رانيا مكرم

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 
* المقال جزء من ملف خاص بعنوان "عام على الحرب الروسية-الأوكرانية: تحولات ومسارات".
للاطلاع وتحميل الملف كاملًا: https://acpss.ahram.org.eg/media/News/2023/2/22/2023-638126600356951558-695.pdf

 

أثار الانخراط الإيراني المباشر في الحرب الروسية-الأوكرانية جدلاً واسعاً، حول أسباب هذا الدعم الإيراني لروسيا بالطائرات المسيرة، وما يمكن أن تجنيه إيران من ناحية، وتخسره من ناحية أخرى جراء موقفها المتحول بشكل مفاجئ، وعلى عكس سردياتها الأثيرة حول "دعم المستضعفين"، والسعى السلمي لحل المشكلات العالقة. وبخلاف تصريحات مسئوليها في بداية الحرب، حيث أكد المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في بداية الأزمة أن "إيران موقفها ثابت وتؤيد وقف الحرب".

وقد قوبل الدعم الإيراني لروسيا بالأسلحة في حربها ضد أوكرانيا بردود فعل دولية سريعة، توازت مع فرض مزيد من العقوبات الغربية عليها، استهدفت برامجها العسكرية المنتجة للطائرات المسيرة، فيما تزايدت الضغوط الغربية مع تطورات الداخل الإيراني، لا سيما بعد اندلاع الاحتجاجات في منتصف سبتمبر 2022، ليكتمل بها مثلث الضغوط الغربية علي إيران والمتمثل في الاتفاق النووي، وتوريد المسيرات إلى روسيا، وملف حقوق الإنسان.

 وبين حسابات المكسب والخسارة، تجد إيران نفسها بين عوامل تدفعها لاستمرار اصطفافها غير المسبوق مع روسيا، وأخرى إلى الاستجابة للضغوط الدولية المتزايدة عليها بسبب دعمها لروسيا بالأسلحة، والتي عرَّضتها مؤخراً لهجوم على منشأة في أصفهان وصف بأنه ذا صلة بدورها في الحرب الروسية-الأوكرانية.

دوافع الاستمرار

ثمة مُحفِّزات من شأنها أن تدفع إيران إلى الاستمرار في دعم روسيا في حربها على أوكرانيا، بهدف الحفاظ على ما حققته من مكاسب، وسعياً لتحصيل المزيد منها، وتتمثل في:

1- الحفاظ على الثقة في كفاءة الإنتاج العسكري: حصلت إيران على قدرٍ كبيرٍ من الثقة عقب التأثير الملحوظ الذي حققته طائراتها المسيرة في استهداف المواقع المهمة في أوكرانيا، وهو التأثير الذي أعقبه اهتمام أوروبي واسع بعواقب وتداعيات الدعم الإيراني لروسيا في حربها على أوكرانيا، بشكل سيشجع، على الأرجح، إيران للمحافظة على هذا النجاح واستثماره.

ولعل التقرير الذي نشرته شبكة "CNN" عن تطوير إيران لمقاتلاتها المسيرة لتكون أشد فتكاً دليل على ذلك، حيث أشار التقرير إلى أن إيران تقوم بتعديل طائراتها الهجومية من دون طيار التي سبق وأن قدمتها لروسيا، لتكون قادرة على إلحاق أضرار أكبر عندما تهاجم أهدافاً للبنية التحتية في أوكرانيا، من خلال تعديل أحمال المسيرات لتستطيع حمل 18 شحنة حول محيط الرأس الحربي، ما يجعلها قادرة على اختراق الدروع عند انفجارها وبالتالي زيادة قدرتها على تدمير أهداف مثل محطات الطاقة، وشبكات توزيع الكهرباء.

إلى جانب ذلك، فقد حققت إيران مكسباً مهماً بعد إظهار القدرات الهجومية لطائراتها المسيرة وما تحمله من صواريخ، وهو ما يمكن أن يكون متغيراً رئيسياً في حسابات إيران في هذا الشأن، يتمثل في تعزيز الصورة الذهنية لقوة ردعها العسكري، وقدرتها على التصعيد أيضاً. فيما مثلت الحرب على أوكرانيا منصة للدعايا للمسيرات الإيرانية وقدراتها، على نحو سيمكنها، حال حسمت روسيا الحرب لصالحها، من القول بأنها أسهمت في إلحاق الهزيمة بأوكرانيا المدعومة أوروبياً وأمريكياً. ويضاف إلى ذلك مكاسب بيع الطائرات لدول أخرى، حيث تشير تقديرات عديدة إلى استعداد الصين لشراء 15 ألف طائرة مسيرة من إيران.

2- الاستفادة من وضع روسيا في خندق العزلة والعقوبات: يمكن القول إن الدعم الإيراني لروسيا في حربها على أوكرانيا قد تزايد بشكل لافت عقب فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية من قبل الدول الغربية على روسيا، حيث رأت إيران أن الاصطفاف إلى جانب روسيا في هذا التوقيت سيمكنها مستقبلاً من تعزيز شراكتها مع موسكو، وتذليل العقبات السابقة أمام هذه الشراكة، لا سيما في مجال الاقتصاد، والاستثمار الأجنبي، بما يساعد إيران على تعويض خسائرها الناتجة عن هروب رأس المال الأجنبي، وعزوف الشركات عن الاستثمار في البلاد نظراً للعقوبات المفروضة عليها.

يضاف إلى ذلك ما يمكن تحقيقه في هذا السياق من تعاون عسكري سعت إليه إيران لسنوات، حيث جعلها دعمها لموسكو بالمسيرات على مشارف الحصول على صفقة الطائرات المقاتلة "سوخوي-35"، التي ستعد نقطة فارقة في القدرات العسكرية الإيرانية، حيث ستصبح القدرات العسكرية الإيرانية أفضل تجهيزاً ناحية إحباط هجمات محتملة على بنيتها التحتية النووية والاستراتيجية، عقب سنوات طويلة من الحظر الأممي على التسلح الإيراني، أدى إلى تقويض قدرتها على تحديث قوتها التسليحية والاعتماد على قدراتها الذاتية وبعض الصفقات الخفية من خلال السوق السوداء للسلاح العالمي في هذا السياق، وذلك في الوقت الذي تتردد فيه تسريبات عن تنسيق روسي-إيراني لتدشين مصنع في شبه جزيرة القرم لإنتاج ما يصل إلى 6 آلاف طائرة مسيرة إيرانية.

3- تعزيز التفاهم الثنائي في الملف السوري: في ظل الأهمية التي تحظى بها سوريا بالنسبة لإيران، فإن ثمة إدراكاً إيرانياً بأن لروسيا دوراً مهماً في الحفاظ على المعادلة الحالية داخل سوريا، بما يخدم المصالح الإيرانية، وأن ثمة تداعيات خطيرة يمكن أن تتعرض لها روسيا، سواء بخروجها مهزومة من الحرب على أوكرانيا أو على الأقل إنهاكها في حرب طويلة لم يكن مخططاً لها بشكل مناسب، بشكل سيؤثر حتماً على تواجدها القوي في الداخل السوري، الأمر الذي سيُعرِّضها للانكشاف في مواجهة المعارضة السورية المسلحة، وسيجعل مهمة توفيق الأوضاع مع تركيا مستحيلاً. وبالتالي تسعى إيران خلال الفترة الحالية إلى تجنيب نفسها تكلفة هزيمة روسيا في الحرب، وبالتالي تلافي تداعيات هذه الهزيمة على مصالحها في سوريا.

4- استمرار الدعم الروسي للاتفاق النووي: وذلك في ظل الإشارات الأمريكية المتناقضة بشأنه، حيث كانت المفاوضات التي هدفت إلى إعادة تفعيله قد بدأت في أبريل 2021، وواجهت عراقيل وتوقفات متكررة حتى وصلت إلى طريق مسدود في سبتمبر 2022. ومنذ ذلك الوقت، تتلقى إيران إشارات متناقضة من قبل الأطراف المشاركة في المفاوضات، كان آخر مظاهر هذا التناقض هو إعلان إيران تلقيها رسائل من الولايات المتحدة ودول مشاركة في المفاوضات المتوقفة، عبر قطر، وفق ما أعلنه وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أثناء استقباله نظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في طهران نهاية يناير 2023، إلا أن بيان مجموعة العمل الخليجية-الأمريكية المشتركة الخاصة بإيران، قد حمّل، في 16 فبراير 2023، انتقادات أمريكية حادة للبرنامج النووي الإيراني، وتأكيدات من جانب واشنطن على أن إيران قد تجاوزت في إمكانياتها النووية الحد السلمي والاحتياجات المدنية، وهو ما اعتبرته إيران تصعيداً يتماشى مع الاستراتيجية الأمريكية القديمة القائمة على إثارة التفرقة بين دول المنطقة.

في هذا السياق، لا تجد إيران مفراً من الاعتماد على الدعم الروسي للاتفاق النووي، وعلى قدرة روسيا على عرقلة قرارات تصعيدية بشأن إيران في مجلس الأمن باستخدامها حق الفيتو حال تم إعادة نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن مجدداً، الأمر الذي يدفعها إلى تقديم العون لروسيا التي لم تستطع الحصول على دعم عسكري من الصين، كضمانة لاستمرار هذا الدعم.

احتمالات التراجع

رغم وجود العديد من المُحفِّزات التي يرجح معها أن تستمر إيران في دعمها لروسيا، فإن ثمة كوابح أخرى قد تدفعها إلى إعادة صياغة حساباتها، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تزايد الضغوط الغربية على إيران: اتسع نطاق الملفات الخلافية بين إيران والدول الغربية خلال العام الماضي، منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، وحتى قبل الإعلان عن تورط إيران في الحرب لأول مرة في يوليو 2022، حيث تصاعدت العقوبات الأمريكية على إيران بسبب أنشطتها النووية المتزايدة خارج إطار الاتفاق النووي، والتي وظّفتها إيران كورقة ضغط لاستعادة المسار التفاوضي، إلى أن دخلت أزمة تورطها في إرسال مسيرات إلى روسيا على خط العقوبات المفروضة عليها، حيث سارعت دول أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة إلى تطبيق عقوبات على مؤسسات إيرانية ضالعة في تصنيع الطائرات المسيرة، ثم جاءت الممارسات القمعية للأجهزة الأمنية في إيران ضد الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ منتصف سبتمبر 2022، لتشكل المستوى الثالث لعقوبات غربية طالت العديد من المؤسسات الأمنية والتنفيذية في البلاد.

غير أن التفجير الأخير الذي شهدته مدينة أصفهان واستهدف أحد مراكز تصنيع الذخائر التابعة لوزارة الدفاع الإيرانية بواسطة ثلاث طائرات مسيرة، في 29 يناير 2023، دشن بداية مرحلة جديدة من المواجهات مع إيران، فبالرغم من أن الهجوم لم يكن الأول من نوعه على منشأة استراتيجية في إيران، إلا أن التصريحات التي صدرت عن ميخايلو بودولاك مستشار الرئيس الأوكراني، بأن "منطق الحرب مقيت، ويجعل المرتكبين والمتواطئين يدفعون الثمن"، قد دفعت إيران للشك في اشتراك أوكرانيا مع إسرائيل، التي اتهمتها طهران فور وقوع التفجير بتنفيذه. وفي هذا الإطار، تواجه إيران احتمال انتقال المواجهات مع روسيا إلى أراضيها، بهدف إثنائها عن دعم الأخيرة، أو على الأقل رفع كُلفة هذا الدعم.

2- تزايد خلافات النخبة الإيرانية حول تطور العلاقات مع روسيا: تشير التقارير إلى أن ثمة اتجاهين داخل النخبة في إيران بشأن الدعم المقدم إلى روسيا في حربها ضد أوكرانيا، بشكل خاص، والعلاقات مع موسكو بشكل عام، حيث يدعو الاتجاه الأول- الذي تمثله مؤسسة الحرس الثوري وقياداتها، وبعض رموز النظام مثل رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف- إلى دعم العلاقات مع روسيا بالسبل المتاحة لدى إيران، فيما يرى الاتجاه الثاني- الذي يعبر عنه رموز التيار المعتدل وعلى رأسهم أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني، والرئيس السابق حسن روحاني، ووزير الخارجية السابق جواد ظريف- وجوب توخي الحذر إزاء الاصطفاف الكامل مع روسيا، ومعاداة الدول الغربية في هذا السياق.

ومع التسليم بأن لدى روسيا سقف أقصى لشكل التعاون الاستراتيجي مع إيران، يمكن أن تصل إليه سريعاً خلال هذه الفترة كرد على الدعم الإيراني لها، فإن بلوغ هذا السقف ومن ثم التراجع عن تقديم المزيد لإيران في المستقبل سيؤدي إلى ترجيح رؤية الاتجاه الثاني داخل النخبة الإيرانية، التي تعاني حالياً من تخبط واضح تجاه ما يشهده المجتمع الإيراني من حراك غير مسبوق، دفع بعض مناصري النظام إلى الدعوة لإعادة النظر في سياسة النظام داخلياً، وضرورة الالتفات إلى مطالب الشارع.

3- عدم قدرة روسيا على حسم الحرب: من اللافت أن ثمة ضعفاً بات يعتري أداء روسيا في الحرب على أوكرانيا، بفعل المساعدات والدعم الذي تتلقاه أوكرانيا من الدول الغربية، وبتنسيق شبه أممي، والذي أسهم في إطالة أمد الحرب لعام كامل، على عكس ما روجت له روسيا بأنها ستقوم بعملية عسكرية سريعة لتحقيق أهدافها، وهو ما يضع إيران أمام سيناريو محتمل مفاده أن تشهد المرحلة القادمة اصطفافاً دولياً وتحركاً غربياً باتجاه إنهاء الحرب على أوكرانيا، ومن ثم تعريض مصالح إيران للخطر، إن لم تكن إيران ذاتها جزءاً من خطة إنهاء الحرب في أوكرانيا، أو على أقل تقدير أن تدرك إيران أن استمرارها في التورط في الصراع في أوكرانيا سيدفع نحو زيادة الفجوة في العلاقات مع الدول الأوروبية، وبالتالي زيادة عزلتها دولياً، وتفويت فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، والاستفادة من حاجة أوروبا إلى الطاقة خلال الفترة الحالية، بل ومواجهة مزيد من الضغوط والعقوبات التي من شأنها تأجيج الوضع الداخلي المضطرب.

سيناريو محتمل

رغم تاريخ عدم الثقة والتنافس بين روسيا وإيران في العديد من الملفات، مثّلت الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة مواتية لتوطيد العلاقات بين البلدين، كل حسب أهدافه، لتشهد العلاقات بين البلدين حالياً تعاوناً غير مسبوق. ومع التسليم بأن إيران قد اتخذت القرار بتقديم الدعم لروسيا في حربها على أوكرانيا، مدفوعة بعدة أهداف سعت إلى تحقيقها، في مقابل المخاطرة بعدم تحقيقها، وبالتالي دفع ثمن هذا الدعم دون الحصول على مقابل، فإنها، على الأرجح، ستعمل على الاستفادة القصوى من الوضع الحالي، الذي لا زالت فيه روسيا قادرة على مواصلة خوض الحرب ضد أوكرانيا المدعومة غربياً، وتحقيق مكاسب على الأرض، لا سيما في ظل تحقيق إيران للعديد من المكاسب التي ترجح كفة استمرارها في دعمها لروسيا، من ناحية، وقدرتها، حتى الآن، على مواجهة تداعيات انخراطها المباشر في الحرب، الأمر الذي يعني أن ثمة استبعاداً لتراجع طهران عن دعم موسكو، وبصفة خاصة مع اقتراب موعد تسلمها دفعة من طائرات "سوخوي-35" المقاتلة الروسية، بحلول شهر مارس المقبل، حسب ما أعلنه شهريار حيدري العضو في لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، كجزء من صفقة تشمل أنظمة دفاعية وصواريخ ومروحيات. إذ من غير المتوقع أن تخسر إيران مثل هذه الصفقة التي سعت من أجلها لسنوات، لا سيما وأنها قد اعتادت العزلة السياسية والاقتصادية، ومواجهة العقوبات والضغوط بخطط بديلة لاحتواء تداعياتها.