قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2023-2-24
أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 
* المقال جزء من ملف خاص بعنوان "عام على الحرب الروسية-الأوكرانية: تحولات ومسارات".
للاطلاع وتحميل الملف كاملًا: https://acpss.ahram.org.eg/media/News/2023/2/22/2023-638126600356951558-695.pdf

 

مع حلول الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، لا يزال من المبكر رسم الخرائط النهائية لهذه الحرب. فالخرائط الميدانية التي تدور عليها رحى المعارك في ختام العام الأول للحرب على امتداد ما يصل إلى 1200 كلم تفصل بين شرق وجنوب شرق أوكرانيا من جهة وغربها مع القطاع الشمالي من جهة أخرى، لا تزال مرشحة للزيادة مع فتح جبهات جديدة في العام التالي مثل منطقة خاركيف في الشمال الشرقي، أو العودة إلى مناطق سبق الانتشار فيها مثل الضفة الغربية لنهر دينبرو في مقاطعتى زابوريجيا وخيرسون، وربما تحمل سيناريوهات أخرى، سترسمها مجمل تفاعلات وآليات الحرب في المستقبل.


لكن هذه الخرائط الميدانية، سواء بشكلها الحالى أو المستقبلي في المدى المنظور، لن تعكس وحدها خريطة النتائج التي ستؤول إليها هذه الحرب. فقبل أن تنطلق الحرب في 24 فبراير 2022 بنحو سبع سنوات كانت روسيا قد سيطرت على شبه جزيرة القرم التي تبلغ مساحتها نحو 27 ألف كلم، ولم يكن متوقعاً آنذاك أنها مجرد مقدمة لجولة تالية من الحرب الروسية على أوكرانيا، ستغير الخريطة الأوكرانية.

ومع اندلاع الحرب، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عدة أهداف، منها السيطرة الميدانية على إقليم دونباس، الذي تبلغ مساحته ضعف مساحة شبه جزيرة القرم تقريباً حيث تقدر بنحو  52.3 ألف كلم. كما كرر في تصريحات أخرى أن الهدف من الحرب هو تحييد أوكرانيا ومنعها من الانضمام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، أو بصيغة أخرى لا يريد أن تكون حدود روسيا مع الحلف مباشرة.

من هذا المنطلق، يمكن التفرقة بين عدة خرائط سترسمها هذه الحرب، وهى الخريطة السياسية لأوكرانيا التي سترسم في ضوء نتائج الحرب، وما سيعقبها من مفاوضات، والخرائط الجيوسياسية لشكل الانتشار العسكري والانتشار المضاد للقوى المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب، عندما ترسم الخطوط الدفاعية للأطراف.

 فروسيا تسعى إلى تقديم خطها الدفاعي مقابل "الناتو" باستقطاع تلك المساحة من أوكرانيا، بينما يعزز "الناتو" من انتشاره الدفاعي في جدار أوروبا الشرقي، من رومانيا إلى بولندا وباتجاه الشمال مع دول البلطيق. كما ينتظر تعزيزات أكثر مع انضمام فنلندا والسويد، وربما دول أخرى لاحقاً وفق استراتيجية الباب المفتوح، إضافة إلى خريطة التوازنات العسكرية الجديدة التي ستفرزها الحرب فى أوروبا في إطار مساعي أغلب الدول الأوروبية إلى وضع أجندة عمل وطنية للتنمية الدفاعية.

كما تعيد الولايات المتحدة تعزيز تواجدها على التوازي مع انتشار "الناتو" خاصة في بولندا، حيث ستُنشِىء 110 نقطة عسكرية مستقلة ومشتركة على الساحة البولندية وحدها، وربما تمتد هذه الخرائط إلى ساحات أخرى كشرق آسيا التي تشهد بالتزامن مع الحرب الروسية-الأوكرانية تفاعلات أمنية جديدة.

لكن مبدئياً، وطالما أن الحرب لا تزال مفتوحة، فمن الأهمية بمكان تسليط الضوء على الخريطة الميدانية للحرب في ختام عامها الأول، حيث شهدت هذه الخريطة تغيراً عبر ثلاث مراحل رئيسية، يمكن تناولها على النحو التالي:

المائة يوم الأولى: فشل الرهان الروسي على استسلام كييف

وهى المرحلة التي تمتد زمنياً من انطلاق الحرب وحتى نهاية المائة يوم الأولى التي أقر الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، بمناسبتها، بأن بلاده خسرت 20% من مساحتها في الحرب، ومع ذلك ستواصل المعارك لاستعادتها، بل والعمل على استعادة ما سبق استقطاعه من المساحة الكلية للبلاد قبل الحرب، في إشارة إلى شبه جزيرة القرم.

وفي المقابل، تغيرت خريطة التحركات العسكرية الروسية بشكل مفصلي خلال هذه المرحلة الأولى، فقد انطلقت الحرب على ثلاث محاور رئيسية، وهي المحور الشرقي للسيطرة على إقليم دونباس باتجاه الشمال مع خاركيف، والشمال من الوسط باتجاه العاصمة كييف، والجنوب من القرم والبحر باتجاه السيطرة على الساحل الجنوبي من بحر أزوف وحتى حدود مقاطعتى خيرسون وأوديسا.

على هذا النحو، يمكن القول إن العمليات الميدانية الرئيسية كانت تتركز خارج دونباس، حيث تطويق العاصمة للضغط على أوكرانيا ومحاولة دفعها للاستسلام، وهو رهان خسرته روسيا، وفي الجنوب الساحلي للسيطرة على المسرح البحري في البحر الأسود، من بحر أزوف شرقاً وصولاً إلى أوديسا غرباً.

ففي الأسبوع الأول من الشهر الثاني للحرب، قامت القوات الروسية بشكل مباشر بعملية انسحاب جزئية من كييف ما يؤكد على فرضية فشل الرهان على استسلام نظام زيلينسكي، أو بصيغة أدق فك الحصار عنه، والاتجاه لتعزيز الانتشار الروسي في دونباس للسيطرة على لوغانسك ودونيستك بعد وصول تعزيزات عسكرية غربية للمقاومة الأوكرانية تسببت في خسائر هائلة في صفوف ومعدات القوات الروسية.

نصف عام على الحرب: معارك تطويق دونباس وبداية مرحلة الاستنزاف المتبادل

وهى المرحلة التي تمتد حتى منتصف العام الأول للحرب، والتي انتهت بإعلان بوتين ضم المقاطعات الأربعة (دونيستك ولوغانسك، زابوريجيا، خيرسون)، وشهدت هذه المرحلة تركيز روسيا أكثر على السيطرة على دونباس، حيث شهدت مفاجئة بتقليص الانتشار الروسي خارج تلك المقاطعات، الأمر الذي دفع أوكرانيا إلى استعادة نحو 3 آلاف كلم من الشمال باتجاه بيلاروسيا، ومن الشرق في خاركيف.

 وربما كان الدافع وراء ذلك فشل بعض العمليات اللوجستية الروسية خاصة ما يتعلق بالإمدادات العسكرية البرية، في الوقت الذي دفعت فيه الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا بأسلحة استراتيجية للقوات الأوكرانية، لا سيما منظومات الدفاع والهجوم الصاروخي، التى ألحقت خسائر هائلة بالقوات الروسية في دونباس.

وأطلق الأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولتنبرج مرحلة الاستنزاف، وخلالها تمكنت القوات الأوكرانية من قطع الجسور على نهر دينبرو جنوباً، ما أعاق وصول الإمدادات ما بين ضفتي النهر للقوات الروسية، وبدأت تتعثر في خيرسون وزابوريجيا وميكولايف، وفي نهاية هذه المرحلة أعلنت روسيا عن عملية تعبئة جزئية لقواتها لمواصلة الحرب، وهى العملية التي شهدت تعثراً في بدايتها، كما تعرضت قواعد عسكرية في غرب روسيا لهجمات صاروخية، بالإضافة إلى هجوم على العديد من معسكرات التعبئة الروسية ما زاد من إحباط هذه العملية بشكل كبير.

المرحلة الثالثة: إدارة الاستنزاف

وهى المرحلة الأكثر شراسة بين كافة مراحل الحرب. فقد تعرض جسر كيرتش في شبه جزيرة القرم لهجوم من القوات الأوكرانية، ورداً على ذلك صعّدت روسيا من هجماتها الجوية في كافة الاتجاهات في أوكرانيا، ثم قامت بعملية إعادة انتشار جديدة، حيث انسحبت من غرب نهر دينبرو إلى الغرب للحفاظ على مكاسبها في الخطوط الخلفية خاصة في القرم التي أثبتت هجمة كيرتش انكشافها الدفاعي.

ومع حلول الشتاء، لم تنتظر روسيا عملية التعبئة، إذ استدعت مجموعة "فاجنر" التي قامت بمهمة استكمال السيطرة على دونباس، حيث استولت على سوليدار الاستراتيجية، ثم انخرطت في معركة باخموت الاستراتيجية أيضاً، والتي يعتقد أنها ستنتهي بالسيطرة الروسية عليها إن لم يكن في ختام العام الأول للحرب فسيكون في بداية العام الثاني.

وتخوض الأطراف المعارك الشرسة في ختام العام الأول في 18 محور تقريباً في دونباس، بينما تستعد روسيا لوجستياً لبناء جسور على نهر دينبرو للعودة مرة أخرى إلى الضفة الغربية. ومع ذلك، لن تتوقف الحرب، فروسيا تسعى إلى إتمام السيطرة لإعلان نتائج تبرر بها الكُلفة الكبيرة التي دفعتها في الحرب، ومحاولة لإثبات الانتصار فيها. وفي المقابل، فإن أوكرانيا تخوض معركة إحباط أى انتصار روسي من الممكن تحقيقه حتى تتوقف الحرب.

نتائج أوّلية لخرائط الحرب: مكاسب وخسائر

ربما تمكنت روسيا من تحقيق جزء من هدفها العسكري، بالسيطرة على مناطق في دونباس وخارج حدوده الإدارية في زابوريجيا وخيرسون، كما تمكنت من إضعاف أوكرانيا بشكل مستمر من خلال استمرار الهجمات على البنية التحتية والدفاعية. ومع ذلك، فإنها لا تزال بحاجة لإتمام السيطرة على تلك المناطق، حيث لم يكفي العام الأول لتحقيق هذه النتيجة.

لكن يمكن القول إن بوتين يخسر بالتدريج هدفه الاستراتيجي في تحييد أوكرانيا، التي تتحول تدريجياً في ضوء برامج التسليح والتدريب إلى قوة عسكرية غربية، ولا تزال تراهن على أن تكون عضواً في "الناتو" كضمانة تُبقي على ما سيتبقى من خريطة أوكرانيا وفقاً لما طرحه وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا في مؤتمر ميونخ للأمن 2023.

على الجانب الآخر، خارج الساحة الأوكرانية، فإن "الناتو" يجني المزيد من المكاسب، من خلال تأهيل فنلندا والسويد للانضمام له، وكلتاهما ستشكل قوة مضافة للحلف، فضلاً عن ما سيمنحه فائض التمويل للحلف، والصفقات الهائلة التي يبرمها للحصول على أسلحة استراتيجية ستغير من خريطة موازين القوى في أوروبا على المديين القريب والمتوسط.

وفي المقابل، كلما امتدت الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن كُلفتها ستخصم من قدرات موسكو في مقابل "الناتو". ومع ذلك، ستراهن روسيا على الأسلحة الاستراتيجية، لا سيما النووية، والتي يصعب المغامرة بها فعلياً لتغيير دفة الحرب أو موازين القوى. فحيازة الاتحاد السوفيتي لتلك الأسلحة لم تحل دون انهياره في نهاية الحرب الباردة.