مشكلة قبول الآخر واحدة من أخطر مشكلات بعض الأنظمة السياسية الشمولية، والتسلطية، والمجتمعات التعددية في مكوناتها الداخلية التى تتشكل من الأديان والمذاهب والأعراق، والقوميات واللغات، وهى ما يُطلق عليها المجتمعات الانقسامية، خاصة في عديد من دول جنوب العالم، والمنطقة العربية. في هذا النمط من المجتمعات تسيطر الصراعات والمنافسات الظاهرة والمقموعة بين غالب أو بعض هذه المكونات، على المصالح، والمكانة، والحضور داخل تركيبة الهياكل المجتمعية، والأهم الصراع على الفرص، والتمثيل السياسي داخل السلطة، والنظام السياسي، والطبقة السياسية الحاكمة. أنماط الصراعات المعلنة والمضمرة والمقموعة والمكبوتة تؤدى إلى إعاقة عمليات بناء موحدات جامعة –قيمية، وثقافية ورمزية وقومية- تعلو فوق الخصوصيات الثقافية وعلى التعدد دون نفيه، أو إقصائه من المؤسسات السياسية، والحكم المحلى واللامركزية في بعض أنماطها وأشكالها. وتساهم هذه الصراعات المركبة في إضعاف عمليات بناء الاندماج القومي والتكامل الداخلي، على نحو يؤثر على تشكيل الثقافة الجامعة للتعدديات الثقافية للمكونات الأساسية للدولة والمجتمع.
وتزداد مشكلة قبول الآخر المختلف تفاقما في ظل المجتمعات التى تسودها ديانة ومذهب للأغلبية السكانية إزاء المذاهب الأخرى داخل ذات الدين، والأديان الأخرى، أو أصل عرقي أو قومي أو لغوي واحد جامع لها ولهويتها.
من ناحية أخرى، فإن الصراعات الضارية المعلنة والمضمرة التى تنشب بين هذه المكونات المتعددة المصادر والتشكلات التاريخية، والجماعات المناطقية –لاسيما المهمشة– واللغوية والعرقية تبدو من خلال السعي للحصول على فرصها في التمثيل السياسي، والتعبير عن ثقافاتها وهوياتها إزاء سياسة فرض الطبقات السياسية الحاكمة لإيديولوجياتها –في زمن صعود الإيديولوجيات ما بعد المرحلة الكولونيالية– على كافة المكونات المجتمعية لصالح إيديولوجيا النظام وانتماء طبقته الحاكمة وأصولها الدينية والعرقية والقبلية..الخ، وإقصاء مكونات أخرى على نحو ما ظهر في أفريقيا ما بعد الاستقلال والعالم العربي على سبيل المثال.
أحد أبرز مشكلات ثقافة قبول الآخر المختلف على نحو "فردي" أو "جماعى"، يتمثل في صراع الهويات بين هذه المكونات لصالح هوية الدولة والنظام التى تفرضها الطبقة السياسية الحاكمة كهويات لدولها ومجتمعاتها، وفق استراتيجيات بوتقة الصهر بعنف أجهزة الدولة المختلفة على كل مكوناتها وهوياتها المتعددة.
فرض الهويات الدولتية قسرا على هويات متعددة في ذات المجتمع، هو تعبير عن تصورات الطبقة السياسية الحاكمة للهوية المختارة، ومصادرها ومكوناتها الرمزية المختلفة المصادر، وتاريخها، وبناء سرديات رسمية حولها، وكانت ولا تزال تتم من خلال مؤسسات الدولة وطبقتها السياسية الحاكمة، باستخدام القوة الرمزية، والتعليمية، والإعلامية، والأيديولوجية.
لاشك إن تحيز إيديولوجي، وهوياتي ما من جانب الطبقة السياسية الحاكمة، يؤدي إلى إزاحات وقمع للهويات الأخرى للمكونات المجتمعية الأخرى في تشكيل تركيبة المجتمع والدولة. من ثم، يؤدي ذلك إلى توليد صراعات هوياتية معلنة أو مكبوته، على نحو أدى ولايزال إلى استبعاد الحق في الاختلاف، وأيضا إلى عدم القبول بالآخر المختلف، أيا كان هذا الاختلاف –جماعى أو فردي- في الثقافة السياسية، أو في الثقافة الشعبية، بقطع النظر عن الوثائق الدستورية والنصوص الخاصة بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، والشعارات السياسية التي ينطق بها الخطاب السياسي السلطوي المسيطر.
الثقافة الحديثة ومابعدها، وما بعد بعدها، استطاعت في الدول المتقدمة، وفائقة التطور السياسي والعلمي والتقني أن تجد بعض من الحلول والسياسات والآليات لهذه المشكلة من خلال دساتيرها وأنظمتها القانونية والسياسية والتعليمية، وسياساتها الثقافية -لدى بعض هذه الدول- خاصة مع أجيال حركة ونظام حقوق الإنسان. من هنا تأتي أهمية درس وتحليل ثقافة قبول الآخر المختلف، وإعاقاتها في عالمنا العربي، وكيف يمكن التعامل السياسي والثقافي معها من خلال حزمة من السياسات التى تساهم في إقرارها وترسيخها شعبيًا وسياسيًا ودولتيًا وتعليميًا ودينيًا.
أولًا: ثقافة قبول الآخر المختلف... نظرة طائر على تحولات مغايرة لعالم جديد في طور التشكليل
1- قبول الآخر المختلف، تبدو واحدة من القيم والمبادئ القانونية التى يتعين استصحابها لمواجهة مشكلة الوجود الإنسانى في عصر الثورة الصناعية الرابعة، وبشائر الثورة الصناعية الخامسة، خاصة في ظل تحديات غير مألوفة تواجه الشرط الإنسانى، تتمثل في الحضور الفاعل المستقبلي لتطور عالم الروبوتات، وبعض تحولاتها، وتمثلها الأولي لوظائف الإنسان في الحياة، والعمل، وفي أداء الوظائف الحواسية، والشبقية، وفق شروط الإنسان وإمكانيات تمردها على مطالبه، وأيضا في التفكير المستقل، والكتابة، والسرد، وفي الفنون. كل هذه التحديات ستجعل من إشكالية المعنى في الحياة والوجود، مثارة على نحو مختلف واستثنائي، ولن تكون مطروحة كما كانت في الماضى، سواء على نحو دينى، أو فلسفي. هناك أيضا تحديات ردود الطبيعة الكونية على الفعل الإنساني المستقل لها، على نحو ما يظهر من اختلالات في هذه العلاقة الاستغلالية التى فاقمت منها الرأسمالية النيو ليبرالية الوحشية التى تسعى دائما إلى تعظيم الربحية على نحو مفرط، والتراكم الضخم للفوائض الرأسمالية، واستغلال دول جنوب العالم. وهى ردود أفعال صلبة من الطبيعة، ومدمرة، وتتمثل في الفيروسات المتحورة وغير المكتشفة، وفي الاحتباس الحرارى. كل ذلك يدفع إلى أن قبول الآخر، والتضامن الوجودى الإنساني، يبدو كأحد سياسات بناء المعنى الوجودى للحياة، وأيضا مواجهة تحديات الطبيعة، والروبوتات، وعالم الذكاء الصناعي، في ظل اضطرابات عالمنا وتحولاته القاسية وغير المألوفة.
2- تزداد أهمية مبدأ قبول الآخر المختلف، في ظل الثورة الرقمية وعالم الجموع الرقمية الغفيرة، وبروز محاكم التفتيش الرقمية الدينية والمذهبية، التي تحولت إلى حالة احتسابية رقمية في مواجهة المختلف، من الواقع الفعلى للواقع الرقمى، وبات حاضنًا لكتائب رقمية طوعية -تتشكل من بعضهم على نحو عفوى ثم إرادى لمواجهة المختلفين- أو كتائب رقمية تم هندستها من قبل بعض الجماعات السلفية، أو الإخوانية، أو غيرها تتولى متابعة المختلفين معها، وإصدار الفتاوى والآراء لتقبيح أرائهم المختلفة، أو دياناتهم أو مذهبهم، أو تكفير بعض اللا دينيين، واللاإدريين، وهكذا. لقد بات الواقع الرقمي فضاءًا لاستعلاء بعضهم على البعض الآخر المخالف والمغاير (انظر في ذلك: نبيل عبد الفتاح، التدين والثورة الرقمية جدل الفعلى والرقمي في تشكيل الحالة الدينية في مصر، ميريت للنشر، القاهرة 2023).
3- ثمة بعض التغيرات في الحياة الرقمية، كاشفة عن تعظيم مفرط، وانكشاف للذات الرقمية، عبر استعراضاتها في مختلف أو بعض تفاصيل حياتها اليومية، وذلك من خلال الصورة الرقمية، والمنشورات، والتغريدات، والفيديو الطلقة، أو القصيرة جدا short video. هذه الحالة الانكشافية، تشير إلى حالة من الولع الاستعراضي بالذات، وبعضها كاشف عن اللامبالاة بالآخرين، وإنما التوله بالذات الرقمية.
لا شك أن ذلك يحمل دلالة خطيرة، وهى اللامبالاة بالآخرين المختلفين أو المتوافقين مع هذه الذات التى تتمركز حول ذاتها، ولا ترى الآخر إلا بوصفه مستهلكا لبوحها، أو آراءها، أو صورها أو فيديوهاتها.
الأخطر أن هذه الظاهرة الرقمية واسعة النطاق مصريا وعربيا، امتدت إلى بعض من يطلق عليهم المثقفين والأدباء، حيث الصورة واستعراضاتها، وتوثيقها لحدث، أو واقعة ما، تبدو بديلة عن الحدث ذاته -محاضرة، حفل توقيع على كتاب، دراسة، ديوان شعر... إلخ-، ومن ثم بات الاستعراض بديلا عما هو حقيقى. إن غياب مضمون الحدث لصالح تمثيلاته البصرية بات كاشفا عن الرغبات الجامحة للظهور، ومن ثم تغيب نسبيا حالة القابلية للتعامل مع المختلف، وثقافته، وغيريته، لصالح الذات الولهة بذاتها والمتمركزة حولها.
من هنا تبدو في الظاهر بعض الجموع الرقمية الغفيرة المرتجلة من الفعلي للرقمى، بحثًا عن استعراضاتها الذاتية، على الرغم من بعض التفاعلات الصراعية من بعضهم -كتائب أو أفراد- إزاء رفض الآخرين، وهو ما يكشف عن حالة من المزايدات الرقمية، والاستكبار الذاتي، أو من بعض الكتائب الرقمية، أو الطوعية.
ثانيًا: الحق في الاختلاف الديني والمذهبي، وحرية البحث التاريخى في سرديات الآخرين
هل تنفي ثقافة الاختلاف وقبول الآخر المختلف حرية البحث التاريخى والاجتماعى والثقافي، حول سرديات الآخرين، أو سرديات القبول بالآخر التاريخية، والدينية؟
السؤال مصدرة ظاهرة جديدة على الواقع الرقمي، أو الحياة الرقمية، وهو ظهور بعض المختلفين من الباحثين، أو دعاة الإلحاد، واللاادارية، أو الباحثين المتخصصين على قلتهم في الأديان المقارنة وتاريخها، بالبحث في أصول تكوين السرديات التاريخية الوضعية حول هذا الدين أو المذهب، أو ذاك، وتقديم بعض الآراء الصادمة للمتدينين أو بعضهم!
لا شك أن هذا التوجه، يؤدي إلى تكريس وتوسيع الشقاق مع غالب المؤمنين أفرادًا وجماعات، ويؤدى إلى تفاقم خطاب العنف اللفظي والديني إزاء هذه الظاهرة، وممثليها. من ناحية أخرى، لابد من التمييز بين عديد الأمور:
الأمر الأول، الخطاب الإلحادى التبشيري، مثله في ذلك مثل الخطابات الدينية والمذهبية الدعوية والتبشرية، تتسم بعضها بالعنف اللفظي، والإقصائى، والهجومي على الآخر المتدينين -فرادى وجماعات- ويشكل نقضًا للحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف. ازدادت هذه الظاهرة رقميًا في العقدين الأخيرين من القرن الحادى والعشرين، وتزداد تمددًا من بعضهم.
الأمر الثانى، البحث التاريخي في موضوعية ودقة ومعلومات وعمق، يمثل حالة بحثية تدور في الدوائر الأكاديمية في مجال الأديان المقارنة، والدراسات التاريخية والاركولوجية، وغالبا ما تخضع للفحص والقراءة النقدية، والرفض أو القبول وفق المعايير والمقاربات المنهجية لدى الخبراء والباحثين المتخصصين، وهى جزء من حرية البحث والتعبير والرأي.
ثالثًا: كراهية الأجانب والاسلاموفوبيا ورفض الآخر المختلف جنوسيا
هنا يمكن التأكيد على عدد من النقاط، أهمها ما يلي:
1- اتسعت ظاهرة جديدة هي رفض ثقافة القبول بالآخر المختلف تتمثل في الأكزنوفوبيا والأسلاموفوبيا، وهى ظاهرة برزت في بعض البلدان الأوروبية، كنتاج لحركة الهجرة من مجتمعات الجنوب إلى أوروبا، ثم إلى أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا. فقد تمدد الموقف المعادي للأجانب، ومرجعه تمدد اليمين المتطرف في هذه البلدان، والتمييز ضد الأجنبى، والربط بين بعض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبين وجود الأجنبي المختلف -أيا كانت ثقافته وديانته وعرقه ولونه- في الحياة الأوروبية، والغربية، ومرجع ذلك أيضا أزمات سياسة الاندماج الداخلى في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وأيضا التنافسية المفرطة في الولايات المتحدة، وبقايا العنصرية، خاصة في ظل حكم الجمهوريين سنوات ترامب.
2- الإسلاموفوبيا، مرجعها بروز تباينات بين أنماط تدين وسلوك الأقليات المسلمة، ونظامها القيمى، وبين القيم الفرنسية والألمانية والبلجيكية على سبيل المثال، وزاد من ذلك بعض مظاهرة الانغلاق الأقلوي في الضواحي، أو بعض الأحياء الباريسية، أو في بلجيكا، أو بعض ممارسات تتنافى مع قيم العلمانية في الجمهورية الفرنسية، مثل ارتداء الحجاب، والنقاب في المجال العام، أو ذبح الخراف في الشارع، أو ارتداد الزى المنقب، أو الحجاب في المدرسة الجمهورية، أو بعض مظاهر العنف من مثيل طعن بعض المدرسين، في حال عرض بعض الصور الكاريكاتورية المشينة للرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه.
3- زاد من الإسلاموفوبيا عمليات الدهس بالعربات من بعض الذئاب المنفردة، ناهيك عن غيرها من العمليات الإرهابية للقاعدة، وداعش، في مناطق عديدة في أوروبا وغيرها.
هذه المظاهر، ومعها التجنيد الرقمي في شبكات عنقودية رقمية لبعض الشباب، وذهابهم إلى مناطق الدولة الإسلامية داعش، في سوريا والعراق، قبل أن تتقوض بعض من معالمها.
4- بعض الظواهر الجديدة، والقديمة، والانتقالية في تطور عالمنا، تمثل عائقا مضادا للقبول بالآخر المختلف تتمثل في ظواهر بعض من معالم تمدد النزعة القومية، والشعبوية السياسية، والثقافية، على نحو ما برزت مع اليمين المحافظ في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والولايات المتحدة -سنوات ترامب- خاصة مع بروز فيروس كورونا المتحور وتداعياته من سياسة الغلق العام والغلق الجزئى، والرقابات الأمنية الرقمية، وأيضا انهيار بعض الأنظمة الصحية، وآثار ذلك على أزمة الاقتصادات العالمية، والحرب في أوكرانيا، و"شيطنة" روسيا، والصين من قبل الولايات المتحدة وشايعتها بعض الحكومات والأجهزة الإعلامية الغربية.
لا شك لدينا أن بعض الشعبوية، والنزعة القومية وبقاياها هي ردات فعل على أزمات كونية، وانعكاساتها على دولة الرفاهة في أوروبا، وتراجع بعض من مزاياها وكفاءة أجهزتها الصحية، وأيضا على البطالة، والتضخم، وعلى تحديد سن التقاعد، ومحاولة رفعه في فرنسا إلى 65 عاما. كل ذلك يؤثر على بعض المواقف الشعبية من الآخر المختلف -من أديان ومذاهب، وأعراق، وثقافات مهاجرة – وأدت إلى إحياء صور نمطية قديمة، تؤثر سلبا على ثقافة القبول بالآخر داخل هذه المجتمعات.
رابعًا: أثر الظواهر الرقمية، وكراهية الأجانب، والإسلاموفوبيا والشعبوية، على ثقافة قبول الآخر
لا شك أن مشكلة قبول الآخر في الثقافات العربية قديمة ومستمرة، بعضها مرجعه سيادة نمط من السرديات الوضعية حول المقدس الديني، ومروياته على الخطابات الدينية النقلية المحافظة، والتى تخشى غالبا من التجديد والاجتهاد والبحث التاريخي المغاير للموروث السردي المسيطر على إنتاج وإعادة إنتاج هذه الخطابات، وعمليات أدلجتها.
وتتمثل مشكلة قبول الآخر في عديد المستويات والأسباب على النحو التالى:
1- استبعاد الآخر، كأحد سياسات الاقصاء والنبذ والتمجيد الديني والمذهبي، حيث تركز التفسيرات والتأويلات الدينية الوضعية للمقدس الديني أيا كان -دينيا ومذهبيا- على سردياتها، وتفسيراتها، وتأويلاتها، وفقهها، ولاهوتها، وذلك لإنتاج حالة من الهندسة الدينية للصراطات المستقيمة التى تحدد المنظومات المعيارية الموجهة للاعتقاد الجماعي، والفردي، وأنماط السلوك من حيث السواء، أو عدم الاستقامة، ومن حيث الخير والشر، والحلال، والحرام، والحسن والقبيح، والإيمان والكفر، أو اللا إيمان الذى يُخرج الشخص عن دائرة الإيمان المستقيمة. هذا التركيز على الهندسة الإيمائية، العقيدية، والسلوكية، تشكل نمطًا من التمركز حول الدين ثم المذهب، الذى تتراكم سردياته الوضعية عبر الزمن، وتأويلاتها المتعددة والمختلفة، وهو ما يؤدي إلى بناء سياجات لاهوتية أو فقهية حول الدين، ثم المذهب، وهو ما يستصحب معه خطابات تمجيدية للدين والمذهب، وغالبا ما يكون ذلك إزاء الأديان الأخرى السماوية، أو غير السماوية، أو المذاهب الأخرى.
إن تمجيد الديانات والمذاهب لذاتها تمثل إحدى آليات الدعوة والتبشير في مواجهة الآخرين، وأيضا أداة ضبط وسيطرة من رجال الدين على دوائر المؤمنين بديانتهم، أو مذهبهم. لا شك أن ذلك يؤدي إلى استبعادات وإقصاءات متبادلة، خاصة في عديد المجتمعات، وربما بعض الاستثناءات، تبدو في الأمثلة والحالات الأوروبية، التى حدثت بها تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية، أدت إلى نشأة النظم السياسية الديمقراطية التمثيلية، وإلى بروز وهيمنة التمايزات بين الوضعىي والميتاوضعي، ومن ثم بين الدين والدولة، والدين والسياسة، والدين والنظام الاجتماعي، وتبلور العلمانية في أوروبا، مع بعض من الاختلافات الثقافية بين النماذج الفرنسية والبريطانية والألمانية على سبيل المثال.
من هنا تبلورت الفردانية، والفرد كفاعل اجتماعي، ومعه الحريات العامة، والحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف، الذى لا يزال قائما، إلا من بعض الاستثناءات كالإسلاموفوبيا، والأكزنوفوبيا، والنزعات الشوفينية والقومية، والشعبوية، مؤخرًا والتى تؤثر نسبيا على الموقف من قبول الآخر المختلف.
2- استبعاد الآخر في الخطابات الدينية الوضعية، وإضفاء السلبيات وبعض النقائص عليه، كجزء من آليات التبشير الديني، والدعوى.
3- الحض على كراهية الآخر في إيديولوجيات وخطابات الجماعات الإسلامية السياسية. وترمي هذه السياسة الإقصائية إلى التعبئة الدينية للجموع المسلمة في مواجهة الجماعات الأقلوية الأخرى -من المسيحيين، أو العلمانيين أو البهائيين أو شهود يهوا أوغيرهم- وإزاء السلطة السياسية الحاكمة، في صراعهم معها في توظيفات الدين سياسيًا.
وأبرز الأمثل على ذلك في الحالة المصرية ما يطلق عليه "الفتن الطائفية" في عهدي السادات ومبارك، وبعد وصول الإخوان المسلمين والسلفيين إلى سدة السلطة بعد الانتفاضة الثورية في يناير 2011، وبعد 30 يونيو 2013، وحرق الكنائس، وبعض الاعتداءات على ممتلكات الأقباط، أو على بعضهم اعتداء جسديا أو لفظيًا.
هذه المشكلة –أيا كانت أسبابها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية- تشكل إحدى المشاكل الخطيرة الناتجة عن توظيفات الدين سياسيا، وعدم القبول بالآخر، وأيضا توظيف الدين في المناهج الدراسية، وفي نمط تدريسها لدى بعض المدرسين والمدرسات، خاصة ممن ينتمون إلى بعض الجماعات الدينية أو السلفية، أو من المدرسين والمدرسات ذوى التوجهات الدينية المتشددة.
4- العقل الاتباعي ذو البعد الواحد هو العقل النقلي الإتباعي الذي يبدو أنه أحد أبرز سمات العقل الديني التراثي المسيطر، في ظل ظواهر التدين الوضعي السائدة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، إلا أنه بإمعان النظر يتضح أن هيمنة النقل على العقل العام ليست قصرا على العقل الديني التراثي الإتباعي، وإنما هى سمت عام غالب –مع بعض الاستثناءات- يشمل أيضًا العقل النقلي المؤدلج، من أتباع بعض الأيديولوجيات، الذي يعتمد على شروحها مثل الماركسية أو الليبرالية دونما نقد لبعض متونها أو سردياتها، وإعادة إنتاج بعض شروحها وشعاراتها بوصفها حاملة للحقيقة من منظور إتباع هذه الجماعات ودونما تجديد لها في إطار درس الواقع الموضوعي والتاريخي. العقل النقلى، أو الإتباعي، غالبا لديه ميل إلى رفض وهجاء الأفكار المغايرة له، ويعمل على استبعادها، وعدم قبولها، ومن ثم يحملُ إدراكًا سلبيا تجاه الاختلاف والغيرية، ومن ثم استبعاد للآخر المختلف.
5- إن ثقافة رفض الآخر المختلف تشكل وتؤثر في عمل وهياكل الأجهزة الأيديولوجية، حيث تتجذر نزعة إقصائية للحق في الاختلاف، ومن ثم رفض قبول الآخر المختلف، تشكل قيدا على العقل الحر، وعلى الحق في الاختلاف، وتحرض إزاء القبول بالآخر، وترفضه، بل وتدينه حينا باسم الوطنية، أو الدين أو المذهب أو الآداب العامة أو النظام العام...إلخ.
ترتيبا على ما سبق من إعاقات للحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف في هياكل الدولة، والنظم السياسية، وفي ثقافة النقل، والإتباع، نستطيع القول إن البنيات الثقافية والدينية والتعليمية وأنظمة التنشئة السياسية والاجتماعية والدينية تنطوي على معوقات بنيوية إزاء القبول بالآخر في بعض الثقافات العربية السائدة، وبعضها لأسباب طائفية أو مذهبية أو قبلية أو لأسباب عرقية أو قومية، ومن ثم يبدو الحق في الاختلاف معاقًا في الواقع الفعلي. هناك أيضا بعض الإعاقات في بنية الثقافات العربية، مرجعه طابعها الذكوري.
خامسًا: الثقافة الذكورية، وإعاقة الحق في قبول الآخر النوعي/ الجنوسي
الذكورية السياسية، والذكورية الدينية، والذكورية الاجتماعية تشكل سمتا رئيسا في الثقافات العربية، وذلك على الرغم من بعض التغيرات في حالة التمييز النوعي أو الجنوسي في عديد المجالات، مع اتساع قاعدة التعليم، ودخول المرأة إلى مجال العمل في قطاعات عديدة، وأثر الثقافة الجنوسية -"الجندرية"- وحقوق الإنسان، على وعي بعض الناشطات والنساء المتعلمات في العالم العربي، لاسيما في المدن، وأيضا أثر الثورة الرقمية على وعى بعض النساء والذكور. من ناحية أخرى، فإن محاولة بعض الأنظمة السياسية توظيف المرأة في بعض المواقع السياسية، إلا أن غالب الثقافة السائدة ذكورية بامتياز، ومن ثم لا تزال هذه الثقافة تشكل عائقًا إزاء القبول بالاختلاف، والآخر النوعي جنوسيا، خاصة أن الذكورية في الوعي الاجتماعي الجمعي الذكوري، والأنثوي، لا تزال مسيطرة جماهيريا، وتمييزية إزاء المرأة في عديد المجالات، لاسيما في المجتمعات الريفية والمدن المريفة.
سادسًا: أثر الاسلاموفوبيا، وكراهية الأجانب والشعبوية على قبول الآخر في المجتمعات الأكثر تطورا وأثرها على مجتمعاتنا العربية
ترتيبًا على ما سبق من إعاقات بنوية –سوسيو-سياسية، وسوسيو-ثقافية، وسوسيو-دينية، وسوسيو-اقتصادية، يُثار السؤال في ظل هذه السياقات الاجماعية والسياسية والثقافية: ما أثر الاسلامويوفوبيا، والشعبوية في بعض المجتمعات الأكثر تطورًا على قبول الآخر المختلف داخل مجتمعاتنا العربية؟
سرد الإعاقات البنوية الداخلية كان من الأهمية بمكان حتى لا يتم الوقوع في أسر تأثير بعض التغيرات الخارجية –في عالمنا المتحول- على الحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف في ثقافتنا وسياستنا، وحياتنا الدينية والاجتماعية. صحيح أن المتغيرات الخارجية لها أثر بارز على أوضاعنا الداخلية، خاصة في ظل الكولونيالية، واستعمار بلداننا العربية، إلا أن بعضا من الركود التاريخي والتخلف هو أساس في فهم أوضاعنا، خاصة رفض الاختلاف وقبول الآخر المختلف.
كان بعض تفسير تطور أوضاعنا في المشرق العربي، كنتاج للكولونيالية الغربية، وتأثر نظم ما بعد الكولونيالية، خاصة في مرحلة التحرر الوطنى، مؤثرا على أوضاع الإقليم العربي، إلا أن ذلك لا يعني إغفال الاختلالات الهيكلية في أبنية النظم السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية التى ساهمت في ذلك. من ثم، يبدو أثر المتغيرات الخارجية في عصر التحولات الرقمية، والذكاء الصناعي، والانتقال إلى العالم الجديد المختلف، وتشير إلى أن الاسلاموفوبيا، والأكازنزفوبيا، والشعبوية محض مسارات انتقالية لكنها مضادة للحق في الاختلاف، وتحت أسر موروثات ما بعد الكولونيالية، والتوتاليتاريات، والتسلطيات، وأنماطها المختلفة. بعض هذه الموروثات، والجماعات الحاملة لها، توظف هذه التقلصات في المجتمعات الأكثر تطورًا، في توظيفاتها السياسية والدينية الداخلية، لمزيد من الإعاقات والسيطرة والهيمنة على بعض التغيرات بين الأجيال الشابة الجديدة.
سابعًا: هل لدينا القدرة على قبول الآخر المختلف؟
السؤال الذى يُطرح بقوة: هل نستطيع، أو لدينا القدرة على قبول الآخر المختلف على كافة الصعد السياسية والدينية والمذهبية والعرقية والقومية واللغوية في مجتمعات انقسامية لم تتكون داخلها قوميات على النمط الغربي والدولة الأمة؟
يبدو السؤال بسيطًا، ويحتاج إلى إجابات عامة سهلة وسلسلة، تبدو هكذا على مستوى خطاب الماينبغيات المسيطرة على حياتنا العقلية، لكنه لا يجيب على سؤال، ويعيد إنتاج أزماته التاريخية المستمرة! لماذا؟ لأن الإجابات العامة المطلوبة من العقل العام هى دلالة على أزمة العقل العام! الذى يتجاوز دائما المشكلات وجذورها وأسبابها سعيا وراء الإجابات السهلة والبسيطة. يتم تناسي الإعاقات آيا كانت أنماطها وتاريخها وتعقدها، والميل إلى السؤال البسيط، المسطح، ما هو الحل؟
في كل أو غالب المشكلات الكبرى والصغرى يُطرح السؤال ما هو الحل؟! في بساطته تعبير عن أزمة تكوينية في العقل العام المسطح، ما هو الحل؟ هذا السؤال البسيط دلالة مشكلة بنائية في العقل العام، وعلامة تدهور في الوعي الجمعي، واستسهال وتبسيط مرجعه تراجع هذا العقل العام، والوعي الجمعي في ظل تراكمات تاريخية للتخلف المركب، وغياب المنهجية، والبحث السوسيو-تاريخي، والسوسيو- سياسي، والسوسيو-ديني، والسوسيو-ثقافي لدى بعض السياسيين والمثقفين، والاستثناءات محدودة... إلخ!
من الصعوبة بمكان إيجاد سياسة للخروج من أزمة مركبة تراكمت تاريخيًا، وباتت جزءًا من الثقافة العامة لدى الجموع الشعبية، وأيضا لدى النخب الثقافية والسياسية في غالبها، وهو ما يعبر عن عمق الأزمات الممتدة، والمشكلات التى تراكمت حول أنماط التفكير لدى هذه النخب الثقافية والسياسية.
هل هناك إمكانية لمواجهة عدم قبول الآخر المختلف؟ بالقطع هذا أمر ممكن، لكنه يحتاج إلى إلى مراحل تاريخية، حتى يمكن تجاوز رفض الآخر المختلف. في هذا الإطار، يمكن طرح بعض من السياسات التى قد تؤدى إلى التحول من كراهية ونبذ الآخر المختلف إلى التعايش مع على الاختلاف، والقبول به آيا كانت توجهاته.
ثامنًا: تفعيل المبادئ الدستورية، وإصلاح النظم القانونية التى تتحيز لإنتماءات دينية ومذهبية وعرقية ولغوية إزاء أخرى
إحدى أبرز مشكلات الحياة الدستورية في عديد من الدول العربية هو هيمنة النظرة الأداتية، والذرائعية للدساتير والقوانين بوصفها أداة في حيازة رمزية وأداتية للنخب السياسية الحاكمة في مرحلة ما بعد الاستقلال. هذه النزعة الأداتية للدساتير والقوانين، وطابعها الوظيفي، أفقدت هذه المنظومات طابعها في التنظيم، والضبط والتوازن الاجتماعي بين المصالح الطبقية المتصارعة، وفي توزيع القوة بين سلطات الدولة، لصالح السلطة التنفيذية، والنخبة السياسية الحاكمة، وتطبيقها وفقًا لمصالحها السياسية والاجتماعية، وأيضًا طبقًا لسياساتها العامة المتغيرة، وذات الطابع القائم على التجربة والخطأ!
من هنا كانت الدساتير ذات طابع شكلاني، يتم تقييد نصوصها، لاسيما في مجال الحريات العامة من خلال القانون، أو اللوائح أو القرارات الإدارية، أو إيقاف العمل بها. من ثم لم تكن للدساتير فعالية مؤثرة على تنظيم الحريات العامة، ودعمها وتحفيزها في المجال العام، ولاسيما حرية التفكير والتعبير والبحث، وأيضًا حرية التدين والاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية.
السياسة الوظيفية الأداتية للدساتير والقوانين مرتبطة بطبيعة النظم السياسية التوتالتيارية، حيث تبدو عمليات ممارسة السلطة وأدواتها مشخصنة، بالنظر إلى مركزية عملية صناعة السياسات والقرارات عند قمة النظام.
لقد كرس النزعة الآداتية للدساتير والقوانين الدور المركزى للسلطة التنفيذية -في بعض الدول- في وضع مشروعات القوانين. وغالبا ما يغلب عليها الاعتبارات والمصالح الآنية، ثم يتم إدخال تعديلات عليها فيما بعد، عندما تظهر ثغرات في تطبيقها، أو يتبين عدم شمولها لموضوع تنظيمها، وذلك لغلبة الآنية، والسرعة في إعداد بعض التشريعات الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو ذات الطبيعة السياسية والأمنية، خاصة مع ظهور الإرهاب.
تاسعًا: مشاكل عدم فعالية القوانين في العالم العربى والحق في الاختلاف
أحد أبرز مشاكل عدم فعالية وكفاءة القوانين في العالم العربى أنها قد لا تُطبق بنفس الفعالية على جميع الفئات إذا ما تبين خرق بعضهم لها، أو ظهر هذا الانتهاك والسلوك الاجرامى، وتم اكتشافه، لأن الانتهاك اليومى للقوانين يمثل ظاهرة عامة في تفاصيل الحياة اليومية، ولا تستطيع أجهزة الدولة التى تراقب وتطبق القانون أن تعلم بها، لاعتبارات عديدة على رأسها الانفجار الديموغرافي، وقدرة المجتمع على أن يجعل انتهاك القانون حالة عامة، تتحول إلى قانون مضاد للقوانين. ثمة أيضا فساد الموظفين العموميين كأحد السمات الهيكلية لأجهزة الدولة العربية ما بعد الاستقلال، وهو ما يتمثل في جرائم الموظفين العموميين التى باتت تمثل سمت السلوك الإدارى الجانح لبعضهم، من خلال جرائم الرشوة، واختلاس المال العام.. إلخ. من ثم، نتج عن هذا السلوك الغالب سلوك مضاد للقانون يشارك فيه بعض الموظفين العموميين، في جرائم المرور والبناء بلا ترخيص، وتشويه وتخريب فضاء المدنية العامة، لأداء الطقوس الدينية، أو لبناء الزوايا الدينية دونما ترخيص... إلخ، وهو ما أدى إلى تديين المجال العام للأغلبية إزاء حقوق الأقليات المختلفة أيا كانت انتماءاتها الدينية والمذهبية والعرقية...الخ.
من هنا، جاءت مصادر عدم فعالية القانون، ومن ثم يتعين مواجهة ظواهر الفساد من خلال التصدى لأنماط السلوك الفاسد من بعض الموظفين العموميين، وأيضا المواطنين –أيا كانت مواقعهم الاجتماعية أو الإدارية أو رجال الأعمال- لأن فعالية القانون تتم من خلال التفاصيل والوقائع اليومية وليس من خلال الخطاب العام حول دولة القانون، أو انتقاء حالات تطبيقه على بعض الوقائع والفضائح، من أجل كسر الاحتقانات الاجتماعية، وتحويلها من مجال التناقضات الاجتماعية إلى مجال الفضائح الشخصية، والجنسية، في بعض الدول العربية.
عاشرًا: تغيير الوعى القانوني
ضرورة إحداث تغييرات في الوعي القانوني لدى بعض أعضاء السلطة الشارعة، وأيضا لدى سلطات وأجهزة الدولة المختلفة، وذلك من خلال تغيير الإدراك الآداتي للقانون إلى إدراك أن القانون هو تعبير منظم عن توازنات بين المصالح المتعارضة، وليس محض أداة، أو تغليب محض للمصالح الاجتماعية المسيطرة. توازن المصالح يؤدي إلى تغيير في الوعي القانوني الجمعي، ومن ثم ييسر ويسهل قبول القوانين واحترامها في التطبيق من المواطنين. من ناحية أخرى، شرح القوانين الأساسية والهامة وتعديلاتها للمواطنين من خلال مواقع رقمية وإعلامية في يسر وتبسيط يساهم في تطوير الوعي القانوني، خاصة القوانين المرتبطة بالحياة اليومية ومشاكلها وانتهاكاتها.
حادى عشر: إصلاحات في توزيع القوة وأنماط الرقابة
نطرح فيما يلي أهم الإصلاحات والضوابط المقترحة في هذا المجال:
1- أهمية الحفاظ على استقلال السلطات القضائية العربية، وإعادة توزيع القوة بين السلطات الثلاث في توازن، ورقابات متبادلة، في إطار ضمانات لاستقلال الجماعات القضائية العربية، والسلطة القضائية، وبما يعظم حيدتها في نظر القضايا وإصدار الأحكام.
2- تركيز الوظائف الأمنية في متابعة تطبيق القانون، ومصادر انتهاكه، أفرادًا وجماعات في كافة المجالات، في ظل استقلالية الأجهزة الأمنية في تطبيقها للقانون، أو إجراء التحريات، والقبض على المهتمين، أو جمع الأدلة، والتحقيقات الأولية في الجرائم. هذا الاستقلال لا يزال يحتاج إلى مزيد من التأكيد من وجهة نظر البعض في العالم العربي.
3- بعض التطورات في أنظمة الرقابة الرقمية باتت تعطي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في العالم قدرات واسعة في فرض رقاباتها على المواطنين، بل وتشكل في بعض الأحيان قيدا على الحريات العامة والفردية، وهو ما يطرح أسئلة حول تغول السلطات الأمنية والاستخباراتية عالميا، خاصة في ظل برامج التجسس الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي. من ناحية أخرى، تمثل هذه الأجهزة الرقابية الرقمية أداة هامة في الكشف عن الجرائم، وانتهاك القانون، في ظل التقيد بقيوده وضماناته في التطبيق، لإعادة الهيبة له في الوعي الاجتماعي العام.
4- إعادة النظرة الإصلاحية القانونية إلى الأنساق القانونية القائمة، من منظور الحريات العامة والشخصية، وأيضا من زاوية فعالية هذه القوانين في ضبط السلوك الاجتماعي للمواطنين.
5- إعادة النظر في القوانين التى تمثل قيدًا على مبدأ المساواة الدستوري، سواء بين الرجل والمرأة من منظور حقوق النوع/ الجنوسية، أو بين الأديان والمذاهب وبعضها بعضا، حتى يمكن إعمال الحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف آيا كان مع غيره من المواطنين.
من هنا تشكل مواجهة مشاكل عدم فعالية القانون، وتوازن المصالح في انساقه مدخلا رئيسا لدعم مبدأ الاختلاف والتعدد، وعدم التمييز إزاء الآخر المختلف، أيا كان في الديانة أو المذهب، أو العرق، والرأي واللون واللغة، والقومية، والمكانة الاجتماعية، وأساس لاحترام الاختلاف، والمختلف في المجالين العام والخاص.
ثانى عشر: التعليم وثقافة قبول الآخر
السياسة التعليمية تشكل أحد مداخل مواجهة ثقافة الكراهية للآخر آيا كان، سواء على مستوى الدين نفسه، أو المذهب، أو العرق، أو المنطقة، أو القبيلة أو العشيرة، أو الحزب السياسى، أو الجمعية الطوعية، أو داخل الأسرة... إلخ. التعليم ومناهجه ومقراراته الرسمية –في التعليم العام والخاص والديني والجامعي والفني- يمكن أن يمثل أحد محركات ثقافة نبذ الآخر ورفضه، أو قبوله، وأيضًا الإدارة المدرسية، والعملية التعليمية ذاتها، ودور المدرسين والمدرسات، وأساتذة الجامعات.
التعليم المؤسس على الحفظ والاستذكار غالبا لا ينمي العقل، ويؤدى إلى بعض النسيان في أعقاب انتهاء سنوات الدراسة، لأن الحفظ يؤدي إلى تعامل الطلاب معه وكأنه حامل للحقيقة، وأن الأسئلة والأجوبة والملخصات هى المعرفة، وما دونها ليس كذلك لدى غالبهم.
انتقال السياسة التعليمية من الإجابات سابقة التجهيز إلى مجال ثقافة الأسئلة، وتكوين العقل النقدى، هى المدخل الأساس للقبول بالآخر في اختلافه الاجتماعي، والديني، والثقافي، والمذهبي، والعرقي، والجنوسي –النوعي- كجزء من الحياة والوجود داخل المجتمع، وخارجه كجزء من طبائع الحياة الإنسانية ذاتها، التى تتسم بالتعدديات، والأختلافات، وأيضا على مستوى نفس الجماعة الدينية أو المذهبية أو العرقية، أو الحزبية، باعتبار أن الاختلاف هو جزء أساسي من نسيجها، ومن ثم فإن قبول الآخر المختلف هو جزء من الوجود الفردي، ومكمل للذات. من هنا، لابد أن تتطور المناهج الدراسية تجاه دراسة الغيرية الإنسانية، والحق في الاختلاف في أساليب التفكير ومناهجه، وأيضا في الآراء المختلفة، لكن في إطار منهجي يعتمد على المعلومات، والتحليل، والنقد، والتركيب،، وليس الانطباعات المرسلة، أو الأحكام القيمية المسبقة عن الآخر المختلف.
من هنا لابد من دمج الدراسات الفلسفية في قلب مناهج التعليم العام والفني والديني، سواء تاريخ الفلسفة، أو الفلسفة المعاصرة، ومعها –علم الكلام- وبعض الأطروحات الجديدة في هذا الإطار. هذه الدراسات لابد أن تشمل أقسام التعليم العلمي، والأدبي معا، وأيضا التفكير العلمي في المراحل الثانوية، ثم تمتد إلى المراحل الإعدادية وبعد ذلك الابتدائية.
على صعيد بناء الجسور بين الأنا والآخر المختلف، لابد أن يكون هناك منهج للقيم المشتركة بين الأديان، والمذاهب، السماوية، وغيرها مع ترك الخصوصيات العقائدية والمذهبية، ومدارسها الفقهية واللاهوتية إلى منهج دراسة كل دين. إن درس القيم المشتركة، والجغرافيا الدينية الكونية، من الأهمية بمكان ليدرك الطلاب أن أديانهم، ومذاهبهم، هي جزء من الخريطة الكونية المتعددة التى تضم أديان ومذاهب سماوية ووضعية متعددة. من ثم، لابد أن يكون التعدد والاختلاف جزء رئيس من مناهج التعليم المقررة في كافة مراحل التعليم، وضرورة إجراء مسابقات بين الطلاب حول التعدديات، والاختلافات الثقافية، وتُخصص لها جوائز. لابد أيضا من إجراء بحوث ميدانية حول اتجاهات الطلاب إزاء التعددية والاختلاف في ذات المدرسة، أو المحافظة، ومشاكله الواقعية. من ناحية أخرى، يجب عمل مؤتمرات حول التمييز على أساس الاختلاف، لاسيما الديني والمذهبى، بين الطلاب في المدارس، والمدن، والمحافظات، ومؤتمر وطنى للطلاب -على مستوى البحوث والمناقشات وإدارة المؤتمر- حول الحق في الاختلاف، والقبول به، يعقد سنويًا، وقبله في المحافظات والإدارات التعليمية والجامعات المختلفة.
ثالث عشر: السياسة الثقافية، والحق في الاختلاف وقبول الآخر المختلف
السياسة الثقافية، لاسيما في مجتمعات ودول جنوب العالم، والتى لايزال بعضها في طور النمو، تلعب دورًا توجيهًيا، للثقافة في إطار السياسة التنموية، ومساهمة الثقافة في تحفيز الفكر الخلاق وإعلاء شأن العقل، والحرية، والتحفيز على العمل، والمسئولية، والإرادة الحرة، ودروها البناء في الحياة العامة والفردية، والارتقاء بالذوق الفردي الجمالي، واللغوي، والبصري.
من هنا على صناع السياسة الثقافية في العالم العربى التركيز على ربط السياسة الثقافية بالتنمية –أيا كان النموذج التنموي السائد في هذا البلد أو ذاك- خاصة في ظل التناقضات بين الممارسات النيوليبرالية، والقيود المفروضة على التعددية السياسية والثقافية من قبل وفي أعقاب الانتفاضات العربية.
ويمكن للسياسة الثقافية الرسمية –وفي إطار تكاملها مع الجمعيات الثقافية الطوعية- أن تسعى إلى ردم الفجوات بين الثقافة الرأسمالية النيوليبرالية، وبين ثقافة الحرية، والتنمية السياسية، وبين حريات العرض والطلب وتعظيم الربحية ومصالح رجال الأعمال، وبين العقل الحر، والابداع الحر، وإنماء الثقافة السياسية للحريات العامة والشخصية، وتركيزها على المحاور العمرية المختلفة،، ومحاولة تطوير الثقافة الشعبية، من خلال اكتشاف ودعم الابداعات الشعبية، وفنونها المختلفة، لاسيما في المناطق الريفية، والصحراوية والحدودية، ودمجها ضمن الثقافة بمكوناتها المختلفة في العالم العربي، لاسيما بلدان العسر الاقتصادي العربى، لأنها تمثل الموروث الثقافي والحر للثقافات الشعبية المتعددة داخل كل دولة ومجتمع في عالمنا العربى.
لابد أن يحدث انفتاح ثقافي على التعدد الداخلي، ومناطقه، واختلافاته في إطار الجوامع الثقافية المشتركة في داخل كل بلد، بين المناطق الحضرية المريفة، والريف، والصحراء، والبادية، ولغاتها المحكية، وشعرها العامى، وفنونها اليدوية... إلخ.
إحدى مشكلات السياسة الثقافية في العالم العربي أنها رهينة بعض التصورات البيروقراطية، وغالبا لا تنفتح على الآخر المغاير ثقافيا، ودينيا، ومذهبيا، وعرقيا، ولغويا، ومن ثم يؤدي ذلك إلى انغلاق الأغلبية حول ذاتها وتاريخها وهوياتها، التى غالبا ما يركز خطابها السياسي والهوياتي السائد حول ديانة الأغلبية، على الرغم من تعدد وتحول بعض مكونات الهوية من مرحلة تاريخية لأخرى، بناءا على التطورات الثقافية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والسياسية، وفي الفكر الديني الوضعي، والتدين الشعبي وأنماطه السائدة من حيث النقل أو الجمود، أو التجديد والاجتهادات الخلاقة أو الحركية في التدين الشعبي.
من هنا تبدو أهمية إيلاء عناية خاصة في صياغة السياسة الثقافية والإنتاج الثقافي على مسألة تعدد الهويات، وتعايشها، وتطورها في إطار قبول الاختلاف الهوياتي، والانتقال من صراعات الهوية، وبها وعليها، في الصراع السياسي إلى سياسة التعايش الهوياتي، من منطلق المواطنية، والحق في الاختلاف، والمساواة بين المواطنين في الحقوق الحريات، والالتزامات العامة والفردية.
في إطار هذه السياسة الثقافية لابد من الانفتاح الثقافي على التعدد في الثقافات العربية، وإبداعاتها الفنية والأدبية والشعرية، وفنونها الشعبية كمدخل للفهم المتبادل، وبناء جسور مؤسسية مع ثقافات المنطقة، دونما تحيز أو تمييز، وبعيدًا عن مشاكل الطبقات السياسية الحاكمة، والتى تتغير، والمصالح الوطنية المتنافسية أو المتنازعة. إن وضع سياسة الانتفاح الثقافي على التعدد والخلاف تشكل أحد مقاربات فهم وتحليل السياسة والمجتمع في هذه البلدان، ومصادر القوة والثراء والضعف داخلها، وهو أمر مهم للسياسي، والمثقف، والبيروقراطي عند قمة أجهزة الدولة الرسمية، ويستطيع التعامل مع تعقيدات المشاهد والهياكل الثقافية، في مجتمعات عربية انقسامية في بنياتها وثقافاتها الداخلية.
من هنا، لابد أيضا من إيلاء الانفتاح الثقافي على ثقافات العالم المختلفة في ظل تعقد عمليات التحول إلى الثورة الرقمية، والإناسة الروبوتية، والذكاء الصناعي. وأيضا ردم الفجوات بين الفكر العربى على تعدده ومستوياته، وبين الفكر العالمي، من خلال سياسات للترجمة تتسم بالحيوية، وترجمة ما لم يترجم، بالإضافة إلى متابعة الفكر العالمي الجديد في مرحلته الكونية، وحياته الرقمية الجديدة. لابد أيضا من التوازن بين الترجمات عن الآداب والفنون والفلسفة والعلوم الاجتماعية، وبين الفكر العلمى في العلوم الطبيعية.
لابد أن تركز السياسة الثقافية على مواجهة الفكر اللاتاريخي، والسرديات اللاتاريخية الشائعة، والتحفيز على نقل الكتابات حول المناهج التاريخية الجديدة، وفي الوقت نفسه إعادة النظر في بعض المقاربات التاريخية السلطوية العربية حول تاريخ كل بلد، والمنطقة العربية، التى أشاعت نمط من المقاربات التاريخية السلطوية غير الموضوعية عن تاريخ كل بلد من منظور الطبقة السياسية الحاكمة، وقيادتها السياسية مابعد الكولونيالية، وذلك في كل مرحلة من مراحل تطورها السياسي والاجتماعي، ويتم ذلك بالتوافق والحوار مع وزارات التربية والتعليم، والجامعات، وأقسام التاريخ فيها.
لا شك أن التكوين على المنهج النقدي، والنسبية، ورفض الأحكام والحقائق المطلقة في الظواهر التاريخية، والاجتماعية والثقافية، يساعد وييسر مسألة قبول الحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف في الحياة، والفكر، والدين والعقائد والفكر السياسي، ويدرب الطلاب في مراحل التعليم المختلف على المحاججة، والخلاف، والموضوعية في حدها الأدنى، ويساهم في رفض التطرف والعصبية وثقافة الكراهية.
في هذا الإطار، لابد من إدخال المكون الثقافي النقدي والتاريخي في دراسة تاريخ الأديان وسردياتها الوضعية، وذلك لإعادة النظر تجديديا واجتهاديا في فحص الموروث السردي التاريخي الوضعي حول تاريخ المقدس تعالى وتنزه، وعقائده، ومروياته البشرية، التى هي جزء من ثقافة زمانها، ورواتها وكاتبي سردياتها. من ثم، لابد من إعادة درس بعض هذه السرديات في ضوء المناهج التاريخية، والفيولوجية، والسميولوجية والاركيولوجية، لأنها سرديات بشرية وليست مقدسة، على نحو ما تقدم به في الدرس الديني النقلي، واستصحاب الجوانب الدقيقة تاريخيًا، ومناطق التألق داخلها، في إطار عمليات تجديد في الفكر الديني، خاصة فيما يتعلق بالحق في الاختلاف، والموقف من الأغيار أيا كانت انتماءاتهم، وبعضها كانت نتاج للسرد الديني التاريخى، الذى حاول أن يبنى سدودًا وسياجات بين الجماعة والأغيار من الأديان والمذهب الأخرى، سعيا وراء حماية الجماعة المؤمنة، والسيطرة عليها وعلى حدودها، مع الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى. هنا يصبح الحثُ على إبداع الأشكال الفنية التى تركز على القيم الدينية المشتركة كونيا من الأهمية بمكان، في السياسة الثقافية، بل وحثُ الأطفال على أهميتها، والوعى بها، وممارستها سواء في إنتاج أشكال كتابية سردية، وتخيلية، وفنية –رسم، نحت- لكي تتأصل كجزء من التنشئة الاجتماعية في المدارس والجامعات، لاسيما في التعليم الديني والعام.
رابع عشر: التعليم الديني... الحاجة إلى الانفتاح المتبادل وتجديد الفكر الديني
وضعية التعليم الديني ومناهجه في نظام التعليم الديني تحتاج إلى دراسات متعددة الاختصاصات، سواء على مستوى الخطابات التعليمية والمقررات، والأهم مناهج دراسة الأديان من منظورات نقلية، والاعتماد على السرديات التاريخية الوضعية حول الدين في درس الدين للطلاب، وذلك اعتمادا على الحفظ والتكرار. لا شك أن ذلك يؤدي إلى تحويل السرديات حول المقدس ومصادره إلى شبه مقدس من خلال المنهج والدرس الديني السائد، على نحو شكل عائقًا ولا يزال إزاء التجديد والاجتهاد، والانفتاح العقلي لدى غالبية المدرسين، والطلاب، وأساتذة الجامعات الدينية، ووعاظ الدين في العالم العربى، وساهم في تمدد الجماعات السلفية، والإسلامية السياسية بين بعض الطلاب والمدرسين والأساتذة كجزء من عمليات التجنيد السياسي لهم في هذه الجماعات والمنظمات الدينية السياسية. ظاهرة الجمود الفقهي، وفي الفكر الديني، لا تقتصر فقط على إسلام السلطة في العالم العربي، وإسلام المعارضات الدينية، وإنما تمتد بعض من سماتها إلى اللاهوت الشرقي، لاسيما الأرثوذكسى المصرى. من هنا، تتغذى النزعة النقلية في الإسلام والمسيحية على بعضها بعضًا، وتوظف حالة التوترات، والعنف اللفظي، وبناء السياجات المغلقة، في الهيمنة الرمزية على نظام الاعتقاد والقيم وموروث كل دين ولاهوته وفقهه وشروحه، من منظور السلطة الدينية، أو الجماعات ذات الإيديولوجيا الدينية السياسية.
من هنا، تأتي ضرورة إدخال تعديلات في السياسة الدينية والتعليمية، بحيث يتم دمج بعض المواد الثقافية، ودراسة الأديان الأخرى من منظورها، وليس فقط من المنظور المغلق للدين، أو المذهب إزاء الأديان والمذاهب الأخرى، تأسيسا على أن الجميع عباد الله، وهو من سيحاسب عباده جميعًا. هذا التوجه لابد أن يتم على نحو متدرج لكى لا يصطدم برفض رجال الدين، والجموع الغفيرة من المواطنين، التى يسيطر عليها النقل لا العقل، والمرويات الدينية الشعبية، لاسيما في الأرياف، وفي البادية والصحراء العربية، وانتقل إلى المدن المريفة، والمبدونة.
إدخال المناهج الحديثة وما بعدها في العلوم الاجتماعية، والأديان المقارنة، إلى التعليم الديني، لابد أن يتم على نحو متدرج من خلال منظور تاريخي ونقدي لهذه المناهج، وبعض تطبيقاتها، ولا تؤخذ كمسلمات يتعين الانصياع لها. مثل هذا الانفتاح على التعدد، والاختلاف لا يعني قط محو أو التأثير السلبي على النظام العقدي والقيمي، والطقوسى الديني والمذهبى، أيا كان في الدرس الديني –أيا كانت مراحله- ولكنه يعمق الدراسات الدينية، والمعرفة، والوعي بالتعدديات الدينية في عالمنا، وأن المشترك الإنساني، والتعايش المشترك مع الاختلاف ضرورة إنسانية، ونمط حياة في التعدد، والاختلاف، والاتفاق على القيم المشتركة كونيا، وداخل كل مجتمع ودولة. الدرس المقارن النقدي والتاريخي الموضوعي يحفز على الاجتهاد والتجديد في الفكر الديني، ويساهم في تغيير الوعي الديني والاجتماعي، وفي أنماط التدين الشعبي، وتحريرها من بعض المرويات اللاتاريخية الوضعية الشائعة بين الجموع الغفيرة من المؤمنين، لاسيما المعسورين والذين يعيشون الحياة عند الحافة.
لابد للفكر الديني أن يتجدد من خلال الدين للحياة، والدين للشعب (وفق خالد محمد خالد وعنوان أحاديثه في الإذاعة المصرية في عقد الخمسينيات من القرن الماضي ثم عنوانا لكتابه)، والتحول إلى التدين الفردي بين المؤمن ورب العزة جل جلاله، وعلا شأنه وقدرته. لا يعنى ذلك استبعاد رجال الدين، لكن تظل أدوارهم الوظيفية في الإرشاد الديني، وتعليم العقائد والطقوس، وتاريخ الدين ومذاهبه، وعدم الخلط بين المقدس والوضعى، وبين الدين والسياسة ومخاتلاتها، وعنف السلطات السياسية وتوظيفاتها للأديان والمذاهب في السيطرة، وتبرير القمع، واعتقال الحريات، والعقل الحرفي العالم العربي.
خامس عشر: الدين والحرية
الدين والحرية هو تحرير الفقه واللاهوت والفلسفات الدينية والمذهبية، من سياجات الخوف وإشاعته في حياة جماعات المؤمنين أيا كانت دياناتهم ومذاهبهم، من أجل الهيمنة الرمزية والعقيدية عليهم. إن إشاعة رهابُ الخوف لدى المؤمنين، ووضع خطاب الأوامر والنواهي، بوصفه هو جوهر الدين لدى بعض رجاله، وجماعاته السلفية، والسياسية الدينية والأرثوذكسية، على سبيل المثال، هو أداة للسيطرة، وبث كراهية الحياة في ظل سياجات الأوامر والنواهي وغالبها مستمدة من سرديات دينية وضعية –في مراحل تاريخية ما- ويجعل بعض المواطنين والشباب يجفل من ممارسة الطقوس الدينية، أو العمل وفق قيمة الفضلى في الحياة مع الآخرين. هذه الممارسات والأوامر والنواهي التى تتكاثر عبر الزمن تجعل بعض المؤمنين يحاولون الاستكبار والاستعلاء على الآخرين -أيا كانوا- من المؤمنين بذات الدين، أو المذهب، أو من الأديان الأخرى، تحت تصوراتهم أنهم الأكثر معرفة بأحكامه ومعاييره، والحلال والحرام، والجميل والقبيح، والخير والشر... إلخ.
العلاقة بين الدين والحرية العقلية والفكرية والدينية علاقة وثيقة، تؤدي على المدى البعيد، والمتدرج، إلى تحرير الإيمان الديني والعقائدي من الخوف، والازدواجية، والنفاق، والكذب، على نحو ما يظهره ظاهر السلوك بينما المضمر فيما وراءه من أفعال يوحى بغير ذلك. الأهم أيضا تحرير الفكر الديني من بعض الثنائيات الضدية، ويدفع به إلى الإيمان الحر، الذى يؤسس للإيمان، وتجلياته السلوكية، وإلى القبول بالآخر المختلف أيا كان، وتقديم القيم الدينية الفضلى وتكاملها، في القول والفعل الإنسانى، ويردع نوازع الشرور داخل الذات والروح المؤمنة الحرة، التى تجعل من تدينها خالصا لوجه الله سبحانه وتعالى، أرحم الراحمين. تحرير الإيمان من نوازع السياسة ومخاتلاتها، وعنفها إزاء المغايرين للسلطة، أو الحزب السياسي، يؤدي إلى حالة من نقاء الإيمان لوجه الله تعالى وتنزه، وليس التوظيف البراجماتي، والمصلحي أو في السياسات المتغيرة، وتناقضاتها، والمصالح الاجتماعية المحمولة عليها.
الدين للحرية الانسانية، يحرر الإيمان من النفاق، والمزايدات بين المؤمنين بعضهم بعضًا، ومن ثم الدين للحياة الدنيا –والآخرة خير وأبقى- وللشعب من خلال تعظيم المسئولية الفردية، والحث والتحفيز على العمل الصالح، والعمل المنتج فرديا وجماعيا، على نحو يؤدي إلى تفعيل وتسريع التنمية، والتطور التقني، والحث على التعليم وإجادته، وإنماء المواهب والكفاءات ودعمها، وعدم إعاقتها لأنها تمثل أحد محركات التطور التقني والعلمي، والإنتاجي، والثقافي. تحرير الدين من الكوابح السياسية، ومعتقلات الضمير، والاعتقاد، يؤدي إلى نقاء الروح المؤمنة، ويساهم في نزع أقنعة المخاتلة، والكذب، على نقاء الإيمان لوجه الله تعالى، ومن ثم يجب رفض التوظيف البراجماتي، والمصلحي للدين والمذهب الغالب في السياسات المتغيرة، وتناقضاتها، والمصالح الاجتماعية المحمولة عليها.
الدين للحرية الإنسانية؛ تحرير الإيمان من النفاق، والمزايدات بين المؤمنين بعضهم بعضًا، ومن ثم الدين للحياة الدنيا -والآخرة خير وأبقى- وللشعب من خلال تعظيم المسئولية الفردية، والحث والتحفيز على العمل الصالح، والعمل المنتج فرديا، وجماعيا، على نحو يؤدي إلى تفعيل وتسريع التنمية، والتطور التقني، والحث على التعلم وإجادته، وإنماء المواهب والكفاءات، ودعمها وعدم إعاقتها لأنها تمثل أحد محركات التطور التقني والعلمي والانتاجي، والثقافي. تحرير الدين من الكوابح السياسية ومعتقلات الضمير، يؤدي إلى نقاء الروح المؤمنة، ويساهم في نزع أقنعة المخاتلة والكذب، والتمثيل والاستعراض الديني في المجالين العام والخاص.
الدين والحرية، يتطلب تحرير المجالين العام والديني من القيود المفروضة عليهما سياسيًا، ودينيا، ومذهبيا، ودستوريًا، وقانونيا وأمنيا ورمزيا في الدول والمجتمعات العربية. من ناحية أخرى، يؤدي ذلك التحرير للإيمان الفردى من الكوابح التى يفرضها رجال الدين، وجماعاته السياسية، ومن ثم حالة رهابُ الخوف على الدين، والإيمان التى يشيعها بعضهم، من أجل السيطرة الرمزية والدينية على المؤمنين. رهابُ الخوف ناتج عن نظرة وجلة من بعض رجال الدين وجماعاته إزاء الأديان والمذاهب الأخرى، ومخاطرها على الإيمان، أو الهوية الدينية، وهى حالة سوسيو- نفسية، وتاريخية ناتجة عن المراحل الاستعمارية، والدور الذى لعبه الدين في مواجهة المستعمر كجزء من الحركات الوطنية المعادية للاستعمار، والساعية آنذاك إلى الاستقلال الوطنى. ثمة أيضا توظيف الاندماج الديني لجماعات المؤمنين من خلال محاولات تكريس الانقسام الديني الرأسي، ومحاولة بعض السلطات الدينية، والجماعات السياسة الدينية، توظيف ذلك في الصراع السياسى الداخلي، أو على المستوى الإقليمى، والكوني. لا شك أن ذلك يعمق الانقسامات الدينية والمذهبية والوطنية، بديلًا عن التكامل والإندماج الوطني في البلدان العربية لصالح الدين والمذهب والطائفة، والقبلية والمناطق المختلفة، والعرق، والقومية.
من هنا فإن تحرير الإيمان الديني من رهابُ الخوف من الآخر المختلف، ودعم الحق في الاختلاف، يؤدي إلى تعظيم المشتركات الإنسانية، والوطنية التى تعلو فوق الخلافات والتمايزات الدينية والطائفية والمذهبية والهوياتية ويؤسس للتاريخ، والذاكرة المشتركة التى لا تنفي الذاكرات الأخرى... الخ.
سادس عشر: الثقافة والحرية والقبول بالآخر المختلف وطنيا وإنسانيا
تحرير الثقافة هو من المداخل الهامة لتطور المجتمعات العربية، وتسريع التنمية، وسد الفجوات التاريخية في مجال الثورات الصناعية حتى الرابعة، وبشائر الخامسة، وأيضا الفجوات العلمية والتقنية. من هنا لابد أن تكون الحرية والعقل الحر، ودعم الإبداع والمبدعين في المجال الثقافي -الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية- والثقافة العالمة، والثقافة الوسيطة، والثقافة الشعبية، وتحريرهم من القيود السياسية، والأمنية والقانونية هو مدخل أساسى لثقافة الحرية، من هنا لابد من دعم البيئة السياسية، وتحريرها من القيود على الحريات والعقل الحر عربيا، وتحرير الإنسان العربى من معتقلات الروح والعقل حتى يستطيع أن يستعيد القدرة على المبادرة الفردية، أو في إطار جماعى، سواء من خلال المجتمع الأهلى، أو في إطار المؤسسات السياسية، والحزبية.
من ثم، لابد أن تتحرر الثقافة السياسية للحريات، والقيم السياسية- العدالة، والمساواة، والحرية، والانتماء الوطنى ذو الوجه العربى والإنسانوى من القيود الدينية والتسلطية التى تفرضها بعض السلطات الحاكمة في العالم العربي، والسلطات الدينية التابعة لها، وأيضا الجماعات السلفية، والدينية السياسية. هذه التحولات وتحرير الثقافة السياسية من قيودها الشمولية والتسلطية، تحتاج إلى تغيرات اجتماعية وتعليمية، وتقنية، ومن ثم لا تتم دفعة واحدة ونهائية، لأن القيود الموروثة، ذات سطوة وهيمنة في تفاصيل الحياة العربية، فضلا عن دفاع هذه السلطات والجماعات عن مصالحها في إبقاء الأوضاع السائدة على ما هو عليه.
من ناحية أخرى، تشكل عملية التحرير للعقل والقيم السياسية، والثقافة السياسية، محاولة لمواكبة فضاءات الحريات الرقمية الواسعة على المجال العام الرقمى التى أحدثت، وستحدث تغيرات كبرى قيمية وسياسية وثقافية، وقد تؤدى إلى تغيرات في الحياة العقلية صادمة، وقد تؤدى إلى اضطرابات في المجتمعات العربية.
إن نظرة تحليلية على إعاقات القبول بالآخر المختلف، كاشفة من تعقدها وتجذرها في الموروث والثقافة التقليدية، والانقسامات بين النقلى والحداثى المبتسر، وسطوة العقل النقلى التقليدى، الديني، والثقافي، بينما الحياة الرقمية باتت تعكس تناقضات الواقع الفعلى، وثقافة كراهية الآخر، أو عدم القبول به، ورفضه، وهجاءه. من هنا يبدو الواقع الاجتماعي والثقافي والديني يقف عائقا ضد قبول الآخر المختلف، والحق في الاختلاف، كذلك النظم الشمولية والتسلطية، لأن الحق في الاختلاف، شامل للفرد والمجتمع والسلطة والأحزاب السياسية، وفي مجال التنشئة السياسية والتنشئة الاجتماعية. ناهيك عن رهابُ الاختلاف الديني، والجماعات السلفية والإسلامية السياسية، لأن الحق في الاختلاف، ودعمه سياسيا ودستوريا وقانونيا إزاء العنف اللغوى والمادى والرمزى، يؤدي إلى تفكيك الخطابات والسرديات القائمة.
الحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف داخل المجتمعات الإنسانية - على تعددياتها وصراعاتها الاجتماعية والسياسية- سوف يواجه مشكلات جديدة مع الأناسة الروبوتية، وعصر ما بعد الإنسان، والتحول من مركزية الإنسان في الكون والطبيعة إلى محض طرف في ظل ثورة الروبوتات، والثورة في الذكاء الصناعى، ودور الروبوتات في أداء الوظائف التى ينهض بها العقل الإنسانى، وإبداعاته. من ثم سيشكل الحضور الروبوتى في الحياة طرف آخر، ربما لا يمكن السيطرة عليه مستقبلًا في النصف الثانى من القرن الحالي إلى نهايته. في ظل الثورة الصناعية والتقنية الخامسة، ستتغير غالب المفاهيم والأفكار التى عاشت عليها الإنسانية في عصور التنوير والحداثة، وما بعدها، وإلى عصر المابعديات، ثم الثورة الصناعية الرابعة.
الأخطر أن كافة المفاهيم القديمة سياسيًا وفلسفيا وسوسيولوجيا وأدبيا، ونقديا، وفي كافة الفنون، لن تكون إلا جزءًا من تاريخ عالمنا كله ولن تستمر مستقبلا، إلا قليلا وسوف تغدو جزءا من الماضي الإنساني.
سابع عشر: الحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف... من الكتابى إلى الفيديوهاتى البصرى
هل هناك مستقبل للحق في الاختلاف وقبول الآخر في ظل الثورة الرقمية؟ هل ثمة حضور في الواقع المستقبلى المتغير لثقافة القبول بالآخر المختلف مع التحول إلى الأناسة الروبوتية، ومرحلة ما بعد الإنسان؟
الثورة الرقمية، وتغيراتها، وتحولاتها التقنية في وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقال الأجيال الجديدة الشابة من موقع لآخر، تعتمد على الانتقال من المواقع الكتابية والصورة الفوتوغرافية، والصورة الرقمية، إلى عالم الصورة الحركية، أو الفيديوهات القصيرة جدًا، والمصحوبة بالحديث الشفاهى، أو الأغنيات الرقمية، أو بالغناء من صاحب/ صاحبة الفيديو القصير جدا، تشير إلى أن المستقبل سيكون حول هذه الأداة. ودلالة ذلك أن ثقافة الفيديو الطلقة، والصور السريعة الاستهلاك هى إحدى سمات التحول المستقبلى، ومعها التحول في هذه الأداة البصرية، التى ستكون جزءًا من الثقافة البصرية الفيديوهية، أى أن عالم الصورة المرئية الفيديوهية، هو الذى سيشكل وسيلة التواصل الأساسية بين الشباب، والصبية، والأطفال. هذا التوجه ليس محضُ تطور تقنى، ولكن تساهم في دعم وتطوير هذ التوجه الشركات الكونية الرقمية، وتوظيفاتها فيما يمكن أن نطلق عليه ثقافات التحول إلى سياسة الثقافة البصرية، أى إعادة تشكيل وبناء ثقافات العالم من مراحل تطورها التاريخى من الشفاهية إلى الكتابية، والصورة، والسينمائية والتلفازية إلى الثقافة البصرية، أى الانتقال من أساليب التفكير التى تعتمد على الكتابة، والبحث، والتأمل الكتابى، إلى الثقافة المرئية، والتأمل البصرى أى التحول من آليات التفكير الذهنية التى تعتمد على اللغة المكتوبة إلى اللغة البصرية؛ الصورة، والفيديو القصير جدًا، ومن ثم إلى العقل البصري وأليات وعمليات تفكيره .من هنا الانتقال من عالم الثورة الألسنية، إلى عالم الفيديوهات القصيرة وأشكال أخرى سيتم اكتشافها بوتائر فائقة السرعة. من ثم التحول من المفردات اللغوية، وبناء الجملة، والفقرات... إلخ إلى حركية الفيديو المكثفة والموجزة، وما تحمله من معانى ودلالات وعلامات بصرية، ومعها ثورة بصرية كبرى، وهو ما سوف يؤثر على أشكال وأنماط التفكير المستقبلى في الفلسفة، والسوسيولوجيا، والأدب، والقانون، والفنون التشكيلية، والموسيقية، والمسرح... إلخ. كل مجالات التفكير التى تنتج الثقافة العالمة –إبداع الأفكار والتخييلات، والبحوث- ستنتقل من مجال اللغة وعوالمها إلى مجال الثقافة البصرية وذاكراتها- أى أن الصورة ستشكل طرائق التفكير الإنسانى عبر الصورة، والفيديوهات الرقمية، وهو ما سيشكل قطيعة معرفية كبرى– إذا شئنا استخدام هذا المصطلح القديم مجددًا- وربما لا يصلح مثل هذا الاصطلاح للتعبير عن هذا التحول الجذرى في ثقافات العالم، وهو ما سيؤثر على التفكير الديني النقلى، ويؤدى إلى إزاحته وربما تآكل بعضه . من هنا المرجح أن التحول من الخطاب السياسى، والفلسفي، والاجتماعى، والفنى والآداتى، الشفاهى والمكتوب، إلى الخطابات البصرية الفيديوهية من ثم سينتقل التفكير وآلياته الذهنية إلى التفكير والتعبير بالصورة.
لا شك أن هذا التحول بدأت بعض بشائره وسط بعض الجموع الرقمية الغفيرة، والشابة، والصبية، والأطفال. من ثم، لن نكون أمام تحول في الثقافة العالمة، ولكن الأخطر في الثقافة الشعبية للجموع الغفيرة، وستؤثر عليها وعلى موروثاتها التى ستتحول إلى جزء من الذاكرة المخزونة في الأوعية والنظم الرقمية على أنها جزء من عالم الإنسان، ما قبل مرحلة الأناسة الروبوتية، وما بعد الإنسان.
هذا التحول الجذرى، والقطيعة في الثقافات الإنسانية، لا يعنى أن ذلك سيتم بسهولة ويسر، وإنما يحمل في أعطافه بعض من عسر التحول وتقلصاته، وسيؤدى إلى بعضُ العنف في الحياة الفعلية، والحياة الرقمية، وسيحاول بعضهم إعاقته باسم التقاليد، والقيم، والآداب العامة، والعقائد الدينية ومذاهبها وطقوسها، وأن هذه التحولات تقع خارج المنظومات والسرديات الدينية، وسوف يتم وصفها –كالعادة تاريخيًا إزاء الجديد المختلف- بالكفر والإلحاد، أو الفسوق . . إلخ.
عسر عمليات التحول، وما تحمله من الآلام وتقلصات، وعنف قد تؤثر قليلًا على هذا التحول الجذرى في التفكير والإبداع، والكتابة، إلا أنها ستكون جزءًا من مراحل الانتقال في الثقافات الإنسانية، ولغاتها، ولن توقف حركتها في إزاحة الأنساق المعرفية أو البنيات أيا كان المصطلح النظرى- التى تشكلت نظريا في الأطر الفلسفية، والسوسيولوجية، والقانونية والأدبية والفنية في المراحل التاريخية الماضية، وستحل محلها أفكار، ومنظومات فكرية، ونظرية، وتطبيقية مختلفة، ومعها مقاربات منهجية مغايرة، ترتبط بالظواهر الجديدة المغايرة في عصر الأناسة الروبوتية، والذكاء الصناعى، وما بعد الإنسانية.
الحق في الاختلاف، وقبول الآخر سيتطور ويختلف على عديد المستويات، وعلى رأسها ما يلى:
1- الحق في الاختلاف كمبدأ إنسانى دستورى وسياسى، سيتمحور على العلاقات بين الإنسان مع بعضه بعضا، على المستوى الفردى، أو الجماعى، بالنظر إلى تزايد معايير الاختلاف على كافة المستويات في الدين، والمذهب، والجماعات المذهبية الصغيرة، أو في اللغة، والثقافة، والعرق، واللون، والجنسية، وهو ما يظهر الآن في بروز المطالبات بحقوق المثليين، والمتحولين جنسيا، بقطع النظر عن رفض ذلك من غالب الأديان والثقافات والمجتمعات، وذلك في ظل ما تمارسه هذه الجماعات من ضغوط، وحضور في قلب المؤسسات السياسية الغربية في العالم، باستثناء روسيا، والصين. قبول الآخر المختلف في مجال المثليين لايزال يواجه ضغوط في المجتمعات والدول العربية الإسلامية، والمثلية لا تزال مؤثمة جنائيا وعقابيا، وفي ثقافة الغالبية الساحقة من سكان هذه المجتمعات. هذا الاتجاه للاعتراف بالمثلية، سيبرز وفق المؤشرات السائدة كجزء من الحق في الاختلاف وقبول الآخر المختلف، خاصة في ظل التطور الذى سيحدث في مجال تطور الطب وتقنياته. وتزداد بعض عمليات التحول الجنسى في عديد من البلدان في العالم، في المستقبل المتوسط والبعيد، وفق المؤشرات الراهنة، وضغوط هذه الجماعات على المستوى الكونى. لا شك أن ذلك سيؤدى إلى تحول هذه المبدأ، والحق في الاختلاف الجنسى، إلى أحد المبادئ المرتبطة بهذا الحق، وربما يدخل ضمن المبادئ الدستورية العامة، وفي القوانين المختلفة. سيواجه هذا التغير السياسى، والجنسى، بتراث سيتشكل من النظريات حول الحق في تغيير التوجه الجنسى، بالرفض في بعض المجتمعات لاسيما العربية وغيرها، إلا أنه سيتمدد، ويؤثر على الموقف من الطفولة وتأجيل تحديد النوع، إلى مراحل الرشد، وهو نمط من التطرف من جماعات المثليين مفرط ويواجه برفض واسع النطاق، وعنيف ديني وثقافي وسياسي، في غالبية مجتمعات ودول العالم وبعض أديانه الكبري.
هذا التوجه في الحق في الاختلاف يزداد حضورًا من خلال إنتاج الأفلام السينمائية –على المنصات السينمائية الرقمية- والدراما التلفازية على نحو ما يشاهد الآن وينتج. وفي الوقت نفسه هناك أيضا حضور بارز لشخصيات الإنسان اليهودى في هذه الأعمال الفنية، وهو ما يمثل مشكلة عربيا، لأن الخلاف مع الصهيونية والسياسات الاستيطانية الإسرائيلية ورفضها القبول بالحقوق الفلسطينية المشروعة في إقامة دولة مستقلة على الأراضي المحتلة في يونيو ١٩٦٧ وقرارات الشرعية الدولية. لا شك أن ذلك يشكل سياسة سينمائية وتلفازية ترمى إلى تكريس القبول بالآخر الجنسى والديني المختلف، وفق هذه الشركات الفنية والرقمية المنتجة لهذه الأعمال الفنية، وليست محضُ مصادفات مرجعها القصة والسيناريو والحوار.
لم تعد هذه الأعمال قاصرة على الأفلام والدراما التلفازية والغربية حول شخصيات، وسرديات سينمائية تدور في المجتمعات الغربية، وإنما امتدت إلى أعمال تلفازية درامية عربية. ثمة رفض واضح لهذه السياسة من قبل الأزهر، والفاتيكان، وغيرهما من السلطات الدينية الإسلامية، والكاثوليكية، والأرثوذكسية –في روسيا واليونان ومصر- إلا أن هذه السياسة السينمائية والتلفازية من هذه الشركات الكبرى، وجماعات الضغط السياسية –في أمريكا وأوروبا- من مناصرى حقوق المثليين –ومعهم الكنائس الإنجيلية- ترمى إلى إقرار وتكريس هذا الحق في الاختلاف الجنسى للمثليين في الزواج، والعمل في المؤسسات السياسية، وفي تشكيلات الحكومات الأمريكية والغربية عمومًا. في ظل هذه التوجهات الضاغطة، من المرجح أن يشكل احترام حقوق الاختلاف الجنسى المثلى جزءا من منظومات حقوق الإنسان، والأخطر من المحتمل دمجها كشرط من شروط منح المعونات المالية، والاقتصادية مستقبلا من الدول المانحة للدول الفقيرة والمتوسطة على نحو ما يمارس من الحكومات الغربية، ومؤسسات التمويل الدولية، من شروط من بينها حقوق المرأة، والإنسان عموما. سيشكل هذا التوجه أحد أبرز ملامح الحق في الاختلاف، واحترام الآخر المختلف من المنظور الغربي في المستقبل، على الرغم من الثقافات المضادة له لأسباب دينية واجتماعية، والثقافة الذكورية بشكل عام، لاسيما في المنطقة العربية، وبعض ثقافات آسيا وروسيا والصين... الخ.
2- مفهوم الآخر، لن يقتصر على الإنسان الفرد، والجماعة أيا كانت معتقداتها وأفكارها وثقافاتها وأعراقها وقيمها، وإنما سيمتد إلى احترام وقبول التعايش مع مكونات الطبيعة، وعدم المساس بها أو بعضها، وذلك لإعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة، خاصة بعد ظهور الفيروسات المتحورة، والاحتباس الحرارى، والاستغلال المفرط لثروات الطبيعة، وهو ما أدى إلى اختلالات أيكولوجية مؤثرة على الحياة الإنسانية، وعلى الوجود الإنسانى، على نحو ما ظهر في جائحة "كوفيد-19" الفيروس المتحور، وهناك فيروسات أخرى عديدة ومتكاثرة لم تكتشف علميا حتى الآن.
ثمة تغيرات بيئية قد تؤدى إلى تغيير الجغرافيا السياسية والبيئة في عالمنا، إذا لم يتم إيجاد حلول جادة، تلتزم بها الدول الأكثر تقدما، وتطورًا في عالمنا، بعيدًا عن النزعة المفرطة للرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة.
3- إن التحول إلى الإناسة الروبوتية، ستؤدى إلى تغيير في شكل أنظمة الحكم، وفي المفاهيم والنظريات السياسية، في كافة دول العالم، والأنظمة السياسية المقارنة، وأيضا في الثقافة السياسية، وفي أشكال العقد الاجتماعي، والعلاقات بين الطبقات السياسية الحاكمة، والمعارضة، والمواطنين، بل سيشمل ذلك الأنظمة الدستورية، والقانونية في المستقبل، على نحو سوف يؤدي إلى توسيع مفهوم الحق في الاختلاف، وثقافة قبول الآخر المختلف. والمرجح اتساع هذا المفهوم دستوريا وقانونيا، وسياسيًا، في ظل احتمالات إعادة النظر في النظم السياسية الليبرالية التمثيلية، من خلال دمج نظام الاستفتاءات المباشرة، إزاء بعض القوانين التى تمررها الحكومات من خلال الأغلبية البرلمانية... الخ.
لا شك أن الثقافة السياسية ستتطور نحو تعظيم دورالأفراد، والجماعات المختلفة، في إطار الدور المتعاظم للروبوتات، وتمثلها للإنسان داخل الروبوتى. الأهم أن دور الرقمنة والذكاء الاصطناعي، سيؤديان إلى تغيير في الاتجاهات السياسية، نحو بعض من التقلصات المؤلمة، مع ظواهر كراهية الأجانب، والإسلاموفوبيا، والشعبوية في ظل التأثيرات التى ستمارسها الروبوتات، والذكاء الصناعى، على أنماط التدين السائدة في أوروبا -على تراجعها- ودول العالم، وخاصة العربية والإسلامية.
سيشكل عالم الروبوتات تأثيرًا كبيرًا في ازدياد الهوة بين العالم الأكثر تطورًا، وبين العالم المتخلف، أو في طور التقدم، من خلال المزيد من رفض هذه التحولات، وأثرها على العقائد الدينية والمذهبية، وستجد الجموع الغفيرة الفعلية والرقمية في الدين ملاذًا لها، للتماسك السوسيو- نفسى، والاجتماعى، من خلال بعض أشكال التمركز الديني والمذهبى، ورفض الآخر المختلف. وقد يتمدد هذا النمط النقلى من التمركز حول الانتماء الديني والمذهبى إلى تمركزات هوياتية على الأساس الديني/ المذهبى، أو العرقى، أو اللغوى... الخ (انظر في ذلك، نبيل عبد الفتاح، تفكيك الوهم، مصر تبحث عن المعني في عالم متحول، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2021).
الفجوات بين الشمال والجنوب، وبين العالم العربى والغرب ستزداد، وهو ما سيؤدى إلى بعض أشكال النكوص الماضوى في ظل العسر الاقتصادي، ومشاكله الاجتماعية والثقافية والتعليمية، وخاصة إذا استمرت ظاهرة موت السياسة، والقيود على الحريات العامة والشخصية في بعض هذه البلدان، ودعم المؤسسات الدينية الرسمية للسلطات المتغلبة -وفق فقه الجمهور السني-حتى لا يتفكك المجتمع، وفق هذا التوجه النقلى القديم.
4- أحد الاحتمالات المرجحة أيضا أن العسر الاقتصادي والاجتماعى، وتفكك "الطبقات الوسطى"، قد يؤدي إلى بعض الانفجارات الاجتماعية، من الأجيال الشابة، من أبناء الحياة الرقمية، ويزداد الاتجاه اللإ أدرى، والألحادى، وقد يؤثر على اتجاهات التدين النقلى السائدة، نحو بروز طلب دينى ومذهبى فعال من أجل تجديد الفكر الديني، ورفض الاتجاهات النقلية التى يعاد إنتاجها، مع التغير الكبير والجذرى، بين أزمنة إنتاجها وشروحها وأسئلتها، وبين السياقات والظروف المعاصرة اجتماعيًا، وسياسيًا، وثقافيًا. وقد يجد هذا الطلب بعض الاستجابات من عناصر مستنيرة، داخل المؤسسات الدينية، ومن خارجها للحفاظ على إيمان حر، يستجيب إلى أسئلة العصر، وأيضا يحافظ على التماسك النفسي والاجتماعى للفرد، وخاصة في ظل احتمالات التحول من إيمان الجموع إلى الإيمان الفردى الحر، ورفض السلطات الوصائية على الدين، وتحرير الدين والمذهب من السياسة، وتوظيفاتها السياسية من الطبقات السياسية. هذا الاتجاه لن يقتصر على الإسلام ومذاهبة، وإنما سيمتد إلى السلطة الكنسية في ظل طلب على التجديد اللاهوتى.
5- ستلعب الروبوتات دورًا في المجال الديني، من خلال توظيفها في الدعوة والتبشير الديني أو الوعظ، وربما يتنافس بعضها مع بعض رجال الدين واللاهوت في أداء هذه الوظيفة، وخاصة في ظل التطورات المتلاحقة في عالم الروبوتات، وردود أفعالها إزاء الإنسان، على نحو ما بعدى وفق ما يلاحظ سواء في الكتابة دون معطيات أو معلومات، أو بعض ردود أفعالها الجديدة التى ستتطور في المستقبل.
6- سيؤدى عالم الروبوتات، والإناسة الروبوتية إلى تغييرات في مجالات الهوية الفردية، والهويات الجماعية، ومصادرها، وتشكلاتها، وربما تتزايد، وهذا مرجح مع بروز صراعات الهوية بين الفردية والجماعية وبينها وبين عالم الروبوتات والذكاء الصناعى. من ثم ستتشكل هويات من أنماط مغايرةعن تلك التى ارتبطت تاريخيا بالدولة القومية، وحركات القوميات.
لا شك أن هذا النمط من الصراعات الهوياتية، سيؤثر على مقاربة موضوع قبول الآخر -أيا كانت هوية/ حريات، من حيث التعايش، أو الصراعات الجديدة، ومن ثم السعى إلى إيجاد مقاربات مختلفة للقبول بالاختلاف، والمغايرة، والتعايش بينها، إلا إنها ستكون ذات طابع انتقالى.
تحولات العالم الجديد للإناسة الروبوتية وما بعد الإنسان، ستؤثر على ثقافة الاختلاف، والقبول بالآخر المختلف.
خاتمة... قبول الآخر المختلف، وديناميات التحول في الثقافات العربية
الثقافات العربية -على التمايزات والمشتركات فيما بينها- وفق التعريف التايلوري العام للثقافة، تواجه العديد من التحديات، وتنطوى على مشكلات بنائية عديدة في أنساقها، من سطوة السياجات الدينية النقلية، والانتقادات التى توجه إلى بعض سردياتها التاريخية الوضعية، وبعض تناقضاتها، من منظور هذه الخطابات النقدية. في الوقت نفسه هناك حركية ناتجة عن الحياة الرقمية، التى تشكل أحد محفزات التغيير وخاصة بين الأجيال الجديدة الشابة، إلا أن غلبة الموروثات لا تزال تشكل أحد عوائق قبول الآخر المختلف، خاصة أن غالب هذه الدول والمجتمعات انقسامية Fragmented، ومتشظية إلى أديان ومذاهب، وطوائف، وأعراق وقوميات، ولغات، لا تزال نشطة وفاعلة اجتماعيًا، وهوياتيًا، وبينها تنافسات، وصراعات حول المصالح والتمثيلات السياسية والهوياتية والثقافية والاقتصادية والفرص الاجتماعية والتنموية، في ظل فشل سياسات الاندماج الوطنى، وضعف التكامل الداخلى، وعدم تبلور سياسات تؤدى إلى بناء موحدات ثقافية وطنية عابرة للمكونات الأساسية -أيا كانت جماعاتها ومكوناتها- تنعكس على تمثيل لهذه المكونات على نحو فاعل وتفاعلى في المؤسسات السياسية والثقافية، يولدُ هذه الموحدات العابرة للتعدديات داخلها.
متغيرات الحياة الرقمية في مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية لا تزال تحملُ العديد من الصور النمطية حول الآخر، وبعض من ثقافة الكراهية، والنظرات السلبية، وذلك على نحو شكل إعاقات بنائية، وسوسيو ثقافية، وسوسيو- سياسية إزاء قبول الآخر المختلف، وأيضا تجاه تحولات ديمقراطية، تؤسس لثقافة سياسية مؤسسة على الحريات العامة، وقبول الاختلاف. الأخطر أن ضعف الأنظمة والسياسات التعليمية يساهم في إضعاف ثقافة قبول الاختلاف، لغياب مناهج تحفز على تشكيل العقل النقدى الحر. إن ثقافة الكراهية تتمدد في بعض المجتمعات والدول العربية. بعض الجماعات القبلية والدينية التي ساهمت في تشكيل الطبقات السياسية الحاكمة مابعد بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي ساهمت في تفكك بعض هذه الدول. وفي بعض الدول العربية أيضا أدت السياسات المذهبية الى إضعافعها مجتمعيا، وإلى تعرضها للتدخلات الخارجية من الإقليم العربى أو من بعض دول الجوار الجغرافي العربي كتركيا وإيران. لاشك أن سياسات جديدة للاندماج والتكامل الوطنى مؤسسة على الحريات ودولة القانون والمؤسسات والقبول بالتعدد والحق في الاختلاف والقبول بالآخر ستؤدى إلى بناء مشاركات ثقافية وقيمية وسياسية تدعم التعدد والاختلاف.