يعكس بيان مجلس الأمن بشأن الانتخابات الليبية اتجاهاً لتحصين خطة المبعوث الأممي لدى ليبيا عبد الله باتيلي المثيرة للجدل السياسي في ليبيا والتي وردت في إحاطته الأخيرة أمام المجلس، حيث تقفز المبادرة على دور المؤسسة التشريعية التي يتعين عليها إصدار القاعدة الدستورية، لصالح تشكيل لجنة توجيهية لم يتم الإعلان عن طبيعة تشكيلها، وهو ما يتناقض مع تصريحات تالية للمبعوث الأممي في أول مؤتمر صحفي له عقب الإحاطة، تبنى خلالها مشاركة مجلسى النواب والدولة، واتجاه المجلسين لتشكيل لجنة (6+6) لوضع الأساس القانوني للانتخابات كحل ليبي – ليبي.
اللافت في هذا السياق هو تراجع أعضاء مجلس الأمن الذين أبدوا بعض التحفظات على خطة باتيلي مثل روسيا التي كانت تريد ضمان تمثيل لكل الأطراف في الانتخابات في تلميح واضح لعدم إقصاء ممثلي النظام السابق، إلى جانب فرنسا التي أكدت على عملية توحيد الحكومة الليبية، إذ لا يمكن إجراء الانتخابات في ظل حالة الانقسام. لكن يبدو أن موسكو حصلت على ضمانات لشرطها الخاص بتمثيل كل الأطراف السياسية، على الرغم من أن التحرك الأخير بشأن لقاء ما بين رئيس لجنة التواصل السياسي بمجلس النواب فتح الله السعيطي وسيف الإسلام القذافي جاء كتحرك داخلي.
أما بالنسبة لمسألة توحيد السلطة التنفيذية، فتشير التفاعلات الحالية إليها على أنها ستجري على قاعدة إنهاء الانقسام من خلال ممارسة الضغوط على الحكومتين، وتشكيل حكومة مؤقتة، فالمبعوث الأممي التقى رئيس حكومة شرق ليبيا فتحي باشأغا، في حين طالب السفير الأمريكي رئيس حكومة غرب ليبيا (الوحدة الوطنية) عبد الحميد الدبيبة بالاستقالة إذا ما انتوى الترشح للانتخابات الرئاسية، في مؤشر على تبادل أدوار ما بين المبعوث الأممي والسفير الأمريكي. وبالتالي فإن عملية تشكيل حكومة جديدة ستجري وفق النهج الدولي ذاته، وهو إخراج عملية التشكيل بغض النظر عن الموقف الليبي.
أبعاد تدويل العملية الانتخابية
تستند خطة العمل الدولية إلى إخراج الانتخابات الليبية خلال عام 2023 كهدف أساسي، ما يعني أن تجاوز المجلسين ليس إلا النقطة الأولى، حيث ستمارس ضغوط على كافة الجهات المعنية بالعملية الانتخابية، مثل الهيئة العليا للانتخابات التي تطالب بفترة تتجاوز الستة أشهر بعد إنجاز التشريعات اللازمة لإنجاز عملها، مع الأخذ في الاعتبار أن اللجنة ستتلقى طلبات جديدة للترشح، وهو ما يعني أن هناك حاجة أيضاً إلى إمهال القضاء الليبي فرصة للطعون على المرشحين والفصل فيها، والحملات الانتخابية، بل إن التشريعات نفسها لن تمنح فرصة للتحصين من الطعون القضائية.
على التوازي، عقد باتيلي اجتماعاً للجنة العسكرية المشتركة (5+5) للمرة الثانية، حيث حضر الاجتماع ممثلو رئاسة الأركان من شرق وغرب ليبيا، عبد الرزاق الناظوري عن القيادة العامة، ومحمد الحداد عن حكومة الوحدة، وعلى الرغم من أن مخرجات اللقاء تشير إلى دفع مسار توحيد المؤسسة العسكرية، وترتيب الأوضاع الأمنية الخاصة بإجراء العملية الانتخابية في أجواء مستقرة أمنياً، إلا أنه لا يمكن تجاهل أن هناك عاملاً آخر في خلفية الدفع الدولي في هذا الاتجاه، يتمثل في الدور الأنجلو أمريكي بإبعاد مجموعة "فاجنر" الروسية كأولوية.
تظهر الخطة الأنجلو أمريكية كقاسم مشترك في الاتجاهين: ملف الانتخابات والملف الأمني. يدعم هذه الفرضية عدة مؤشرات، منها أن البيان وما ورد فيه من دعم "قوي" لخطة باتيلي يعكس صيغة مشروع بريطاني بالأساس، وهو ما أكدت عليه تصريحات السفيرة البريطانية لدى ليبيا كارولين هورندال، في حين أن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس قال في تصريحات له أن مبادرة باتيلي تحظى بدعم كامل من مجلس الأمن، وطالب الليبين بالعمل مع المبعوث الأممي، باعتباره "أفضل فرصة"، وبالتالي يدرك برايس أن الليبين لا يتفقون مع ما تنطوي عليه الخطة الانجلو الأمريكية للانتخابات الليبية.
يضاف إلى التناقضات الواردة في حديث ريتشارد نولارند السفير والمبعوث الأمريكي إلى ليبيا، والتي قال فيها إن الخطة جاءت بعد مشاورات مع الليبين والأطراف الدولية، وهو ما لم يحدث وفق تصريحات رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح التي تتعارض وتنتقد هذا التوجه بالأساس، وتعتبره نوعاً من الوصاية الدولية على ليبيا. ومع ذلك يشير نورلاند إلى أنه لن يتم فرض حل خارجي، وأن الشعب الليبي له الحق في تحديد معايير الترشح للانتخابات.
على الجانب الآخر، قبل أن تنطلق فعاليات (5+5) التقت السفيرة البريطانية برئيسي الأركان الليبيين في تونس، حيث تم الاتفاق على الملامح الخاصة بالترتيبات الأمنية. تكتيكياً، يبدو أن الاتجاه هو طرح الخطة الخاصة بتأمين الانتخابات من خلال تشكيل قوة مشتركة بين الطرفين، وربما يكون هناك حضور دولي في هذا السياق، خاصة مع الإشارة إلى ملف المرتزقة، والمليشيات والفصائل المسلحة.
المقاربة المصرية لمعارضة الخطة الدولية
عارضت مصر توجه مجلس الأمن بشأن ملف الانتخابات الليبية، وتتعاطى القاهرة في هذا الصدد انطلاقاً من مبادىء ورؤية السياسة المصرية تجاه تسوية الأزمة الليبية والتي تقوم على أساس الحل الوطني الليبي، وأن تقتصر الجهود الدولية على دور الوساطة في عملية التسوية وليس فرض نهج يقصي المؤسسات الوطنية، وهو ما أكدت عليه الخارجية المصرية لدى تعقيبها على إحاطة باتيلي ثم بيان مجلس الأمن. ومع أن بيان مجلس الأمن يشيد بالجهود المصرية تجاه الحل الليبي بشكل حصري، إلا أن الخطة الواردة في البيان تقفز على الشوط الذي قطعته القاهرة في هذا السياق.
ومع ذلك، من المتصور أن القاهرة لن تتراجع عن موقفها، باعتبار أنها تؤكد على ملكية الليبيين الحصرية للحل السياسي بدون تدخل خارجي. وفي واقع الأمر، تدرك القاهرة بحكم الخبرات المتراكمة في التعامل مع الملف الليبي عبر أكثر من عقد، بل والخبرات الإقليمية الأخرى، مثل الحالة العراقية، أن الحل الدولي يمكن أن يخرج عملية انتخابية عبر الصندوق، لكنه لا يفرض الاستقرار السياسي وسيعيد إنتاج الأزمة بشكل آخر في المستقبل.
في هذا السياق، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القاهرة، على سبيل المثال، لم تكن تؤيد قائمة حكومة الوحدة الوطنية التي جاءت بالدبيبة إلى السلطة. ومع ذلك، احترمت القاهرة خيار الليبيين، وتعاطت مع الحكومة وأبرمت معها العديد من الاتفاقيات وتبادلت معها الزيارات، ولكن في الأخير كانت النتيجة هي أن حكومة الدبيبة لم تنجز الانتخابات، كما أن هذه الحكومة ذاتها أصبحت معضلة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وهو ما كانت تتوقعه القاهرة بشكل استباقي، ما يؤكد مدى مصداقية الموقف المصري من جهة وقدرة القاهرة على استشراف الموقف من جهة أخرى.
ربما هناك فرصة تلوح في الأفق لتعزيز الموقف المصري في ظل التقارب مع تركيا، إذ لم تبد تركيا موقفاً علنياً تجاه بيان مجلس الأمن. وفي حين يزور القاهرة وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في 18 مارس الجاري، فإن هذه الزيارة قد تشكل فرصة لموقف موحد ما بين الطرفين للتعامل مع التطورات المستقبلية في ضوء تحرك المبعوث الأممي بدعم دولي لا يراعي مواقف القوى الإقليمية المنخرطة بشكل مباشر في الأزمة الليبية.
في الأخير، من المتصور أن الخطة الدولية (الأنجلو أمريكية) للانتخابات الليبية بدأت بتحركات فورية للمبعوث الأممي عقب بيان مجلس الأمن. ومع أن تلك الخطة لا تزال محفوفة بالكثير من التحديات، كونها تخطو خطواتها الأولى نحو الحل بفرض حل قصري على الليبيين لإنجاز الانتخابات، فإنه من المتصور أنه يمكن كسب بعض النقاط الخاصة بتسوية هذا الملف إذا ما أعيد الاعتبار لليبيين وللقوى الإقليمية، لا سيما مصر، التي لا تعد مجرد قوة إقليمية منخرطة فى الملف وإنما طرف أصيل كدولة جوار استراتيجي تبدأ مصلحتها الحيوية في ليبيا انطلاقاً من حسابات أمنها القومي.
وتبدأ عملية إعادة الاعتبار من خلال تلاقي مجلسي النواب والدولة على تسوية ملف القاعدة الدستورية، مقابل احتكار ورقة وضع الأساس القانوني الكامل للعملية الانتخابية حتى النهاية، بالإضافة إلى مسئولية المجلسين عن التحصين، مع إفساح الفرصة للقاهرة لتقديم الدعم الممكن في هذا الصدد، خاصة وأن النقاط العالقة (ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية) يمكن إيجاد مخرج لها. وسيكون تلاقي القاهرة وأنقرة نقطة مضافة لهذه الجهود.
عملية تشكيل السلطة التنفيذية التي تتولى إخراج المشهد الانتخابي، يتعين عليها هي الأخرى أن تمسك بزمام الأمور، مع التخلي عن حسابات النخبة السياسية، بل ومشاركة الحكومات القائمة في التخلي عن الحسابات الضيقة التي قادت المشهد الليبي إلى حالة التأزم والانسداد الراهن. ومن الأهمية بمكان دعم المجلس الرئاسي الليبي لهذا الدور، والتخلي عن أدوار المراقب والمترقب لما هو قادم.
كذلك من الأهمية بمكان الأخذ في الاعتبار أن تحويل البعثة الدولية إلى دور الوصاية كانعكاس للخط الدولي، سيستمر على حاله في المرحلة الحالية وما سيليها من مراحل، فمن غير المفهوم، على سبيل المثال، تصريح ممثل الاتحاد الأوروبي في ليبيا ساباديل جوزيه لباتيلي بأنه "حان الوقت لتوظيف موارد ليبيا بالكامل في خدمة الليبيين من خلال الشفافية"، وكأن المبعوث الأممي أصبح مندوباً سامياً يمثل القوى الدولية ومصالحها في ليبيا. وبالتالي فإن تنامي هذا الدور على حساب الليبين يتطلب تقارباً ما بين الطرفين وليس صداماً، ففي الأخير لا يمكن تجاوز أي من الطرفين، لكن بالعودة لقواعد اللعبة وتشكيل أرضية للتوافق قد يشكل أفضل مخرج، بدلاً من إعادة إنتاج الأزمة، فالوصول إلى صندوق الانتخابات لا يكفي لإخراج ليبيا من أزمتها، بل على العكس إن لم تتوافر الشروط وتلبى الاستحقاقات الوطنية اللازمة لهذه العملية، فإن صندوق الانتخابات لن يكون سوى محطة جديدة في إعادة إنتاج الأزمة الليبية بشكل قد يكون أسوأ مما كانت عليه.