تشهد العلاقات عبر الأطلسي تحولات استراتيجية مهمة، قد تُسهم في الغالب فى إعادة تشكيل ملامحها على أسس جديدة في ظل واقع دولي شديد التغير؛ يتسم بتراجع ملحوظ في النفوذ الأمريكي عالميًا، وظهور قوى وتكتلات دولية تقارع النفوذ الأمريكي، وتنافسه في نظام دولي متعدد الأقطاب، مازال في مرحلة التشكُّل.

وللعلاقات الأوروبية - الأمريكية جذور عميقة تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال دعم الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب عبر مشروع مارشال، ناهيك عن تعزيز الأمن الأوروبي عبر تأسيس حلف الناتو ودعم توسعه، في إطار دعم وحدة أوروبا من خلال تشكيل الاتحاد الأوروبي. تأسيسًا على ذلك، وصلت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين إلى أقصى مدى، لتصبح “الأكثر تكاملًا في العالم”، كما تمثل اقتصادات الطرفين ثلث التجارة العالمية في السلع والخدمات، وما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي من حيث القوة الشرائية. كما أصبحت الولايات المتحدة في الوقت الحالي أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي.

برغم ذلك، تبنَّت الولايات المتحدة، بعد انتهاء الحرب الباردة، استراتيجية في التعامل مع الاتحاد الأوروبي بصفته “شريكًا خصمًا”؛ بهدف استمرار سيطرتها على أوروبا. ففي حين دعَّمت تكامل الاتحاد على المستوى الاقتصادي، ثبَّتت نفسها في الوقت ذاته داخل أوروبا بصفتها ضامنًا للأمن الأوروبي، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الخطر السوفييتي. وقد ساهم ذلك في إضعاف القرار السياسي الأوروبي وعرقلة أي محاولات لتشكيل قوة أوروبية موحدة أو جيش مشترك برغم الدعوات المتكررة لذلك.

وفي السنوات الأخيرة، واجهت العلاقات عبر الأطلسي صعوبات جمَّة؛ وصلت مداها في عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي تبنَّي سياسات معادية تجاه الاتحاد الأوروبي، ودعم النزعات الانفصالية لتفكيك الاتحاد، التي أسهمت بشكل جزئي في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “البريكست”، كما تبنَّى -بالتوازي- لغة خطاب شديدة العدائية تجاه الحلفاء الأوروبيين، وصلت إلى حد وصف الاتحاد الأوروبي بأنه “عدو”، مما أحدث اختلالات خطيرة في العلاقات عبر الأطلسي، وعزز التباين، حتى في طبيعة القيم التي من المفترض أن أوروبا والولايات المتحدة يتبنياها بشكل مشترك، مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والليبرالية، غيرها.

وبينما تنفسَّت أوروبا الصعداء في عام 2020 مع وصول مرشح الحزب الديمقراطي المؤيد لأوروبا، جو بايدن، للسلطة في الولايات المتحدة، وبرغم الخطوات الإيجابية التي اتخذها الأخير لاستعادة العلاقات عبر الأطلسي، سرعان ما تراجع هذا التفاؤل مع وقوع صدمات جديدة، مثل: الانسحاب المنفرد من أفغانستان، وأزمة الغواصات الفرنسية، وتحالف أوكوس، وتبعات الحرب الروسية في أوكرانيا، وتصاعد أزمة الطاقة والتضخم في أوروبا، وبروز أزمات اقتصادية متعددة، تزامنت مع التباين في الرؤى الاستراتيجية بين أوروبا والولايات المتحدة تجاه الصين.

بالتزامن مع التغيرات الحادثة في النظام الدولي، ربما في بنيته، وكذلك خصائصه، مع تراجع الثقل الأمريكي العالمي، وبالتزامن مع تصاعد رغبة الاتحاد في لعب دور أكبر موازٍ لثقله الاقتصادي على الساحة الدولية، أصبحت العلاقات عبر الأطلسي مثارًا للجدل والتوتر المتزايد حاليًا، بما قد يهدد مستقبلها في ضوء العديد من المتغيرات الأخرى.

وتأتي هذه الدراسة كمحاولة للإسهام في تعميق فهم العلاقات عبر الأطلسي، وذلك باستعراض تأسيسها التاريخي وتطورها ومدى تداخلها الحالي، وكذلك مهدداتها، والذي ربما يُعيد تشكيلها على أسس جديدة، أو قصرها على الجوانب الأقل إثارة للخلافات، وهو أمر أصبح نادرًا في علاقات الطرفين.

بناءً على ذلك، تنقسم الدراسة إلى محاور أساسية عدة، فتبدأ باستعراض جزء تاريخي مختصر للعلاقات لفهم بعض التطورات الحالية ومآلاتها المحتملة. بعدها، يتم استعراض طبيعة المصالح الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، لتبيان مدى عمق هذه العلاقات.

واستدراكًا للمصالح، سيتم توضيح مهددات العلاقات عبر الأطلسي في الجزء الثالث من الدراسة، بالتركيز على المهددات الخاصة بالسياسات الاقتصادية، خاصةً في التعامل مع الصين، والخلاف بشأن روسيا، والمعضلة المحورية المتمثلة في الأمن الأوروبي وتباين الرؤى بشأنه. بعد ذلك، تستعرض الدراسة بُعدًا جديدًا في العلاقات عبر الأطلسي، يرتبط بكيفية نظر كل طرف للآخر، وانعكاسات ذلك على علاقات الطرفين حاليًا أو مستقبلًا، وهو الجزء الذي عنونته الدراسة بـ“معضلة الإدراكات المتباينة”.

أما الجزء الختامي، فيتناول التصورات المستقبلية للعلاقات، التي يمكن القول إنها ترتبط بخمسة متغيرات رئيسية؛ هي حدود رغبة وقدرة الطرفين في إعادة تأسيس العلاقات، ومصير الحرب الروسية - الأوكرانية الجارية حاليًا، ومساحة التغير في الاستراتيجية الأمريكية التقليدية تجاه الاتحاد الأوروبي، الذي يوازيه تغيرًا محتملًا في النظام الدولي، وكذا مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على توحيد مواقف وسياسات أطرافه، وأخيرًا ماهية الشخص الذي سيسكن البيت الأبيض بعد بايدن في عام 2024.