السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

كارثة الزلزال الأخير الذي وقع في تركيا وسوريا، في 6 فبراير الجاري (2023) وما خلفته من ضحايا ودمار ما زالت لم تتضح معالمه النهائية بعدما كانت الحلقة الأحدث في سلسلة الكوارث الطبيعية المتوالية والآخذة في التزايد في العقود الأخيرة. لا تُفرِّق تلك الكوارث بين دول غنية وأخرى فقيرة، وتتنوع بين زلازل وفيضانات وأعاصير وموجات مد بحري وانزلاقات التربة وغيرها. هذه الكوارث، وإن كان تعامل السلطات المحلية معها في المقدمة، إلا أن التعامل الخارجي معها له أهمية كبيرة. وتزداد هذه الأهمية في حال وقوع تلك الكوارث في دول ومناطق محدودة الموارد.

والملاحظ أن التعامل الدولي مع الكوارث الطبيعية قد ازداد على صعيد الإدراك وصياغة القواعد وكذلك سرعة الاستجابة من قبل المنظمات والهيئات الدولية المعنية إجمالاً. لكن تبقى هناك قضايا كثيرة تمثل إشكاليات أو معضلات يمكن وصف الكثير منها بالهيكلية. فما هي أبرز هذه الإشكاليات؟ وهل من سبل للتغلب عليها؟.

جغرافية الكوارث الطبيعية

يمكن القول إن الكوارث الطبيعية تطال كل قارات العالم ومناطقه، بل وربما لم تترك دولة واحدة دون أن يكون لها نصيب منها، قل أو كثر، تقارب أو تباعد زمن حدوثها، أياً كان نوع هذه الكوارث. ويمكن للمرء فقط أن يتذكر في الشهور الأخيرة ما الذي فعلته الفيضانات في باكستان، وكذلك الزلزال في أفغانستان، والعواصف والأعاصير التي تضرب الأمريكتين. ويمكن أن يضاف الكثير والكثير مثل موجات الجفاف خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء، وتراجع معدلات المياه في بعض البحار والبحيرات والمثال الأبرز لها بحر آرال في آسيا الوسطى. والانهيارات الأرضية، وحرائق الغابات.

وفي بعض الحالات، تأتي الكوارث الطبيعية على أناس يعانون من كوارث من صنع البشر جراء نزاعات وصراعات مسلحة غالباً ما تكون مصحوبة بعمليات نزوح ولجوء واسعة كما هو الحال بالنسبة للسوريين وكذلك الروهينجيا الفارين من ميانمار والذين يعيشون في مخيمات في بنجلاديش.

كما أن الكوارث الطبيعية لا تُفرِّق بين دول غنية ودول فقيرة. وفي الثانية يكون الوقع أسوء بكثير، حيث شح الموارد، وضعف البنية الأساسية، وقلة التجهيزات، وضعف القدرات. وتتضاعف تداعيات الكارثة في حال كانت عنيفة، والمثال الأبرز لذلك زلزال هاييتي في يناير من العام 2010 والذي قتل وشرد مئات الآلاف. إذ قدر عدد القتلى وحدهم بحوالي 220 ألف شخص.

كما أن هناك مناطق تتعرض للكوارث على فترات متقاربة. وعلى سبيل المثال، فإن هاييتي نفسها كان من بين الزلازل التي ضربتها ذلك الذي وقع في أغسطس من العام 2021 وأدى لخسائر بشرية وإن كانت أقل بكثير من الزلزل المذكور آنفاً، إلا أن الخسائر تظل مرتفعة، علماً بأن عمليات إعادة الإعمار من الزلزال الأول لم تكتمل بعد، والجروح لم تندمل.

الكوارث الطبيعية في العالم على انتشارها فإن بعضها قد يتركز في بعض المناطق دون غيرها. إذ توجد مناطق ذات نشاط زلزالي، وأخرى تتعرض بشكل دوري لفيضانات وأعاصير. ومن ثم فإن من المفترض أن تكون هناك حالة من التعايش مع تلك الكوارث، بما في ذلك الاستعدادات لها قبل وقوعها، وبالتالي التعامل معها حال نشوبها، ويلي ذلك معالجة آثارها.

 كل ذلك قد يكون منظماً وميسوراً في الدول المتقدمة والميسورة مثل الولايات المتحدة واليابان. وعلى سبيل المثال، فإن الأخيرة عندما ضربتها الكارثة الثلاثية في شهر مارس من العام 2011 والتي بدأت بزلزال توهوكو الكبير، ومن ثم موجات المد البحري (تسونامي)، ثم الدمار الذي طال محطة فوكوشيما النووية كان لدى اليابان القدرة على رصد الأموال اللازمة على مدار سنوات للتعامل مع الكارثة وتداعياتها، كما أن قدراتها العلمية والفنية وُظِّفت خير توظيف وما زالت، وأجهزة التعامل مع الكوارث قامت بما هو مطلوب منها، فضلاً عما قامت به قوات الدفاع الذاتي، وكذلك المجتمع المدني.

 ولم تكتف اليابان بكل ذلك، بل سارعت لعقد مؤتمرات دولية لبيان سبل الاستفادة مما حدث لديها. مثل هذه القدرات ليست متاحة بطبيعة الحال لكل دول العالم. ومن ثم فإنه في الحالة اليابانية كانت معظم المساعدات الخارجية رمزية، حيث العبء الأساسي قامت به الجهات المحلية المعنية. بينما في حالات أخرى قد تكون المساعدات الخارجية هي الأساس في ظل قلة أو حتى انعدام القدرات المحلية الوطنية ومرة أخرى كانت حالة هاييتي مثالاً حياً على ذلك.

الكثير من الكوارث الطبيعية في العالم تحدث بشكل مفاجئ ودون سابق إنذر أو بإنذار ضئيل من حيث الوقت. والأمثلة الأبرز لذلك هي الزلازل، وما يعقبها من هزات قد تكون عنيفة أيضاً، وما قد يتلوها من موجات مد بحري. وقد كان ذلك ماثلاً في حالة زلزال اليابان المشار إليه، ومن قبل كارثة زلزال وتسونامي المحيط الهندي في ديسمبر من العام 2004 والتي ضربت مساحة شاسعة من دول جنوب شرقي آسيا وجنوبي آسيا.

وقد أدت الكارثة الأخيرة إلى وفاة حوالي 227 ألف شخص في 14 دولة، علماً بأن الأضرار ومن ثم الضحايا كانت مركزة في أربعة دول هي أندونيسيا وتايلاند والهند وسريلانكا. وعلى ضوء المعلومات المتاحة عن تلك النوعية من الكوارث على مدار قرن كامل، فإن تلك الكارثة هي الأقسى، حيث حدث خلال تلك المئة سنة 58 كارثة تسونامي كانت حصيلتها حوالي 260 ألف قتيل.

قسوة بعض الكوارث وحدتها تؤدي ليس فقط إلى فقد الآلاف من الأرواح، وإنما إلى تشريد أعداد مضاعفة من السكان، ناهيك عن الدمار الهائل الذي يصيب المباني والبنية الأساسية والتربة. وعلى سبيل المثال، فإن كارثة اليابان المشار إليها قد كلفت- وفق بعض التقديرات- حوالي 285 مليار دولار.

 وفي فيضانات باكستان الأخيرة، كان عدد البيوت المهدمة مهولاً. وفي أحد التقديرات، فإن تكلفة الدمار الذي أحدثه الفيضان وصلت إلى حوالي 15 مليار دولار، فضلاً عن مبلغ مماثل قدر كخسائر اقتصادية.

الملاحظ أيضاً وفقاً للدراسات العلمية والجهات المعنية برصد الكوارث الطبيعة أنها في تزايد. وتساق أسباب كثيرة لتزايد معدلات وقوعها، من بينها التغيرات المناخية. كما أن هناك تحذيرات من مخاطر أخرى قد تؤدي إلى كوارث لاحقاً، من بينها ارتفاع منسوب مياه البحار، وذوبان الثلوج.

 وقد خصص مجلس الأمن مؤخراً جلسة لمناقشة انعكاسات قضية ارتفاع منسوب مياه البحار على السلم والأمن الدوليين. وعلى سبيل المثال، فقد تضاعف عدد الفيضانات في العالم ثلاث مرات في السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، مقارنة بعقد الثمانينيات من القرن العشرين. وهناك تقديرات تذهب إلى أن نسبة التزايد في الكوارث الطبيعية قد بلغت حوالي 600% منذ العام 1950 وحتى العام 2010. ومعدل التزايد هذا مخيف جداً.

 وفي القارة الآسيوية، تطور الأمر على النحو التالي: 617 كارثة في الفترة من 1980- 1989، و948 كارثة في الفترة من 1990 – 1999، وفي الفترة من 2000 - 2009 قفز عدد الكوارث إلى 1425. وقد خلّفت تلك الكوارث قتلى على النحو التالي: 97 ألف، و339 ألف، و651 ألف في الفترات المذكورة تباعاً.

 ربما يجادل البعض بأن عمليات الرصد في الماضي لم تكن بنفس الدقة، ومن ثم فإن معدلات التزايد في أعداد الكوارث قد يكون مبالغاً فيها. لكن يبقى أن هناك تزايداً مخيفاً ليس فقط في الكوارث وإنما في حدتها، وتداعياتها الإنسانية والمادية رغم كل ما بلغته البشرية من تقدم تكنولوجي، ورغم كل ما يتخذ من احتياطات وترتيبات.

ثنائيات الاستجابة الدولية للكوارث الطبيعية

يمكن القول إن هناك عدداً من الثنائيات التي تحكم الاستجابة الدولية للكوارث الطبيعية. ومن هذه الثنائيات تبرز مجموعة من الإشكاليات. وليس بالضرورة أن تبرز تلك الإشكاليات في كل الحالات. من بين هذه الثنائيات: النداءات والاستجابات، والطارئ والمستمر، والتمويل بين الكفاية والعجز، والجهود والقيود، والسياسي والإنساني.

من الملاحظ أنه بعد كلمات التعزية والدعم ورصد بعض الأموال الطارئة، يتم إطلاق النداءات الخاصة بالتمويل. وقد كان ذلك واضحاً أشد الوضوح في زلزال سوريا وتركيا، فالأمم المتحدة وعلى لسان كبار مسئوليها أبدت كل ما يمكن من مشاعر التعاطف، وقام بعض مسئوليها بزيارة المناطق المنكوبة، وتم رصد مبلغ 50 مليون دولار من صندوق الاستجابة للطوارئ في المنطمة الدولية.

وبعد ثمانية أيام من الزلزال، أطلق الأمين العام للأمم المتحدة انطونيور غوتيريش نداءاً إنسانياً بقيمة 397 مليون دولار لصالح المتضررين في سوريا، علماً بأن هذا المبلغ من المفترض أنه يغطي الحاجات الإنسانية للمتضررين لمدة ثلاثة أشهر فقط. وبعد يومين من النداء الخاص بسوريا، أطلق الأمين العام للمنظمة نداءاً آخر بقيمة مليار دولار هذه المرة ولتغطية ذات الاحتياجات بالنسبة للمتضررين من الزلزال في تركيا ولنفس فترة الأشهر الثلاثة.

مثل هذه النداءت على أهميتها، إلا أنها غالباً ما تكون أوّلية على ضوء ما تكشف من أهوال الكارثة، وقد لا يمر وقت طويل حتى يتم رفع سقف المبالغ المطلوبة. وقد حدث ذلك في حالة الفيضانات في باكستان، عندما رفعت الأمم المتحدة سقف ندائها من 160 مليون دولار إلى 816 مليون دولار.

 وشتان ما بين المبلغ الأول والثاني، لكن يظل السؤال المطروح: هل يتم الاستجابة لتلك النداءات؟. لا شك تكون هناك استجابات. ويبقى السؤال: هل تكون الاستجابات مكافئة لما تضمنه النداء من أموال؟.

معظم التجارب تشير إلى أن الاستجابات على الأغلب لا ترقى لمستوى النداءات. وليس أدل على ذلك من الإعلانات المتوالية من قبل الهيئات الدولية التابعة للأمم المتحدة عن عجز في التمويل تعانيه في الكثير من المناطق التي تعمل بها. وتكفي الإشارة هنا إلى ما ذكره مكتب الأمم المتجدة لتنسيق الشئون الإنسانية في شهر سبتمبر من العام الماضي (2022) من أن متطلبات التمويل الإنسانية قد بلغت في ذلك العام 49,5 مليار دولار، بينما لم يتم جمع إلا 17,6 مليار دولار. أي أن هناك عجزاً بقيمة 32 مليار دولار، بما يعني أن نسبة ما تم الوفاء به لم تزد عن 35,5% مما هو مطلوب، أي أن نسبة العجز حوالي تبلغ ثلثي ما هو مطلوب.

هذه الإشكالية المتواصلة مردها إلى الطابع التطوعي الذي تحمله الاستجابات للنداءات أولاً، ومن ثم عدم الالتزام بما تم التعهد به بشكل تام. وهذا قد يعود إلى اعتبارات كثيرة منها تراجع زخم الاهتمام، وبروز أولويات أخرى لدى المتعهدين. وأضف إلى ذلك أن من أطلق التعهد لا يملك أي سلطة لإجبار المتعهدين على الوفاء بتعهداتهم، وغاية ما يمكن فعله التنبيه إلى خطورة المشكلة والحث على تقديم ولو جزء من التعهدات حتى لا تقف عمليات الإغاثة تماماً في بعض المناطق.

بالنسبة للجهود على الأرض في منطقة الكارثة، قد تكون هناك قيود كثيرة تحد من فاعليتها أو حتى القيام بما هو كافٍ منها. وقد تكون هذه القيود طبيعية كأن تكون الكارثة ذات مدى واسع جداً، أو أن يكون الوضع معقداً بسبب حجم الدمار. وقد تكون بسبب قيود من نوع آخر فرضتها تعقيدات صراعات ممتدة كما هو الحال في سوريا. فهؤلاء الذين ضربهم الزلزال هو بالأساس منكوبون منذ سنوات. وما يصلهم من مساعدات يخضع لمساومات بين الدول الكبرى، وتطال هذه المساومات مسألة فتح المعابر من عدمها. ولعل ما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة في هذا السياق يلخص الكثير من الأمور، حيث قال إن "المعاناة الإنسانية الناجمة عن هذه الكارثة الطبيعية الهائلة، يجب ألا تتفاقم بسبب عوائق من صنع البشر مثل صعوبة الوصول الإنساني ونقص التمويل والإمدادات. يتعين ضمان مرور المساعدات من كل الجهات إلى جميع الجهات عبر كل الطرق بدون أي قيود".

فهل لهذا الرجاء أن يتحقق في ظل هذا الواقع المعقد سياسياً وفي ظل تداخل ما هو إنساني مع ما هو سياسي؟. فتلك أرض تسيطر عليها الحكومة وأراضٍ أخرى تقع خارج نطاق سيطرتها، وهناك تهم توجه لهذا الطرف وذاك بالنسبة لتعطيل وصول المساعدات. والخارج أيضاً ليس بمنأى عن سهام النقد على خلفية هذا الملف. وقد وصل الأمر بواحد من كبار مسئولي الأمم المتحدة إلى الإقرار بخذلان المجتمع الدولي للمتأثرين بالزلزال في شمال غربي سوريا، وأن الناس هناك محقون في الشعور بتخلي المجتمع الدولي عنهم، مشيراً إلى فشل دولي يجب تداركه.

ثنائية السياسي والإنساني تطرح مسائل معظمها ماثل في الحالة السورية ومنها مسألة العقوبات، وخاصة التي تفرض بعيداً عن قرارات لمجلس الأمن الدولي. وقد كان المندوب الصيني واضحاً عندما أشار في المجلس عند مناقشة قضية الأطفال والنزاعات المسلحة عندما قال: "إنه في أعقاب الزلازل القوية التي ضربت سوريا، أدت العقوبات غير القانونية الأحادية الجانب إلى نقصٍ حاد في المعدات الثقيلة وأدوات البحث والإنقاذ، مما أثار مخاوف كبيرة من أن العديد من الأطفال تحت الأنقاض ربما لقوا حتفهم نتيجة غياب الإنقاذ المبكر أو الإنقاذ غير الكافي".

 ولم يكتف المندوب الصيني بالمطالبة بالوقف الفوري لما اعتبره عقوبات غير قانونية، وإنما طالب بعدم التورط في إذكاء الكارثة الطبية، ووصل إلى المطالبة بالكف عن المواقف السياسية التي وصفها بالنفاق.

متطلبات تفعيل التعامل الدولي مع الكوارث الطبيعية

من الواضح أن الكوارث الطبيعية باتت أكثر عدداً وكثافة وانتشاراً وأشد قسوة. ومن الواضح أيضاً أن هناك تعقيدات كثيرة تطال التعامل الدولي مع تلك الكوارث، مما يجعل من التفكير في طرق وآليات لجعل هذا التعامل أكثر فعالية أمراً ملحاً.

على هذا الصعيد، يمكن طرح بعض القضايا عبر مناقشة بعض الأسئلة، ومن بينها: هل يمكن أن تنتقل مساهمات الدول في التعامل مع الكوارث الطبيعية من التطوعية إلى الإلزامية؟، هل بالإمكان تحييد القرارات الدولية الخاصة بالتعامل مع الكوارث عن الاعتبارات السياسية؟، هل ثمة حاجة إلى مؤسسة دولية مستقلة معنية بالتعامل مع الكوارث الطبيعية؟.

فيما يتعلق بمساهمات الدول في التعامل مع الكوارث الطبيعية، فإنه لابد من التفرقة ابتداءاً بين مستويين: الأول، ما يتعلق بما تقوم به دولة ما من جهد مباشر عبر إيصال المساعدات العينية وإرسال الفرق الطبية أو حتى تقديم المساعدات المادية إلى المناطق المنكوبة، سواء كان ذلك عبر تقديمه مباشرة إلى السلطات المعنية في الدولة المنكوبة أو إلى بعض الجمعيات الأهلية التي تعمل بشكل رسمي في تلك الدولة. والثاني، هو ما تقدمه الدول من تبرعات وبالأخص المالية إلى المنظمات والهيئات الدولية التي تساهم في التعامل مع الكوارث الطبيعية. ومن بين هذه الوكالات كل من برنامج الأغذية العالمي، ومفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة، ومنظمة الصحة العالمية واليونيسيف، واليونسكو، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، والأونروا، ومكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية.

 وقد نشطت هذه الوكالات على الأرض في حالة زلزال تركيا وسوريا. ولم تقف مطالباتها بالتبرع على الدول، وإنما فتحت الباب أمام الأفراد. وهنا تطرح مسألة أخرى فيما يتعلق بدور الأفراد والشركات في مثل هذه الحالات تحتاج إلى نقاش مستقل.

وبالعودة إلى المستوى الثاني من المساهمات: هل بالإمكان جعله إلزامياً؟. من الناحية النظرية هذا ممكن. ومن أبرز سبله أن يتم اقتطاع جزء معلوم من مساهمات كل دولة في ميزانية الأمم المتحدة لصالح التعامل مع الكوارث الطبيعية. لكن على أرض الواقع لن يسلم هذا من عقبات، من بينها مدى قبول الدول بزيادة قيمة مساهماتها في ميزانية الأمم المتحدة. ثم إذا ما قبلت يأتي الاتفاق على النسبة التي تراها مقبولة لكي تخصص لهذا الغرض.

وبطبيعة الحال، فإن إقرار مثل هذه التعديلات سوف يخضع لضغوط ومساومات. وقد يقال إن من الأفضل ترك الأمر على ما هو عليه لأنه حتى لو أقر ما هو مقترح قد تحتاج الكارثة لما هو أكثر من المتاح لدى المنظمة الدولية جراء تحصيل أنصبة الدول، هذا إذا التزمت الدول بدفع أنصبتها، وتلك قضية أخرى في حال أقر هذا النظام.

 لكن يبقى القول أن إقرار مثل هذا النظام لا يغلق باب التبرعات أمام الدول. إلا أن مثل هذا النظام من شأنه أن يرفع من الحد الأدنى المطلوب للتعامل مع تلك النوعية من الكوارث. وقد تطرح مسألة أخرى على هذا الصعيد، تتمثل في التفرقة بين الكوارث الطبيعية والكوارث المرتبطة بنزاعات وصراعات مسلحة دولية أو داخلية، خاصة تلك التي تمتد لسنوات.

فيما يتعلق بتحييد القرارات الدولية للتعامل مع الكوارث الطبيعية عن الحسابات السياسية للدول، فإن الأمر في غاية الصعوبة في ظل التركيبة المؤسسية للأمم المتحدة وطريقة صنع القرار فيها. لكن تبقى المسألة مهمة وفي حاجة إلى جهد لربما تم التوافق على قواعد. وقد يكون من بينها تعيين لجنة خبراء مستقلة ودائمة يناط بها اتخاذ قرارات التعامل مع الكوارث الطبيعية. الأمر ليس هيناً أيضاً، حيث أن مسألة تشكيل مثل هذه اللجنة من حيث انتماءات أعضائها جغرافياً، والقواعد التي ستسترشد بها عند اتخاذ القرارات، ثم حجية وإلزامية هذه القرارات لكافة دول المنظمة. ومرة أخرى لابد من وجود ضمانات لحجية قرارات مثل هذه اللجنة.

ربما ينظر البعض من زاوية أخرى أكثر اتساعاً بالنسبة لمسألة التسييس، بحيث يطالبون بأن تكون قضية التعامل الدولي مع الكوارث الطبيعية في قلب القضايا السياسية وليست بعيداً عنها. إذ تتم التفرقة بين الاهتمام السياسي ومعايير اتخاذ ما يلزم من قرارات على هذا الصعيد. والواقع أنه حتى على صعيد القوى صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن، فإن اعتبار قضايا التغير المناخي من بين تلك التي تدخل في نطاق مهددات السلم والأمن الدوليين ما زال محل خلاف، حيث تطالب بعض هذه الدول بإبعاد تلك القضايا عن جدول أعمال مجلس الأمن وإبقائها في الأطر المحددة لها، بينما ترى دول أخرى عكس ذلك.

الجهد الذي تقوم به مختلف الوكالات الدولية التابعة للأمم المتحدة المعنية بالتعامل مع الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية لا يمكن إنكاره ومن المهم الإبقاء عليه وزيادته وتفعيله. لكن هل من الأفضل أن يكون هناك جهاز رئيسي جامع في الأمم المتحدة، بخلاف الأجهزة القائمة بالفعل للتعامل مع الكوارث؟.

 قد يقال إن المجلس الاقتصادي والاجتماعي يمكنه القيام بذلك ولا حاجة لأجهزة جديدة تزيد الأمور تعقيداً بدل أن تيسرها. وقد يقال إن مجلس الأمن هو الأقدر على ذلك بحكم ما لديه من سلطات. لكن كما أن لمجلس الأمن سلطات، فإن هناك مناوشات تكاد لا تنتهي بين أعضائه الدائمين مما قد يعطل اتخاذ القرارات في الكثير من الحالات.

الحاجة إلى تفعيل النظام الدولي للتعامل مع الكوارث الطبيعية لا تقف فقط عند أجهزة الأمم المتحدة. لكن يتطلب الأمر تفعيل ما هو قائم من أجهزة إقليمية كما هو الحال في رابطة الآسيان، ناهيك عن إنشاء آليات مشابهة في تجمعات إقليمية أخرى. ربما احتاج الأمر إلى قيام بنوك التنمية والبنية الأساسية ذات النطاق العالمي والإقليمي بإيلاء اهتمام أكبر بقضية التعامل مع الكوارث الطبيعية، ولو في مرحلة إعادة الإعمار. كما أن الاهتمام برفع كفاءة الدول لكي تكون أكثر استعداداً للتعامل مع الكوارث لا يقل أهمية أيضاً.