رغم أن المفاوضات التي أجريت بين إيران وقوى مجموعة "4+1" بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الفترة من أبريل 2021 وحتى سبتمبر 2022، تعثرت بسبب اتساع نطاق الخلافات العالقة بين تلك الأطراف وتأثر المفاوضات بالتطورات التي طرأت على الساحة الدولية في العام الأخير، ولا سيما اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية التي افتتحت عامها الثاني منذ أيام قليلة، كان لافتاً أن أياً من هذه الأطراف لم يعلن إنهاء المفاوضات أو وقف العمل بالاتفاق النووي الحالي. بل إن الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه عندما ألمح إلى أن "الاتفاق النووي مات"، أكد في الوقت نفسه أن "واشنطن لن تعلن ذلك"، بما يعني أنه حرص على ترك الباب مُوارِباً لإمكانية الوصول إلى صفقة مع إيران.
ولذا، فإن الرسائل ما زالت تتوالى بأن هذه الأطراف ما زالت تُعوِّل على هذا الخيار، الذي يمكن أن يقلص من حدة التوتر والتصعيد القائم حالياً بين إيران والدول الغربية، والذي تفاقم بدوره بسبب الدعم العسكري الإيراني لروسيا لمساعدتها على إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
فقد أشار المسئولون الإيرانيون، ولا سيما وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، إلى أن إيران تلقت رسائل أمريكية عبر وسطاء، تفيد باستعدادها للوصول إلى صفقة. بل إن وسائل الإعلام الإيرانية بدأت في نشر تقارير، سواء محلية أو نقلاً عن تقارير غربية، تفيد أن هناك تفكيراً في المرحلة الحالية في إمكانية الوصول إلى "اتفاق مؤقت" شبيه بالاتفاق الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في جنيف، في 24 نوفمبر 2013، والذي سبق الوصول إلى الاتفاق النووي الحالي بنحو عام ونصف العام. وربما يرتبط هذا الاتفاق بصفقة لتبادل السجناء بين طهران وواشنطن قد تتوسط فيها سلطنة عمان.
لكن هذا التشابه ربما يكون في سمة الاتفاق فقط دون مضمونه، حيث أن أى اتفاق مؤقت جديد يجب أن يراعي الظروف الجديدة التي طرأت على البرنامج النووي الإيراني، منذ بدء إيران في تخفيض التزاماتها في الاتفاق الحالي رداً على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق في 8 مايو 2018، وفرض العقوبات الأمريكية في 7 أغسطس من العام نفسه، على نحو رفع مستوى الأنشطة النووية الإيرانية بشكل غير مسبوق، حيث وصلت إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، وبدأت في استخدام أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً، كما وسَّعت من نطاق عمليات التخصيب لتشمل منشأة فوردو إلى جانب مفاعل ناتانز.
ووفقاً لذلك، فمن المحتمل أن ينص هذا الاتفاق المؤقت المحتمل على وقف الأنشطة النووية الإيرانية عند مستواها الحالي، مقابل عدم فرض عقوبات غربية جديدة على إيران وتقليص مستوى العقوبات المفروضة، وربما يتضمن أيضاً الإفراج عن بعض الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج.
دوافع متبادلة
يمكن تفسير أسباب تجدد الحديث داخل إيران والولايات المتحدة الأمريكية عن إمكانية الوصول إلى اتفاق مؤقت جديد في ضوء دوافع عديدة ترتبط بحسابات كل طرف على حدة. فبالنسبة لواشنطن، فإنها باتت مدركة إلى أن طهران وصلت بالفعل إلى المرحلة النووية الحرجة التي كانت تأمل في أن لا تصل إليها عبر الاتفاق الحالي لكن آمالها خابت في ظل ما آل إليه هذا الاتفاق.
إذ تمكنت إيران من رفع مستوى أنشطتها النووية، فحسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنها أنتجت 70 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، كما بلغت كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20% نحو 1000 كيلوجرام. ويعني ذلك أن إيران امتلكت المواد النووية التي تستطيع من خلالها الوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية، حيث تنقصها هنا تقنيات أخرى مثل صنع المفجر النووي. وقد أشار المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل جروسي، في 25 يناير 2023، إلى أن "إيران جمعت ما يكفي من المواد لصنع عدة أسلحة نووية، لكنها لا تملك واحداً حتى الآن".
هنا، فإن وصول الأنشطة النووية الإيرانية إلى هذا المستوى يضع الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، أمام مأزق صعب. إذ أنها لم تمتلك من الخيارات ما يمكن أن يدفع إيران إلى التراجع عن سياستها الحالية. وحتى عندما بدأت في التلويح بالخيار العسكري، فإنها تبدو مدركة للصعوبات التي تحول دون استخدامه فعلياً.
كما أن العقوبات التي فرضتها على إيران، رغم تأثيراتها القوية على الداخل الإيراني، لم تثبت قدرة على دفع الأخيرة إلى تبني سياسة أكثر مرونة. ومن هنا، فإن ثمة ثلاثة خيارات متاحة أمام تلك الدول: فإما أنها لن تستطع إثناء إيران عن المضى قدماً في المسار الحالي، وبالتالي المغامرة بوصول إيران إلى المرحلة الأصعب، وهى العمل على إنتاج القنبلة بالفعل، وإما أن تستخدم الخيار العسكري وهو خيار محفوف بالمخاطر كما سبقت الإشارة، وإما أن تحاول مقابلة إيران في منتصف الطريق - على الأقل حالياً - من خلال العمل على الوصول إلى اتفاق مؤقت يتضمن تهدئة التصعيد الحالي، ويُنشِئ موقفاً جديداً يمكن أن يدفع في اتجاه تجديد المفاوضات للوصول إلى اتفاق نووي أكثر استدامة.
وربما يخدم التصريح اللافت لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، في 26 فبراير الجاري، هذا السياق، حيث قال أن "إيران يمكن أن ترفع درجة تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 90% اللازمة لإنتاج أسلحة نووية في غضون أسابيع، إذا أرادت ذلك"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة لا تعتقد أن المرشد الإيراني علي خامنئي، قد اتخذ قراراً باستئناف برامج التسلح النووي".
وربما تبدي اتجاهات عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية تفاؤلاً أكثر ليس فقط بفرص نجاح هذه الصفقة المؤقتة، بل وأيضاً ارتداداتها على ملفات أخرى لا تقل أهمية، ولا سيما الحرب الروسية - الأوكرانية. إذ قد يكون تقليص حدة التوتر والتصعيد بين طهران وواشنطن مدخلاً أولاً لدفع إيران إلى ضخ كميات من النفط إلى الدول الأوروبية - حيث سيرفع قسم من العقوبات الأمريكية في هذا الصدد – التي تبدو في أشد الحاجة إلى مزيد من الموارد النفطية، لاحتواء تداعيات انقطاع إمدادات الطاقة الروسية، وربما تقليص أسعار الطاقة على المستوى العالمي، وثانياً للعمل على تعزيز فرص الوصول إلى تفاهمات مع إيران لوقف دعمها العسكري إلى روسيا عبر الطائرات من دون طيار التي تستخدمها الأخيرة في قصف البنية التحتية الأوكرانية.
وربما يمكن إضافة دافع آخر في هذا الصدد، ويتمثل في أن الدول الغربية عموماً، والولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص، أدركت النظام الإيراني استطاع تجاوز الأزمة التي فرضتها الاحتجاجات الأخيرة - على الأقل مؤقتاً- وأن تعويلها على إمكانية أن تنتج هذه الاحتجاجات متغيرات جديدة ربما تدفع النظام إلى إجراء تغيير في سياساته لم يكن يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض. وقد يفسر ذلك، إلى حد كبير، أسباب تزايد الحديث عن رسائل متبادلة بشأن الملف النووي، بعد أن شهد هذا الملف تجميداً ملحوظاً على مدى الأشهر الخمسة الأخيرة، منذ بداية الاحتجاجات في منتصف سبتمبر الماضي.
أما بالنسبة لإيران، فتبدو بدورها في أشد الحاجة إلى تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها بسبب العقوبات الغربية عموماً والأمريكية على نحو خاص. إذ أن كل الإجراءات التي اتخذتها حكومتا الرئيس السابق حسن روحاني والحالي إبراهيم رئيسي لم تفلح في احتواء تلك الضغوط، التي وصلت إلى مرحلة صعبة، بدت جلية في انهيار العملة الوطنية الإيرانية، حيث يتجاوز سعر الدولار حالياً أكثر من 500 ألف ريال.
كما أن تعويل إيران على سياسة "التوجه شرقاً" يبدو أنه كان مبالغاً فيه. إذ بدا لافتاً أن اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين لم تجد طريقها إلى التنفيذ فعلياً على الأرض حتى الآن، رغم مرور نحو عامين على إبرامها في 27 مارس 2021. وبالطبع، فإن قسماً من ذلك يعود إلى تأثير العقوبات الأمريكية التي تدفع أى جهة أجنبية - سواء دولة أو شركة - إلى التفكير أكثر من مرة قبل الانخراط في تعاملات مصرفية أو تجارية مع إيران.
فضلاً عن أن هناك اتجاهات داخل إيران نفسها بدأت في التحذير من خطورة "وضع كل البيض في سلة الصين وروسيا"، لا سيما أن الدولتين لديهما مصالح وحسابات قد لا تتفق بالضرورة مع مصالح وحسابات إيران، وهو ما بدا جلياً، على سبيل المثال، في الرسائل التي وجهتها بكين إلى طهران خلال مشاركة الرئيس الصيني شي شينبينج في القمم الثلاث التي عقدت خلال زيارته للسعودية في الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر الماضي.
خيار محتمل
مع ذلك، يبقى هذا الاتفاق المؤقت مجرد خيار محتمل ربما يتم التفكير فيه باعتبار "مُسكِّناً" للتصعيد الحالي. لكن في الوقت نفسه قد يواجه إشكاليات عديدة. إذ أن عدم الثقة بين طهران وواشنطن يبقى عقبة قائمة وقوية في وجه أى تفاهمات قد يتم الوصول إليها، خاصة في ظل خبرة الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الحالي.
كما أن هناك مؤسسات عديدة داخل إيران ربما تعترض على المضى قدماً في هذا المسار، الذي قد يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي مؤقتاً دون أن يعالج كافة مشكلاته، لا سيما أن الحوافز التي سوف تتلقاها إيران لن تكون بالضخامة التي يمكن أن تساعد أى اتجاه مؤيد لهذه الصفقة من أجل الترويج لها وتمريرها من بين أيدي المتشددين.
فضلاً عن أن الدعم العسكري الإيراني لروسيا يبقى عقبة أخرى قائمة، ويرتبط بتعاون عسكري أكبر بين الطرفين يمكن أن تتسلم إيران بمقتضاه مقاتلات روسية حديثة من طراز "سوخوى 35"، وبالتالي فإن إقدام إيران على ربط هذا الدعم بالصفقة النووية مع الدول الغربية يبقى بدوره محل شك.
ويضاف إلى ذلك موقف إسرائيل من هذا الاتفاق المؤقت الذي لا يتوافق مع مصالحها في الغالب، ومن ثم فإنها ستواصل، على الأرجح، إدارة تصعيدها مع إيران بصرف النظر عن ما إذا طبق هذا الخيار أم لا، وهو ما يعني في النهاية أن الأزمة النووية ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات والمسارات.