سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تدّعي إسرائيل أنها "الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط. وكما أن الديمقراطية تحتوي على مبادئ منها: حماية حرية التعبير، والحق في الاختلاف مع السلطة الحاكمة، وحرية التظاهر بشكل سلمي، فإنها تعني أيضاً احترام حكم صناديق الاقتراع، والحفاظ على مبدأ أن يكون التغيير من خلالها بشكل حصري، وأيضاً التطبيق الصارم لمبدأ التوازن بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.

ما تشهده إسرائيل منذ عشرة أسابيع فضح التناقض بين المبادئ في منطوقها النظري وبين الممارسات من جانب المعارضة الإسرائيلية، على وجه الخصوص، على أرض الواقع.

لماذا ظهر التناقض أكثر وضوحاً في خطاب المعارضة الإسرائيلية أكثر منه في ممارسات حكومة نتنياهو؟، والسؤال الآخر الأكثر أهمية: إذا لم يستجب نتنياهو لضغوط المعارضة التي تقود مظاهرات الشارع، ومضى في مشروعه لإعادة هيكلة المؤسسات القضائية، فهل يمكن أن ينتهي الأمر بإسقاط حكومته عبر الضغط الجماهيري وليس عبر تفكيك ائتلافه والإطاحة به في عملية تصويت بالثقة على حكومته داخل الكنيست وفق المفهوم المستقر للحكم الديمقراطي؟.

الجانب الخفي في الأزمة

عندما تقدمت حكومة نتنياهو بمقترحات أطلقت عليها "خطة الإصلاحات القضائية" والتي تحتوي بعض بنودها على تقييد يد المحكمة العليا في إلغاء قوانين شرَّعها الكنيست، وتمنح الحكومة، كسلطة تنفيذية، اليد العليا في تعيين أعضاء اللجنة المنوط بها اختيار قضاة المحاكم، ثارت المعارضة الإسرائيلية التي تتشكل من أحزاب وقيادات يمينية معادية لنتنياهو بشكل شخصي، وأحزاب وقيادات يسارية فقدت القدرة على التأثير عبر الكنيست بعد أن انحسر تمثيلها فيه إلى أدنى مستوى في تاريخ الدولة العبرية، فنقلت نشاطها إلى الشارع وأرادت أن يكون التغيير عبره وليس وفق المبدأ الديمقراطي في حماية تداول السلطة عبر الانتخابات.

بالنسبة لنتنياهو وأحزاب اليمين المتحالفة معه، هناك دوافع أيديولوجية ومصلحية من وراء تقديم خطة الإصلاح القضائي أهمها:

1- إن اليمين العلماني ممثلاً في حزب الليكود يرى أن هناك خللاً جسيماً في العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث بدلاً من التوازن المفترض الذي تنادي به النظرية الديمقراطية بين هذه السلطات الثلاث، تعاني إسرائيل من "تغول" السلطة القضائية على السلطتين الأخريين، فقضاة المحاكم يتم تعيينهم من لجنة أغلبها من المستقلين "نظرياً"، بينما في الأغلب، وفي الواقع، أصحاب أيديولوجيات بعضها ضد فكرة الدولة والسلطة من الأساس، كما أن المحكمة العليا التي يتم "تعيين" قضاتها بواسطة لجنة خاصة أيضاً، أصبح بوسعها منع صدور قوانين أو إلغاء أخرى قائمة، وافقت عليها أغلبية من نواب الكنيست "المنتخبين"، وهو ما يشكل تناقضاً واضحاً وفق النظرية الديمقراطية ذاتها.

2- إن الأحزاب الدينية الشريكة لنتنياهو في الحكومة القائمة لا تؤمن بالديمقراطية ولكنها تقبل بقواعد اللعبة الانتخابية، ولديها أجندتها الخاصة التي كسبت الانتخابات وفقها، وهو ما يعني أنها تعبر عن قطاع من الشعب الإسرائيلي ينظر إلى نشر المستوطنات في الضفة الغربية على أنه واجب ديني مقدس، وضرورة أمنية للدولة لا يمكن التنازل عنها، كما ترى بعض من هذه الأحزاب أن مناداتها  بتطبيق الشريعة اليهودية على بعض أوجه أنشطة الدولة عمل مشروع، طالما أن هناك جمهوراً يطالبها بتبني هذا المطلب، وطالما أن نفس الجمهور قد منحها صوته في الانتخابات من أجل تحويل هذه المطالب إلى تشريعات يصدرها الكنيست. 

3- هناك خصومة مستحكمة منذ سنوات طويلة بين المحكمة العليا الإسرائيلية وبين الأحزاب الدينية والاستيطانية، بسبب تفريقها بين ما يسمى بالمستوطنات والمستوطنات غير الشرعية، وإصدارها الأوامر بإزالة الأخيرة، ورفضها (أي المحكمة العليا) أيضاً للعرف المعمول به منذ تأسيس الدولة والذي يقضي بإعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية، وحثها للسلطة التنفيذية على خفض مخصصات مؤسسات التعليم الديني التابعة للتيارات الدينية.

4- لنتنياهو مصلحة شخصية في الحد من سلطات المؤسسات القضائية، حيث ما يزال قيد المحاكمة في تهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ، وتخشى المعارضة من أن يؤدي نجاحه في تمرير خطته التي يسميها "الإصلاح القضائي" إلى التأثير في حكم المحكمة في تلك القضايا، بما يعزز من إمكانية بقائه في الحكم وفي الحياة السياسية لسنوات قادمة. 

إذا كانت تلك هي الأسباب التي دفعت نتنياهو وحلفائه إلى تفجير معركة الإصلاحات القضائية، وهي أسباب تقف من وراءها دوافع أيديولوجية ومصلحية، فإن دوافع معارضي هذه الإصلاحات تقف من خلفها أسباب أيديولوجية ومصلحية أيضاً:

أ- تدرك أحزاب المعارضة- والتي تضم أحزاباً من كافة الطيف السياسي بما في ذلك بعض أحزاب اليمين نفسه- أنها لن تتمكن من هزيمة نتنياهو في أي انتخابات مقبلة، وهو ما برهنت عليه كل العمليات الانتخابية الخمس التي جرت منذ عام 2019، حيث عجزت هذه الأحزاب عن إقصاء نتنياهو، واضطرت للدخول إلى انتخابات مبكرة، وكان أقصى ما وصلت إليه هو منعه (أي نتنياهو) من تشكيل الائتلاف، مع عجزها هي عن القيام بنفس المهمة أيضاً. فقط عندما تمكنت من تشكيل ائتلاف -لم يعش سوى عام ونصف- كان ذلك بدعم من القائمة العربية الموحدة، أي بواسطة أحزاب عربية، في سابقة لم تشهدها الحكومات الإسرائيلية على مدى تاريخها. بمعنى أكثر وضوحاً، لم تكن ثورة الأحزاب المعادية لنتنياهو على الإصلاحات القضائية سوى ذريعة للتغلب على ضعفها أمام صناديق الاقتراع، وليس انتصاراً للديمقراطية.

ب- بعد فشل المعارضة في منع نتنياهو من العودة للسلطة، لم يعد أمامها سوى المؤسسة القضائية لكي تكون السلاح الوحيد القادر على تحجيم اليمين، وربما أيضاً الإطاحة بنتنياهو عبر إدانته بتهم الفساد واستغلال النفوذ. وقد نظرت هذه المعارضة إلى خطة نتنياهو لما يسميه بالإصلاحات القضائية على أنها كارثة، كون تمريرها سيعني عملياً احتمال نجاة نتنياهو من الإدانة، ومن ثم بقاءه لسنوات مقبلة في الحياة السياسية، وربما في رئاسة الحكومة بسبب ما برهنت عليه السوابق الانتخابية من عجز مزمن للمعارضة في مواجهة نتنياهو وأحزاب اليمين.

ج- تعاني جبهة المعارضة من حالة تشتت يمكن أن تزداد تفاقماً، إذا انحصر  الصراع مع نتنياهو داخل الكنيست فقط، فالأحزاب العربية التي تمتلك عشرة مقاعد رفضت المشاركة في المظاهرات التي دعت لها الأحزاب الصهيونية، رغم عدائهما المشترك لنتنياهو، بسبب غضبها من مواقف الأحزاب الصهيونية المعادية لحقوق الأقلية العربية، والمؤيدة في نفس الوقت لسياسة نتنياهو في قمع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

كذلك، فإن أحزاب مثل الوحدة الوطنية بزعامة بيني جانتس، وحزب إسرائيل بيتينو بزعامة افيغدور ليبرمان هي أحزاب يمينية في توجهاتها العامة، وخلافها ليس حول أجندة اليمين الذي يقوده نتنياهو، بل حول نتنياهو نفسه، ومن ثم فإن هذين الحزبين غير مرشحين للبقاء طويلاً في جبهة المعارضة، وقد يتعرضان للتحلل والاختفاء من الخريطة السياسية في المستقبل، خاصة إذا ما أدرك جمهورهما عجزهما عن الدفاع عن مصالحه، بسبب عدائهما الشخصي لنتنياهو ليس إلا.

لعبة الجمع الصفري بين نتنياهو وخصومه

لا يبدو أن الأزمة بين نتنياهو ومعارضيه قابلة للحل بعد أن خرج الصراع من إطار "المعارك السياسية"، التي تنتهي عادة بنوع من الحلول الوسط، إلى إطار "لعبة الجمع الصفري" zero -sum game التي يفوز فيها طرف بكل نقاط اللعبة، فيما يخسر الطرف الآخر جميع النقاط.

المعارضة لم تكتفي بتسيير المظاهرات الحاشدة على مدار عشرة أسابيع مضت، بل تجاهلت عن عمد مبدأ السلمية، بعد أن تحولت التظاهرات إلى العنف بإغلاق الشوارع ومحاولة منع المسئولين من الوصول إلى مكاتبهم، ومحاصرة مقرات بعض المنظمات الأهلية المؤيدة لنتنياهو. والأخطر أنها (أي المعارضة) رحبت بدخول بعض رموز المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية للمعركة، طالما كان ذلك في صالحها.

على الجانب الآخر، لم يأبه نتنياهو لكل هذه الضغوط، حيث استمرت اجتماعات اللجنة التشريعية في الكنيست في مناقشة القوانين والتشريعات المقترحة ضمن خطة "الإصلاح القضائي" بما في ذلك مشروع قانون يمنع عزل رئيس الحكومة إلا عبر الكنيست وليس بفتوى من المحكمة العليا.

يدرك نتنياهو أن معارضيه يحاولون دفعه لتقديم تنازلات لا توافق عليها بعض أحزاب الائتلاف الحاكم، وهو ما قد يؤدي إلى انسحاب أي منها من الائتلاف والتسبب في سقوطه، لذلك من المستبعد أن تكون هناك أي تسوية سياسية حقيقية إلا لو تم التوافق بين نتنياهو وحلفائه على تقديم تنازلات محددة للمعارضة، ولأن التنازلات المحتملة ستكون في الغالب رمزية ولا تتضمن مطالب المعارضة الأساسية، فالصراع مرشح للاستمرار، وهنا تكمن أهمية السؤال حول: هل بوسع مظاهرات المعارضة إسقاط الحكومة؟

من الناحية القانونية، لا يمكن إسقاط أي حكومة إلا داخل الكنيست، عبر اقتراع بالثقة عليها، ولأن نتنياهو يتمتع بتأييد 64 نائباً فمن الناحية العملية ستنجو حكومته من أي محاولة لسحب الثقة منها. وإذا تمكن نتنياهو وحكومته من تمرير إصلاحاتهم القضائية المثيرة للجدل في خلال الفترة المقدرة (نهاية مارس الجاري)، فإن خسارة المعارضة للمعركة قد يقودها إلى أحد طريقين: إما إدخال البلاد في أزمة أعنف عبر تحول التظاهرات إلى العنف البالغ، وربما الدعوة للعصيان المدني الشامل، وإما الانكماش والانصراف عن الدعوة لتظاهرات جديدة، والبحث عن وسائل أخرى مثل حث القضاء على الإسراع في إصدار الحكم على نتنياهو في القضايا التي يحاكم بموجبها.

أيضاً قد تلجأ المعارضة إلى حث الشركات العاملة في أهم القطاعات الاقتصادية مثل قطاع التكنولوجيا الراقية، على الإضراب عن العمل، والمعروف أن عديداً من هذه الشركات كانت قد وقعت على بيانات المعارضة الرافضة لخطة التعديلات القضائية. ولكن رغم كل ذلك، ليس من المتوقع أن تحقق هذه الضغوط نتائج يمكنها أن تنهي الأزمة، كما أن حل الكنيست والدعوة لانتخابات مبكرة جديدة، علاوة على استحالته عملياً في الوقت الراهن بسبب تماسك الائتلاف الحاكم، فإن المعارضة قد لا تستفيد منه حتى لو حدث، حيث من المحتمل أن يتكرر فشلها في الإطاحة بنتنياهو عبر صناديق الاقتراع، وعندها سيكون من الصعب عليها العودة إلى تكتيك مظاهرات الشارع.

وفي كل الأحوال، سواء في هذه الأزمة أو في المستقبل المنظور، سيكمن الحل في رحيل نتنياهو عن الحياة السياسية، ولكن ستبقى المشكلة الأكبر في أن اليمين نفسه سيظل متمسكاً بطرح خطة الإصلاح القضائي ولو بصورة معدلة في أي حكومة مقبلة يقودها حتى بدون نتنياهو.