الأحزاب التقليدية على السلطة التى استطاعت أن تقوض أية مطالبات شعبية أو سياسية بالتغيير الجاد فى أسس العملية السياسية وبناء دولة المواطنة.
ونتيجة طبيعية لإعلاء الاحتلال الأمريكى – منذ تشكيل المجلس الانتقالى فى عام 2003 - من دور المكون الشيعى فى الحياة السياسية العراقية من باب كونه الأكثر عدداً، ومن باب مظلوميته وتعرضه للتهميش والإقصاء إبان حكم حزب البعث، كان العنف الطائفى الذى استخدمه المكون الشيعى تجاه غيره من مكونات المجتمع العراقى هو عنوان العلاقة الاجتماعية والسياسية بين مكوناته على مدار العشرين عاماً الماضية، ما أنتج مجتمعاً غير مستقر لاسيما بعد أن قامت الأحزاب الشيعية بتكوين ظهير عسكرى من ميليشيات وجماعات مسلحة أطلق لها العنان لتمارس أكثر سياسات التطهير الطائفى شراسة وعنفاً ضد السنة والأكراد. هذه الجماعات المسلحة ارتبطت بقوة بإيران التى قدمت لها الدعم المادى والعسكرى والاستخباراتى وربطتها بشبكة مصالح اقتصادية وتجارية واجتماعية ضخمة، وبات ولاء تلك الجماعات أكثر ارتباطاً بالمصالح الإيرانية ليس فى العراق فحسب، بل أيضاً فى المنطقة كلها.
فعراق اليوم وبعد عشرين عاماً من الغزو الأمريكى مثخن بالكثير من الميليشيات الطائفية الرافضة لأى قانون داخلى من شأنه أن يجبرها على تسليم سلاحها لمؤسسات الدولة الأمنية، أو أن تندمج داخل ألويتها. وإلى جانب دورها الميليشياوى فى دعم مصالح أحزابها ومصالح الراعى الإقليمى الإيرانى داخل العراق تلعب الميليشيات الولائية وتحديداً حزب الله العراقى وعصائب أهل الحق والزينبيون وسرايا الخرسانى والفاطميون دوراً اقتصادياً مهماً؛ حيث تمثل المنفذ الرئيسى للمصالح الاقتصادية الإيرانية عبر العراق، نتيجة لكونها تسيطر فعلياً على المنافذ والمعابر الحدودية مع إيران، ومن ثم فهى تتمتع بسطوة السلاح وسطوة القوة الاقتصادية أيضاً، وهو ما يضعها فى موقع الند للدولة ولمصالحها الاقتصادية. وقد زاد من تمترس تلك الميليشيات فى الحياة السياسية دورها الذى لعبته فى مواجهة تنظيم الدولة خلال الحرب ضده (2014- 2017)، وبمقتضى هذا الدور رسخت تلك الميليشيات من موقعها داخل معادلة التجاذب السياسى بين القوى الحزبية المختلفة.
وحتى مع تصاعد حدة الغضب الشعبى فى العراق بدءاً من عام 2019، على منظومة الحكم التى أقرتها طائفياً إدارة الاحتلال الأمريكى بداية من عام 2003، والتى اعتبرتها الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير سبباً رئيسياً فى كل ما يعانيه العراق من أزمات أمنية واقتصادية وسياسية، لم تجد حركات التغيير تلك مسانداً خارجياً يدعمها، على العكس من الميليشيات التى ساندتها إيران بكل قوة حتى عبرت بها فترة التراجع التى لحقت بدورها خلال الفترة (2020-2022) على وقع الاستجابة للحركات المطالبة بالتغيير ضد سلطة الأحزاب التقليدية الموالية لإيران، وهى الفترة التى تمتع فيها العراق بقدر من التوازن فى إدارة الدولة سواء على مستوى الداخل أو على مستوى العلاقات الخارجية. وحتى هذا التغيير النسبى والنوعى غابت عن مساندته الولايات المتحدة التى انشغلت منذ عام 2020 بمناطق صراع أخرى بالقرب من فضائها الجيواستراتيجى، بالرغم مما مثله هذا التغير من فرصة سانحة لإحداث تحول فعلى فى نمط منظومة الحكم الفاشلة فى العراق بما قد يبعده نسبياً عن الهيمنة الإيرانية.
هل تحقق النموذج الأمريكى فى العراق؟
هذا المنطق فى إدارة العملية السياسية فى العراق خلال الاحتلال الأمريكى، وبعد الانسحاب منه فى عام 2011، وبعد انتهاء الحرب على الإرهاب، وفى أعقاب تغيير نمط الوجود العسكرى الأمريكى منذ عام 2021، من قتالى إلى استخباراتى تدريبى يدفع إلى محصلة استنتاجية تقول بأن سياسة الولايات المتحدة لتحويل العراق من دولة فاشلة إلى دولة ديمقراطية لم تنجح إلا فى سماتها الظاهرية فقط، وهى إجراء الانتخابات واختيار الرئاسات، لكنها فى الحقيقة وبعد عشرين عاماً من الغزو أسست لنظام حكم غير ديمقراطى يقوم على حكم طائفة واحدة، هى الطائفة الشيعية التى تسيطر على السلطة وترفض تداولها مع غيرها من الطوائف الأخرى، بل وفى مرحلة ما رفضت أى نوع من التغيير حتى وإن كان مصدره الطائفة نفسها، وهو ما تعكسه التطورات السياسية على مدار الفترة التى تلت الانتخابات التشريعية عام 2021، وما ترتب عليها من تفاعلات سياسية بين مكونات البيت السياسى الشيعى الواحد.
الاستنتاج السابق يجد تفسيراً له فى حالة المراجعات التى أجراها صناع التفكير الجماعى فى بعض مراكز البحوث السياسية الأمريكية فى سياق مرور عشرين عاماً على غزو العراق . فقد أشاروا إلى عدة نقاط منها أن التجربة الأمريكية فى العراق افتقدت الوعى بطبيعة المجتمع العراقى وبتاريخه السياسى والدينى على حد سواء، وأن إيران لديها مصالح دينية واجتماعية وسياسية فى العراق يصعب عزلها أو تقويضها، وأن المرجعيات الدينية فى البلدين تشكل طرفى الحياة الدينية والسياسية على حد سواء، وأن مصالحهما المشتركة كبيرة لكن خلافاتهما واضحة نتيجة مكانة مرجعية النجف الشيعية العراقية التى تسبق مرجعية قم الإيرانية، وأن هذه المعطيات تفسر مدى تمسك إيران بلعب دور مؤثر فى الحياة السياسية العراقية بعد الغزو العراقى عام 2003، وتشكيلها ألوية شيعية لمواجهة كل من السنة والوجود العسكرى الأمريكى على حد سواء، وأن المسئولين الأمريكيين فى العراق وفى وزارة الدفاع افتقدوا وجود خطة اليوم التالى لسقوط بغداد، مكتفين بالاعتقاد بأن الوجود العسكرى الضخم سيمكن من فرض الاستقرار والأمن وهو ما ثبت فشله، وأسفر عن تداعيات أمنية كارثية، وأن قرارىَ اجتثاث حزب البعث وحل الجيش العراقى كانا أكثر القرارت كارثية من جانب السلطة الأمريكية فى العراق؛ لأن كليهما كانا سبباً فى خلق الكثير من الأزمات الاجتماعية والأمنية التى أسقطت الدولة العراقية فعلياً.
وخلصت "التجربة" الأمريكية فى العراق إلى نتيجة تقول بأن نموذج الدولة الديمقراطية يصعب تحقيقه فى العراق وفقاً للرؤية الأمريكية، لتجاهله طبيعة المكونات السياسية وتفاعلاتها ودور البعد الدينى الطائفى فيها، وأن تفاعلات الداخل السياسى العراقى خلال العشرين عاماً لم تعد ذات أولوية لدى الولايات المتحدة، وأن ما يهمها هو الإبقاء على "نمط" ما من التعاون الأمنى العسكرى فى العراق متمثلاً فى عدد من القواعد العسكرية والخبراء والمستشارين العسكريين، حماية لمصالحها فى منطقة الخليج والمشرق العربى والقرب من إيران. وبدا أن الولايات المتحدة حريصة على هذه التصورات بشأن العراق وهو ما انعكس فى زيارة وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن لبغداد فى مارس 2023، وهى زيارة حملت هدفين رئيسيين انعكسا فى لقاء جمعه ورئيس الوزراء العراقى شياع السودانى: الأول، التأكيد على استعداد / رغبة الإدارة الأمريكية الحالية للإبقاء على الوجود العسكرى – حوالى 2500 جندى- بموافقة الحكومة العراقية تحت مسمى دعم استقرار العراق، وإن كان السبب الضمنى هو البقاء بالقرب من منطقة النفوذ الايرانى فى سياق الصراع الأمريكى - الإيرانى فى منطقتى الخليج والمشرق العربى. والثانى، حماية مكتسبات اتفاقات التعاون والشراكة الاستراتيجية الأمريكية - العراقية المبنية على اتفاقية الإطار الإستراتيجى منذ عام 2008، وتعميق التعاون الثنائى بشأنها، لاسيما ما يتعلق منها بالنفط والتعاون الاقتصادى. وقد قابل السودانى الطلب الأمريكى بتصريح عام أكد خلاله على أن سياسة حكومته تقوم على "صياغة علاقة متوازنة مع جميع الدول على أسس من المصالح المشتركة واحترام السيادة". زيارة أوستن قوبلت بالرفض من قبل بعض القوى السياسية العراقية الولائية لإيران والموجودة فى تحالف الإطار التنسيقى الذى جاء بالسودانى لرئاسة الحكومة، كما قوبل عرض أوستن باستمرار الوجود العسكرى الأمريكى بالرفض.
ما سبق يعنى أن الولايات المتحدة وبعد عشرين عاماً من غزو العراق لم تستطع إقامة "الدولة النموذج" فى العراق بحيث تكون مثالاً يحتذى به فى المنطقة للمعطيات السابق ذكرها، وأن العراق وحتى اللحظات الراهنة ظل رهيناً لتفاعلات العلاقات الأمريكية - الإيرانية، ما أدى إلى استمرار حالة عدم الاستقرار، فضلاً عن غياب الديمقراطية فى معناها الواسع القائم على تداول السلطة بين القوى الحزبية.