* المقال جزء من ملف خاص بعنوان "عام على الحرب الروسية-الأوكرانية: تحولات ومسارات".
على الرغم من التأثيرات الانتشارية السلبية التي تمخضت عن الحرب الروسية-الأوكرانية على دول الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بارتفاع أسعار الغذاء وتزايد معدلات التضخم وتراجع نسب النمو، إلا أنها -على الجانب الآخر- أتاحت فرصاً لبعض دولها لتعزيز نفوذها، وهو ما عكسته خمسة اتجاهات رئيسية على مدار عام من اندلاع تلك الحرب، وهي تنويع الشراكات الاستراتيجية مع القوى الدولية، والقيام بدور الوساطة السياسية لتهدئة منسوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتبني المبادرات الإنسانية لكل من السعودية والإمارات تجاه أسرى الحرب، وتزايد الطلب على تصدير الطاقة من الجزائر ودول الخليج للدول الأوروبية، والانخراط الميداني "الإيراني" في المواجهات العسكرية عبر الطائرات المسيرة، والإشراف "التركي" على دعم تطبيق وتمديد اتفاق نقل الحبوب بين روسيا وأوكرانيا.
اتجاهات ستة
بعد مرور عام على اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، يمكن استخلاص ستة اتجاهات تعزز الفرص التي جنتها بعض دول الإقليم في سياق تفاعلها معها، على النحو التالي:
1- تنويع الشراكات الاستراتيجية مع القوى الدولية: يعد أحد الملامح الرئيسية لدور بعض القوى الإقليمية وخاصة مصر ودول الخليج، في مرحلة ما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، العمل على تنويع الشراكات الاستراتيجية مع العديد من القوى الدولية لتشمل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والدول الأوروبية، حيث ترفض دول الإقليم الامتثال للضغوط الأمريكية بعدما أثبتت تفاعلات إقليمية ودولية، لبعض القوى، أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست حليفاً يمكن الاعتماد عليه، فضلاً عن معارضة الدول المحورية بالإقليم، مثل مصر والسعودية والإمارات والعراق، إدخال المنطقة كساحة للحرب بالوكالة أو تصفية للحسابات بين واشنطن وموسكو، إلى جانب إدراك ضرورة تجنب الدخول في متاهة الاستقطاب الدولي، والتي تجبر الدول على الاختيار ما بين "مع أو ضد" فيما يطلق عليه "مبدأ بايدن" وهو على شاكلة "مبدأ بوش" الذي كان يميز بين الدول في شنه الحرب على الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر.
غير أن أحد المواقف الاستقلالية التي اتخذتها الدول العربية بما يراعي مصالحها الوطنية في المقام الأول هو التوجهات التي اتبعتها والتحركات التي قامت بها والقرارات التي اتخذتها إزاء مرحلة الحرب الروسية-الأوكرانية وما بعدها. ونظراً لأن الساحتين الإقليمية والدولية شهدتا تطورات متلاحقة، كان لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الدول العربية، فإن ذلك استدعى تأكيد البيان الختامي في القمة العربية بالجزائر في 1 نوفمبر 2022 "وجود اختلالات هيكلية في آليات الحوكمة العالمية ومعالجتها لضمان المساواة بين جميع الدول ووضع حد لتهميش الدول النامية، مع التأكيد على ضرورة مشاركة الدول العربية في صياغة معالم المنظمة الدولية الجديدة لعالم ما بعد كورونا والحرب في أوكرانيا". فهناك عدد من الدول العربية أدركت أن مرحلة "ما قبل" 24 فبراير تختلف عن مرحلة "ما بعد" ذلك التاريخ، مما يستلزم رؤية استقلالية لها تبرز تأثيرها على الساحة الدولية.
2-القيام بدور الوساطة لتهدئة منسوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا: حاولت بعض الدول في الشرق الأوسط دعم الجهود الدولية الرامية لحل الأزمة التي تحولت إلى حرب بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما برز في فترات مختلفة، وبذل جهود الوساطة بين مختلف الأطراف. ففي نهاية يناير 2023 وبعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للقاهرة ولقاءه الرئيس عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، قام الأخير بزيارة موسكو وعقد جلسة مباحثات مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وعدد من المسئولين الروس، على نحو بعث برسائل مفادها قيام مصر بنقل رسالة من الجانب الأمريكي للجانب الروسي، الأمر الذي يأتي في ظل حرص القاهرة على تعزيز جهود التهدئة ومحاولة إيجاد حلول لإيقاف آلة الحرب وتحقيق التسوية.
كما تبنت كل من السعودية والإمارات نهجاً محايداً تجاه أطراف الصراع وعدم اتخاذ أي موقف يُفسر على أنهما تساندا طرفاً ضد طرف، وهو ما سهل من دورهما كوسيط. وأعلنت الرياض وأبوظبي أكثر من مرة عن دعمهما لكافة الحلول السياسية والجهود الدولية الرامية لإنهاء الحرب، كما أبدت استعدادهما للقيام بدور الوساطة من أجل تبادل الأسرى (منهم جنود من البحرية والمشاة وحرس الحدود ومقاتلون محليون) وتذليل عقبات اتفاق الحبوب والوصول إلى تسويات لإنهاء الحرب.
وفي هذا السياق، قادت السعودية والإمارات عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا في سبتمبر 2022، وكانوا من مواطني المغرب والولايات المتحدة وبريطانيا والسويد وكرواتيا. ولاقت تلك الخطوة إشادة دولية واسعة سواء من جانب دول المواطنين الذين تم إطلاق سراحهم أو من دول أخرى. بالإضافة لعدة دول، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والسويد وكرواتيا.
وساعدت تلك الخطوة على تكرار تلك الوساطة بشأن الإفراج وتبادل السجناء بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. ففي 8 ديسمبر 2022، أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية ووزارة الخارجية السعودية عن نجاح الوساطة التي قادها الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، للإفراج عن المسجونين (المواطنة الأمريكية بريتني غراينر، والمواطن الروسي فيكتور بوت)، وأكد البيان الذي صدر آنذاك أن "نجاح جهود الوساطة يأتي انعكاساً لعلاقات الصداقة المشتركة والوطيدة التي تجمع بلديهما، بالولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، وللدور المهم الذي تلعبه قيادتا البلدين الشقيقين في تعزيز الحوار بين جميع الأطراف". كما نجحت الإمارات، في 4 فبراير 2023، في التوسط لإبرام صفقة أسرى أخرى بين الطرفين أطلق بمقتضاها سراح نحو 200 أسير وأعيدت جثتا بريطانيين من موظفي الإغاثة إلى أوكرانيا.
ولعل تلك التحركات عززت أدوار كل من مصر والسعودية والإمارات، لا سيما في ظل توافقها بشأن الدبلوماسية كسبيل وحيد لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، وهو ما اتضح منذ بداية الأزمة ودعواتها إلى وقف التصعيد وبدء الحوار ودعم جميع المبادرات الدبلوماسية في هذا الصدد. فضلاً عن مخاوفها العميقة بشأن تداعيات الوضع الحالي على المدنيين داخل أوكرانيا وخارجها، وعلى السلم والأمن والاستقرار على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وهو ما تشير إليه بيانات وزارات الخارجية في الدول العربية الثلاث. فضلا عن ذلك، هناك تصريحات في سياقات وتوقيتات زمنية مختلفة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان تؤكد مساعيه لتبني دور الوسيط من أجل إرساء سلام دائم بين روسيا وأوكرانيا.
3- تقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين المدنيين من الحرب: عملت بعض دول الشرق الأوسط على الإسهام في تخفيف الآثار الإنسانية الناجمة عن الحرب، وبرزت تلك التحركات من قبل دولتين رئيسيتين في الإقليم، وهما السعودية والإمارات. ففي 15 أكتوبر 2022، أعلنت السعودية عن تقديمها مساعدات إنسانية لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار، بما يسهم في التخفيف من معاناة المواطنين الأوكرانيين.
كما أعلنت الإمارات في 2 مارس 2022 عن تقديم مساعدات إغاثية للمدنيين المتضررين من أوكرانيا بقيمة 5 ملايين دولار، كاستجابة لنداء الأمم المتحدة وخطة الاستجابة الإقليمية للاجئين في أوكرانيا. ووفقاً للبيان الصادر عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية، فقد أكدت الإمارات أهمية التركيز على الوضع الإنساني المتدهور للمدنيين وضمان حمايتهم، وكذلك إتاحة دخول الوكالات الإنسانية، وإنشاء ممرات آمنة، والسماح لأي شخص يرغب بالمغادرة بأن يفعل ذلك دون تمييز أو عوائق، كما ورد في بيان دولة الإمارات، وما تمت مناقشته خلال اجتماع مجلس الأمن الذي انعقد بتاريخ 28 فبراير الماضي بشأن الوضع الإنساني في أوكرانيا.
وفي 7 مارس 2022، أرسلت الإمارات طائرة مساعدات تحمل 30 طناً من المواد والإمدادات الإغاثية والطبية لإغاثة المتضررين المدنيين، وهي ضمن إجمالي أطنان المساعدات التي بلغت 360 طن بنهاية عام 2022. وأمر رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد في 18 أكتوبر 2022 بتقديم 100 مليون دولار لمساعدة الأوكرانيين المدنيين المتضررين من الأزمة الأوكرانية. فضلاً عن توجيه مساعدات إغاثية وسيارات إسعاف ومولدات كهربائية منزلية (تتراوح بين 3.5 كيلو واط إلى 8 كيلو واط) للاجئين الأوكرانيين في بولندا ومولدوفا.
وفي هذا السياق، تشير تصريحات ريما الهاشمي وزيرة دولة لشئون التعاون الدولي إلى أن هذه المساعدات لأوكرانيا "تأتي انطلاقاً من إيمان دولة الإمارات بأهمية التضامن الإنساني خاصة في حالات النزاعات، وتندرج ضمن جهود الدولة المستمرة في التخفيف من التداعيات الإنسانية للأزمة الأوكرانية".
4- تزايد الطلب على تصدير الطاقة للدول الأوروبية: كانت دول الخليج أحد الأطراف المستفيدة من تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، لا سيما بعد ارتفاع أسعار النفط، وعدم الامتثال للضغوط الأمريكية الرامية لزيادة إنتاج براميل النفط بما يؤدي إلى خفض الأسعار ضمن قرارات "أوبك بلس" مع رفضها وضع حد لأسعار النفط والغاز على المنتجين ومن بينهم روسيا. وبدلاً من هذا، سعت الدول الأوروبية لعقد شراكات واتفاقيات مع دول الخليج واتضح ذلك في "قمة جدة للأمن والتنمية" التي عقدها الرئيس الأمريكي جو بايدن مع دول عربية وخليجية في الرياض في منتصف يوليو 2022 وبحثت مسألة إنتاج النفط.
كما تزايد الطلب الأوروبي على استيراد الغاز من الجزائر كأحد البدائل المطروحة للغاز الروسي بعد الحرب، كونها -أي الجزائر- تشغل المركز الثالث في إمداد أوروبا بالغاز بعد روسيا والنرويج، وهو ما يفسر الزيارات المختلفة التي قام بها مسئولون فرنسيون وإيطاليون وغيرهم من نظرائهم الأوروبيين إلى الجزائر خلال الأشهر الماضية، على نحو استغلته الجزائر في سياق بحثها عن دور إقليمي في جنوب أوروبا، بحيث غيرت الجزائر اتجاهها الاستراتيجي لتكون إيطاليا اعتباراً من 26 مايو 2022، المُوِّزع الحصري للغاز في أوروبا، بعد أن كانت شريكة في هذا الأمر مع أسبانيا، غير أن تبني مدريد، في أواخر مارس 2022، مبادرة "الحكم الذاتي" المقترحة منذ عام 2007، من جانب المغرب لإيجاد تسوية لمشكلة الصحراء الغربية، أسهم في حدوث أزمة دبلوماسية حادة بين الجزائر وأسبانيا.
علاوة على محاولة الجزائر تصدر المشهد كفاعل إقليمي، بالنسبة لدول جوارها الجغرافي، في شمال أفريقيا والساحل الأفريقي، لا سيما في ظل تهديدات تواجهها على شاكلة انهيار الدولة في ليبيا، وطول وتعقد المرحلة الانتقالية في تونس لدرجة وصلت إلى حد "المتاهة"، فضلاً عن المشكلات المثارة مع المغرب، وخاصة موقفها من قضية الصحراء. وفي الوقت نفسه، تعمل الجزائر على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة بروسيا باعتبارها المصدر الرئيسي للتسليح العسكري للجزائر دون أن يكون ذلك سبباً لتوتر حاد في علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، على نحو يجعل القيادة السياسية بالجزائر مدركة لمعضلة "التوازن الحرج".
5- الانخراط الميداني "الإيراني" في المواجهات العسكرية عبر الطائرات المسيرة: يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن الحرب الروسية-الأوكرانية انتقلت تأثيراتها العسكرية إلى منطقة الشرق الأوسط، نظراً للاعتماد الروسي على الطائرات المسيرة "الإيرانية" والصواريخ الباليستية بشكل مكثف في الهجمات على المدن الأوكرانية، واستهداف مواقع استراتيجية أو منشآت بنية تحتية قوية مثل المطارات ومحطات الكهرباء وشبكات الاتصالات، فضلاً عن حضور لمستشاري الحرس الثوري على الرغم من النفي الإيراني الرسمي لدعم أي من طرفي الحرب.
وهنا، يمكن القول إن إحدى الدلالات الرئيسية للدعم الإيراني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا هى حرص طهران على إرسال إشارة لمناكفة الولايات المتحدة الأمريكية، وتمدد الخطر الإيراني من الشرق الأوسط إلى أوروبا، وهو ما يفسر تراجع الاتحاد الأوروبي عن تصنيف الحرس الثوري "منظمة إرهابية" بعد إعلانه عن السير في هذا الاتجاه في سياق تعديل التقرير السنوي حول تنفيذ السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، قال النائب إسماعيل كوثري عضو في لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني (كما أنه عضو بارز في الحرس الثوري) في 18 يناير 2023: "يمكن لمؤامرة الاتحاد الأوروبي ضد الحرس أن تسفر عن عواقب"، وأضاف: "إذا نفذوا هذه المؤامرة. فنحن نعلم أيضاً ما يجب فعله، لأن هذا الإجراء لن يقيد الحرس الثوري فحسب، بل سنشهد أوضاعاً أخرى"، وتابع: "إذا كانوا يريدون العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة والتفاوض مع إيران، فإنهم يعرفون أن مثل هذه الإجراءات يمكن أن تغلق الباب أمام أي حوار ومفاوضات".
ومن ثم، فإن اشتراك إيران في تلك الحرب يحقق لها عدة أهداف أبرزها إضعاف الهيمنة الغربية وتعزيز الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، ورغم التباين معها في بعض الملفات الإقليمية لكن تعثر أو فشل روسيا في حربها يضعف من نفوذ إيران، في المفاوضات النووية مع الدول الغربية، أما في حال دعم روسيا فستصبح إيران فاعلاً رئيسياً في مسار الحرب الأوكرانية. إذ ترى إيران أن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا قد يؤدي إلى صرف أنظار الدول العربية عن أجندتها التوسعية في الإقليم، في حين أن هناك اتجاهاً مقابلاً يرى أن هذا التصور قد يقود إلى سياسة أكثر تشدداً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها إزاء إيران، لا سيما أنه يبعث برسائل مختلفة للحلفاء والخصوم في آن واحد.
بعبارة أخرى، تحاول إيران عبر مشاركتها في هذه الحرب أن تعيد إنتاج المكاسب التي حصلت عليها في حرب أفغانستان (2001) وغزو العراق (2003)، إذ تطرح نفسها كشريك موثوق به من خلالها دعمها لروسيا من ناحية، وطرح نفسها كمصدر لضخ إمدادات الغاز إلى الدول الأوروبية كمدخل لاستئناف المحادثات النووية على أسس جديدة من ناحية ثانية، وتعزيز موقعها في خريطة التوازنات الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط التي بدأت تميل لصالح أدوار إقليمية مناوئة لها من ناحية ثالثة.
6- الإشراف على دعم تطبيق وتمديد اتفاق نقل الحبوب بين روسيا وأوكرانيا: عكست تلك الحرب خطورة توافر كميات محددة من الأمن الغذائي على المستوى الدولي، مما يستلزم دعم الاتفاقيات التي من شأنها تسيير تصدير الغذاء. وفي هذا السياق، توسطت قوى إقليمية، لا سيما تركيا، بالاشتراك مع الأمم المتحدة في 21 يوليو 2022 لإتمام اتفاق الحبوب الذي أبرمته موسكو مع كييف، حيث أنهما يعدان أكبر مصدرين للحبوب وتحصل الدول العربية منهما على جزء كبير من احتياجاتها بحيث يتم فتح الموانئ الأوكرانية لتصدير الأطنان من الحبوب العالقة على البحر الأسود، وهو اتفاق إنساني وفق صيغة "رابح رابح" على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش.
وقد وقع وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو عن الجانب الروسي، في حين وقع وزير البنية التحتية أولكسندر كوبراكوف عن الجانب الأوكراني. واستغرقت المفاوضات بشأنه مدة شهرين، وتم إنشاء مركز للتنسيق والمراقبة في اسطنبول، يعمل به أتراك وروس وأوكرانيون ومسئولون من الأمم المتحدة. ونصت بنود الاتفاق على عدم استهداف روسيا الموانئ أثناء مرور الشاحنات، وقيام السفن الأوكرانية بتوجيه سفن الشحن عبر المياه الملغمة، وقيام تركيا بدعم من الأمم المتحدة، بتفتيش السفن لتهدئة مخاوف روسيا من تهريب الأسلحة. واستمر الاتفاق سارياً لمدة 120 يوماً، وتم دعم تمديده في نوفمبر 2022 بعد انتهائه.
ولعل ذلك الاتفاق عزز من مكانة تركيا في العالم باعتبارها الوسيط الرئيسي لإنفاذه وتمديده. وفي هذا السياق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه "يأمل أن تكون هذه الصفقة هي الخطوة الأولى نحو إنهاء الحرب"، مشيراً إلى أنه "يفخر بإطلاق هذه الاتفاقية التي ستلعب دوراً كبيراً في حل أزمة الغذاء العالمية".
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الحرب الروسية-الأوكرانية أثبتت محورية الوساطة التركية بين موسكو وكييف، فضلاً عن أبعاد أخرى تتعلق بضوءها الأحضر الرافض لعضوية فنلندا والسويد في حلف الناتو، وتوفير الصناعات الدفاعية بأسعار مقبولة، ودورها الرئيسي في ضبط حركة اللاجئين والمهاجرين إلى الدول الأوروبية، والجالية التركية الكبيرة في ألمانيا، الأمر الذي يفسر المساعدات الكثيفة التي توجهت إلى تركيا في أعقاب الزلزال الذي تعرضت له في 6 فبراير الجاري.
خلاصة القول، إن الحرب الروسية-الأوكرانية تبرهن لعدد من دول الإقليم أن العقبة قد تكون هي الطريق، وأنه يمكن توظيف القيود التي تفرضها الأزمات والحروب التي تندلع في مناطق جغرافية بعيدة نسبياً عن ساحة الشرق الأوسط لتكون فرصاً يمكن اغتنامها بأشكال مختلفة، بما يحقق المصالح الوطنية لكل دولة على حدة سواء تعلقت بمكاسب جيوسياسية أو مقايضات استراتيجية أو عوائد مالية أو تعزيز صور ذهنية على المستوى الدولي.