مهاب عادل حسن

باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

في ظل اتجاه بعض التحليلات التنبؤية المرتبطة بتوقعات عام 2023 إلى ترجيح شن ضربة عسكرية إسرائيلية استباقية (وشيكة) ضد إيران بسبب انسداد أفق الحوار وانهيار المفاوضات حول الاتفاق النووي الإيراني، يُثار التساؤل حول مدى صحة هذه التنبؤات، وكذا مدى دقة الافتراضات النظرية التي بُنيت عليها هذه التنبؤات، وهو ما يفرض ابتداءًا الإجابة على التساؤل الآتي: "هل تشكل إيران التهديد الأكثر خطورة على إسرائيل؟".

تفرض الإجابة على هذا التساؤل سبر أغوار نظريات العلاقات الدولية وخاصة النظرية الواقعية وامتدادها المتطور في أحد فروعها Neoclassical Realism. فوفقًا لرواد هذا الفرع من النظرية فإن "المٌعدِل الهيكلي" المرتبط بالجغرافيا والانتشار العسكري يمكن أن يخلق القيود ويوفر الفرص لبعض الوحدات وأنماط التفاعل الاستراتيجي فيما بينها داخل الهيكل المحدد للنظام.

وخلال أوائل القرن الماضي، كان المٌعدِل الهيكلي للجغرافيا يلعب الدور الأكبر في تقييد أو تساهل البيئة الاستراتيجية للتفاعلات بين الدول في ظل التطور المحدود للانتشار التكنولوجي الذي لا يُمكّن من تجاوز الجغرافيا والحواجز الطوبوغرافيا التي تشكل حواجز طبيعية يصعب معها تجاوزها وتشكيل تهديد محتمل للدولة المحصنة[1].

وبرز ذلك خلال الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية. فمن ناحية، كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى أي تهديدات واضحة حيث لم تظهر أي دولة أخرى دليلاً من النوايا العدائية. ومن ناحية أخرى، لم يكن مستوى تكنولوجيا الانتشار العسكري - آنذاك - يسمح بإسقاط القوة الكافية عبر الحواجز التي توفرها المحيطات الأطلسية والهادئة[2].

لكن في أعقاب الحرب العالمية الثانية، اختلف الأمر مع التطور التكنولوجي الهائل في التقنيات العسكرية. ففي ظل توافر حاملات الطائرات وتطوير الطائرات بعيدة المدى، بات من الممكن للاتحاد السوفيتي أن يشكل تهديدًا كبيرًا للولايات المتحدة. هذا إلى جانب الأدلة المتزايدة على العداء السوفييتي للولايات المتحدة، على نحو جعل واشنطن تواجه بذلك تهديدًا واضحًا من موسكو[3].

الإشارات النظامية ومحددات السلوك الخارجي لإسرائيل

تتميز النظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة التي تعد امتدادًا متطورًا لفرعي النظرية الواقعية (الكلاسيكية والبنيوية) على مستوى المتغيرات المنهجية، بما يُعرّفه منظرو هذه المدرسة بمتغير "الوضوح" Clarity للإشارات والمعلومات الخاصة بالتهديدات والفرص التي يقدمها النظام الدولي للدول. وقد حدد رواد النظرية الوضوح بثلاثة عناصر: (1) الدرجة التي يمكن من خلالها التعرف بسهولة على التهديدات والفرص؛ (2) ما إذا كان النظام يوفر معلومات عن الآفاق الزمنية للتهديدات والفرص؛ (3) ما إذا كانت خيارات السياسة المثلى بارزة أم لا[4].

وبالاعتماد على تحليل ستيفن والت وجون لويس جاديس، فإنه يمكن فهم التهديدات الواضحة للدول في ظل ظروف معينة، من خلال توافر عدة عناصر، من أبرزها: (1)العداء المعبر عنه للإضرار بسلامة أراضي الدولة أو بمصالحها الجوهرية؛ (2)القدرة الاقتصادية والعسكرية على إلحاق الضرر بالدولة، والتي تعتمد بدورها على الجغرافيا والتكنولوجيا؛ (3)الشعور بضغط الوقت (أي التوقعات بأنها ستستخدم قدرتها على إلحاق الضرر في وقت قصير)[5].

بإسقاط هذه الافتراضات النظرية على واقع البيئة الاستراتيجية الإسرائيلية، نجد أنها تمتاز بالتقييد النسبي، نظرًا لهشاشة الأوضاع في دول جوارها الجغرافي من ناحية جبهة الشمال (سوريا ولبنان) التي لا تؤهلهما قوتهما الاقتصادية والعسكرية – وإن توافر عنصر العداء المعلن – لشن حرب تهدد أمن وبقاء إسرائيل. وعلى الصعيد الآخر، نجد أن التهديد الإيراني لا تؤهله معطيات المشهد الراهن لأن يمثل تهديدًا وشيكًا لإسرائيل، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي لإيران، وعدم الاسقرار السياسي المرشح للتصاعد في ظل الاضطرابات الاحتجاجية التي تشهدها في الوقت الراهن، هذا فضلاً عن تقادم ترسانتها العسكرية، والتزامها – حتى الآن – بالخطوط الحمراء فيما يتعلق بالعتبة النووية التي تمكّنها إذا ما تجاوزتها من تطوير سلاح استراتيجي سيهدد بالتأكيد أمن إسرائيل وبقائها، خاصة إذا ما أفضى التعاون المتطور بين موسكو وإيران بتسلم طهران تكنولوجيا الصواريخ فرط صوتية المتطورة القادرة على تجاوز حاجز الجغرافيا وضرب العمق الإسرائيلي.

ففي الوقت الذي لا يمكن فيه للدول تغيير جغرافيتها وعواملها، إلا في بعض الأحيان من خلال الغزو العسكري، فإن تطوير ونشر التقنيات الجديدة، مثل القوة الجوية والأسلحة النووية والصواريخ الباليستية، ومؤخرًا، الصواريخ فرط صوتية، يمكن أن يقلل أو يزيد من المسافة الجغرافية الفعالة بين الدول[6].

بيد أن الوضع الراهن للبيئة الاستراتيجية لإسرائيل قد يطرأ عليه بعض التطورات التي يُمكن معها أن تنقلب المعادلة ويصبح وضعًا أكثر تقييدًا لأمن إسرائيل، كأن يتم تطوير الإمكانات العسكرية لوكلاء إيران المحليين في مناطق تمركزها فيما يُعرف بـ "الهلال الشيعي"، والسماح لهم بامتلاك صواريخ باليستية قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، على نحو يستلزم الاستجابة في إطار نطاق ضيق من البدائل القابلة للتطبيق، بتوجيه ضربات عسكرية استباقية من جانب إسرائيل للأهداف الإيرانية في تلك المناطق للحيلولة دون حدوث هذا التحول والحفاظ على استقرار الوضع الراهن لبيئتها الاستراتيجية، وهو ما تقوم به تل أبيب في الوقت الراهن بفعالية، وذلك في إطار استراتيجيتها التي أعلنتها في عام 2015 تحت عنوان "الحملة بين الحروب" أو "مابام"، التي تقوم على شنّ عمليات عسكرية محدودة بهدف إحباط التهديدات وفرض سياسة الردع مع تجنب التصعيد والانتقال إلى مستوى الحرب الشاملة[7].

وبالتالي، ينشأ الافتراض بأن استمرار الوضع الراهن المستقر نسبيًا للبيئة الاستراتيجية لإسرائيل، إلى جانب غياب الإشارات الواضحة للتهديد من جانب إيران وفقًا للمخطط السابق، يضعف احتمالية توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران على المدى القريب والعكس صحيح.

المتغيرات المتداخلة والاستجابة النظامية لإسرائيل

يمكن تفسير التحليلات التنبؤية التي دفعت بالتصعيد العسكري الإسرائيلي، من منظور تأثير المتغيرات المتداخلة على مستوى الوحدة على استجابتها النظامية تجاه التهديدات والفرص، خاصة في ضوء المتغير المتداخل المرتبط بالسلطة التنفيذية، من ناحية تولي حكومة إسرائيلية يمينية هي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل.  

ووفقًا للافتراض المنهجي الذي تتميز به النظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة، عن باقي فروع النظرية الواقعية، من ناحية تضمين المتغيرات المتداخلة لتحليل السلوك الخارجي للدول. فكلما كان الوضوح أقل على المستوى النظامي، كلما كان هناك مجال أكبر لقادة وأحزاب الدولة للبحث عن حلول فريدة بناءً على تفضيلاتهم أو اهتماماتهم الضيقة أو ثقافاتهم الاستراتيجية، لتشكيل استجابة مُثلى لمواجهة هذه التهديدات[8].

وقد حددت النظرية مجموعة من المتغيرات التي يمكن من خلالها فهم حجم التأثير الذي يمكن أن يحدثه المتغير المتداخل على مستوى السلوك الخارجي للدولة، ومن أبرزها:

أولاً: "تصورات القادة"، التي تنعكس في مجموعة القيم والمعتقدات والصور الأساسية التي توجه تفاعل القادة مع العالم الخارجي وفهمهم له. إذ تمر جميع المعلومات الواردة عن العالم الخارجي من خلال هذه المرشحات المعرفية، والتي تضفي طابعًا شخصيًا على تصور القائد للمنبهات الخارجية وتحيزه[9].

في السياق الإسرائيلي، تنعكس تصورات رئيس الوزراء الراهن بنيامين نتنياهو على مدار فترة حكمه التي تجاوزت (15 عامًا) في اعتبار إيران تهديدا وجوديًا لإسرائيل، يستلزم استخدام الخيار العسكري، وساهم في تعزيز هذا التصور الخلفية اليمينية المتطرفة لنتنياهو وميله ودوائر دعمه من الأحزاب الحريدية المتطرفة إلى إذكاء البعد القومي الديني المتطرف في التعامل مع التهديدات الأمنية، وذلك لاعتبارات عدة، منها اعتبارات شخصية مرتبطة بإدراك نتنياهو الشخصي وقادة الأحزاب من حوله لخطورة التهديد الإيراني خاصة في ظل تغير البيئة الاستراتيجية الإقليمية التي أصبحت أكثر تقييدًا بفعل تصاعد النفوذ الإيراني وتعزز حضوره في العديد من مناطق المجال الحيوي لإسرائيل في كل من سوريا ولبنان والعراق، ومن ناحية أخرى، اعتبار "التصويت الانتخابي"، لما يوفره ذلك التصور من مظلة دعم آمنة في أوساط الجمهور اليميني المتطرف.

في سبيل تمسك نتنياهو بخيار التصعيد العسكري لمواجهة إيران، خاض موجات حادة من المعارضة، خاصة من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي كانت تميل إلى رؤية واشنطن في انتهاج المسار التفاوضي الدبلوماسي من خلال خطة العمل الشاملة المشتركة (5+1)، وفي الوقت ذاته معارضة توجيه ضربة عسكرية ضد إيران، حيث كانت هناك أصوات مهمة في وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية الإسرائيلية- منهم رؤساء الأركان السابقون في جيش الدفاع الإسرائيلي، على غرار غادي آيزنكوت، وبيني غانتس، وغابي أشكنازي، بالإضافة إلى قادة المخابرات الإسرائيلية مثل رئيس الشاباك الأسبق، يوفال ديسكين، وكذلك رئيس الموساد الأسبق، مئير داغان، أحد أشد خصوم نتنياهو داخل المؤسسة الأمنية، والذي وصفه ذات مرة بأنه "خطر على إسرائيل"، حيث كان مقتنعًا في أواخر عام 2011، بأن إيران لا تزال بعيدة نسبيًّا عن امتلاك الأسلحة النووية[10]- ترى في خطة العمل فرصة مهمة لاحتواء إيران في المنطقة، والتعامل معها باعتبارها فاعلًا عقلانيًّا يسعى لحل تفاوضي بدلًا من الخيار العسكري المحفوف بالمخاطر[11].

تشير متغيرات اللحظة الراهنة، وما طرأ على مشهد النخبة السياسية الحاكمة من سيطرة للتيار اليميني المتطرف، إلى ترسخ التصور المرتبط بتصعيد الصراع في إدراكات القادة التي قد تتحين فرصة "المحفز النظامي" الدافع للخيار العسكري، من أجل شن حرب مفتوحة مع إيران.

ثانيًا: الثقافة الاستراتيجية، استخدم الواقعيون الكلاسيكيون الجدد، وفي مقدمتهم كل من نيكولاس كيتشن وكولين دويك وفيكتور تشا، الثقافة والأفكار الاستراتيجية كمتغير متداخل بين توزيع القدرات وسلوك السياسة الخارجية. وتتمثل الثقافة الاستراتيجية أو ثقافة الدولة في المعتقدات الراسخة، ووجهات النظر العالمية، والتوقعات المشتركة للمجتمع ككل، والتي يمكن أن تؤثر على الطريقة التي تدرك بها الدولة وتتكيف مع المُحفِّزات النظامية والتحولات الهيكلية في القدرة المادية.

ويجادل هنا كولين دويك بأن صانعي السياسات سيختارون تأطير وتعديل الخيارات الاستراتيجية لتعكس التفضيلات المقبولة ثقافيًا للحفاظ على الدعم السياسي المحلي. علاوة على ذلك، بسبب الثقافة الاستراتيجية، قد يكون القادة غير راغبين أو غير قادرين على توليد الدعم لأن بعض الأفكار الاستراتيجية سيكون لها صدى أفضل لدى عامة الناس ثقافيًا وفكريًا على حد سواء من الخيارات الأخرى[12]. ويرى دويك أن البيئة الدولية يمكن أن تحدد المعايير العريضة لسلوك الدولة؛ بحيث تشجع التغييرات في توزيع السلطة على التكيف الاستراتيجي في شكل استراتيجية كبرى توسعية إلى حد ما. بينما تحدد الثقافة الاستراتيجية الأنماط المحددة للتغيير والاستمرارية[13].

وتتضمن النماذج الفكرية للثقافة الاستراتيجية مجموعة من المعتقدات والمعايير والافتراضات المترابطة. إذ تشكل الثقافة الاستراتيجية أو التوقعات الجماعية الفهم الاستراتيجي للقادة السياسيين والنخب المجتمعية وحتى عامة الناس. كما تندرج أيضًا كل من الثقافة التنظيمية العسكرية، والأيديولوجيات المهيمنة، ضمن المكونات المهمة للثقافة الاستراتيجية، والتي يمكن أن تؤثر بدورها على تشكيل سياسة الأمن القومي، ومواقف الدولة تجاه الشئون الدولية واستعدادها لاستخدام القوة، حيث يمكن للثقافة القومية، التي تشجع التضحيات الشخصية دعمًا للدولة، أن تساعد في تعبئة الموارد دعمًا لسياسة الأمن القومي[14].

ووفقًا للتغيرات البنيوية العميقة التي طرأت على معادلة المجتمع والسياسة والأمن في إسرائيل، من ناحية تصاعد التأثير السياسي للتيار الديني الحريدي، في مقابل تراجع تأثير التيار العلماني، هذا فضلاً عن خلخلة العلاقات المدنية – العسكرية، وقد توجت هذه التغيرات مؤخرًا بسيطرة التيار اليميني المتطرف على مشهد الائتلاف الحكومي، وتلى ذلك إحداث تغييرات في وظائف الوزارات المساهمة بدور كبير في هندسة الثقافة الاستراتيجية للدولة بهدف فرض الهيمنة اليمينية المتطرفة للتحكم في مفاصل الدولة، وإضفاء الطابع الأيديولوجي للقومية الدينية على السياسات الاستراتيجية، فإنه يمكن الإشارة إلى مجموعة من التغيرات، التي شكلت في مجملها الملامح العامة للثقافة الاستراتيجية لإسرائيل، على النحو التالي:

- غلبة النزعة اليمينية على اتجاهات الجمهور الإسرائيلي: تعكس اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي تصاعد النزعة اليمينية، سواء تجاه قضايا الداخل المرتبطة بالمكون العربي، أو تجاه القضايا الخارجية، وانعكست تلك التوجهات عبر استطلاع للرأي أجراه معهد دراسات الأمن القومي خلال العام 2021، حيث أبدت النسبة الأكبر من الجمهور المستطلع تفضيل الخيار العسكري في التعامل مع الأنشطة النووية لإيران بواقع 57% من بينهم 27% يفضل القيام بالعمل العسكري دون تنسيق مع الولايات المتحدة (انظر شكل رقم1). وقد يفسر ذلك تصدر تهديد النشاط النووي لإيران قائمة التهديدات الأكثر خطورة على الأمن القومي لإسرائيل وفقًا للجمهور الإسرائيلي بواقع 23% يليها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بواقع 21% (انظر شكل رقم2)[15].
وقد ترجم الشركاء الائتلافيون هذه التخوفات في بنود اتفاقهم الحكومي، حيث احتل تهديد النشاط النووي لإيران، أولوية على أجندة الحكومة، وفقًا لما تضمنته الخطوط الأساسية للاتفاق الائتلافي بأن "تعمل الحكومة لمواصلة الحرب ضد برنامج إيران النووي"[16].    

شكل رقم (1)

الرد الإسرائيلي المناسب في حالة تجديد إيران لنشاطها النووي

شكل رقم (2)

التهديد الخارجي الأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل

- اختلال الثقافة التنظيمية العسكرية: تعد الثقافة التنظيمية للمؤسسة العسكرية أحد ركائز الثقافة الاستراتيجية للدولة خاصة فيما يتعلق بسياسات الأمن القومي. وفي هذا الصدد، ركز كل من جيفري ليغرو وإليزابيث كير، على دراسة الجيش كمنظمة بيروقراطية، من منظور تأثير الثقافة العسكرية على تشكيل سياسة الأمن القومي.

إذ يرى ليغرو أن الثقافة التنظيمية للجيش ومواقف المهنيين العسكريين خلال فترة الحرب العالمية الثانية كانت قادرة على تفسير سبب عدم انتهاك القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الكيميائية في ساحة المعركة آنذاك[17]. بينما عارضت كير الافتراض بأن الجيش يفضل الاستراتيجيات الهجومية، باعتبار كونه منظمة بيروقراطية، ودللت على ذلك بما حدث للجيش الفرنسي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث اتجهت الثقافة التنظيمية للجيش الفرنسي لتبني عقيدة دفاعية بغض النظر عن الظروف الخارجية التي واجهها. وترى كير أن ذلك يعود ليس بسبب التهديد الخارجي للقوة العسكرية الألمانية، وإنما نتيجة الانقسام الداخلي بين اليسار واليمين على التوزيع المحلي للسلطة السياسية، حيث عارضت القوى اليسارية والجمهورية الحاكمة الجيش، ووضعت ضوابط تقييدية، من خلال سن التجنيد قصير الأجل، خوفًا من أن يتصرف نيابة عن اليمين الرجعي[18].

وعلى صعيد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فقد شهدت خلال السنوات الماضية، بعض التغيرات الهيكلية من ناحية اختلال العلاقة لصالح السياسيين على حساب المهنيين العسكريين، وبرز ذلك في محاولة رئيس الوزراء الحالي نتنياهو إزاحة العديد من القيادات العسكرية المعارضة لتوجهه التصعيدي بشأن التعامل مع الملف النووي لإيران، ورفضهم للخيار العسكري، بالإضافة إلى دعم خطة العمل الشاملة المشتركة التي وقعتها طهران مع الدول الغربية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ونشب إثر ذلك خلاف محتدم بين نتنياهو والرئيس الأمريكي – آنذاك – باراك أوباما. ونتيجة لذلك، يُثار الاعتقاد داخل اسرائيل بأن مواقف القادة العسكريين المؤيدين للاتفاق ساهم في تشجيع الإدارة الأمريكية على المضي قدمًا في توقيع الاتفاق مع إيران[19].

وخلال عملية تشكيل الائتلاف الحكومي الراهن، كانت الترتيبات المتعلقة بالمؤسسة العسكرية حاضرة بقوة في الحسابات السياسية للمشهد التفاوضي، وتمخض عن ذلك إجراء تعديلات هيكلية في البنية الوظيفية للمؤسسة من خلال عمليات الدمج والفصل لبعض الصلاحيات لصالح وزارات أخرى يسيطر عليها الشركاء اليمينيون المتطرفون لنتنياهو، بالمخالفة لقانون الأساس الدستوري للجيش 1976، والذي يحدد تقسيم السلطات في الجيش الإسرائيلي ويفصل علاقة الجيش بالمستوى السياسي[20].

كما يتجه الشركاء الائتلافيون عبر مقترح بقانون لإضفاء الطابع الأيديولوجي الديني على الهيراركية العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وذلك من خلال تقديم مقترح بقانون يتم بموجبه تعيين الحاخام العسكري الرئيسي من خلال لجنة برئاسة الحاخام السفاردي الأكبر، ووفقًا للقانون سيخضع الحاخام للحاخامية الكبرى، وليس لقائد هيئة الأركان العامة للجيش، وبالتالي خضوعه لأحكام الهالاخا (التشريع اليهودي) للحاخامية الكبرى، التي تختلف أحكامها عن أحكام الحاخامية العسكرية في العديد من المسائل[21].

وتثار في الوقت الراهن أزمة داخلية حول تفويض صلاحيات الإدارة المدنية ومكتب تنسيق الحكومة في الضفة الغربية الخاضعة للقيادة المركزية للجيش الإسرائيلي، إلى اليميني المتطرف وزير المالية سموتريتش، حيث يعارض القادة العسكريون وعلى رأسهم وزير الدفاع يواف غالانت، هذا التدخل، باعتبار أن ذلك من شأنه تقويض وحدة القيادة وتسلسلها[22]. وتفجر هذا الخلاف مع أول اختبار حقيقي لتعارض الصلاحيات، حيث كان غالانت قد أمر بإزالة البؤرة الاستيطانية غير الشرعية "أور كايم" في الضفة الغربية، بينما طلب سموتريتش من الإدارة المدنية وقف إخلاء البؤرة، وتصاعد الأمر إلى مقاطعة وزراء من الصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء احتجاجًا على هذه الخطوة[23].

تعكس هذه التحولات الهيكلية في البنية المؤسسية للجيش الإسرائيلي، درجة من الاختلال في الثقافة التنظيمية للمؤسسة العسكرية، والتي سيكون لها تداعياتها خاصة فيما يتعلق بعملية تشكيل سياسات الأمن القومي التي قد تتحرر من المنظور الضيق لاعتبارات المهنيين العسكريين فيما يتعلق بالمهددات الأمنية إلى اعتبارات القادة السياسيين، وما يترتب على ذلك من احتمالية النزوع نحو العقيدة العسكرية الهجومية.

- هيمنة الأيديولوجية القومية الدينية: تشهد إسرائيل على مستوى النخبة والمجتمع تحول تدريجي نحو الهيمنة الأيديولوجية الكاملة للقومية الدينية، سواء على المستوى السياسي أو مستوى التفاعلات المجتمعية، ويرجع ذلك إلى تصاعد التأثير السياسي للتيارات الدينية الحريدية، على المستوى التشريعي والتنفيذي، وهو ما يمكنها من فرض هيمنتها ورؤيتها التوراتية على الحياة الاجتماعية في إسرائيل.

وقد أوجد ذلك بدوره حالة من الاستقطاب فيما بين التيار الحريدي والتيار العلماني، التي امتدت آثارها إلى الحياة السياسية، حيث بدأت موجة من الانتخابات وحل متكرر للكنيست كانت بدايته أزمة الخلاف بين الأحزاب الدينية والحزب اليميني العلماني "يسرائيل بيتنا" حول قانون التجنيد الإجباري للشباب الحريدي في أواخر العام 2018.

وفي الوقت الراهن وبعد سيطرة الأحزاب الدينية اليمينية المتطرفة على العملية السياسية والتشريعية، فإنها تتجه نحو إضفاء الطابع اليهودي القومي على كامل الحياة السياسية والاجتماعية، من خلال سن التشريعات والسياسات التي تخدم هذا التوجه. ويتضح ذلك من خلال بنود الاتفاق الائتلافي، فضلاً عن بعض الإجراءات التي تؤكد هذا التوجه ومنها على سبيل المثال، تعيين اليميني المتطرف آفي ماعوز، النائب الوحيد عن حزب "نعوم"، المعروف بالدفاع عن التفسير الصارم للقوانين الدينية اليهودية، كنائب وزير على رأس وكالة حكومية جديدة تحت مسمى "الهوية اليهودية القومية" داخل مكتب رئيس الوزراء، وستمنح هذه الهيئة الجديدة سلطة على المحتوى في المدارس الإسرائيلية الذي يتم تدريسه خارج المناهج العادية[24].

وبطبيعة الحال، يكون لهذه التحولات انعكاساتها الواضحة في توجهات الرأي العام، حيث عكست استطلاعات الرأي التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي خلال العام 2021، اعتبار النسبة الأكبر من الجمهور الإسرائيلي (55%) أن الدولة ذات الأغلبية اليهودية وأرض إسرائيل الكبرى هي القيمة الأكثر أهمية بالنسبة لهم (انظر شكل رقم 3)[25]. ويكمن مصدر الخطر هنا في أن هيمنة هذه الأيديولوجية التي تفترض بيهودية دولة إسرائيل، تحفز السلوك العدائي للدولة بمؤسساتها المختلفة في تفاعلها مع وحدات النظام الدولي، وتحصر إدراك القادة تجاه الإشارات النظامية الصادرة من الوحدات التي تتباين مع افتراضها باعتبارها تمثل تهديدات مباشرة لكيان الدولة، بشكل يحفز المسار الصراعي لا التعاوني، وهو ما بدا واضحاً إبان الحقبة السوفيتية، حيث زادت الأيديولوجية السوفيتية، التي افترضت تطويق الرأسمالية، من احتمال أن ينظر لينين وستالين إلى الأعمال الغربية على أنها تهديد وجعلت الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لهما للتعاون مع الدول الغربية[26].  

شكل رقم (3)

القيمة الأكثر أهمية بالنسبة للجمهور الإسرائيلي

- تراجع ركائز الديمقراطية للنظام السياسي: يشهد النظام السياسي الإسرائيلي تراجعًا في المؤشرات الديمقراطية للعملية السياسية خاصة فيما يتعلق بالتوازن بين السلطات، وبرز ذلك مؤخرًا مع توجهات الائتلاف الحكومي لتعزيز صلاحياته التنفيذية والتشريعية على حساب السلطة القضائية، من خلال الاتجاه لسن بعض التشريعات التي تستهدف نزع وتقليص السلطة الرقابية للمحكمة العليا على التشريعات التي يصدرها الكنيست فيما يُعرف بـ "فقرة التغلب"[27]، والتي تسمح للائتلاف بتجاوز أحكام المحكمة بأي أغلبية بحيث تكون غير ملزمة، مبررين هذا التعديل بأن المحكمة العليا تتدخل في كثير من الأحيان للتخلص من القوانين ذات التوجه اليميني من خلال الطعن، وهو ما يعد "إهانة" لاختيار الشعب[28]. هذا فضلاً عن اتجاهها لإحداث تغييرات هيكلية ببنية النظام القضائي، منها على سبيل المثال، تعديل منصب النائب العام بحيث يُقّسم المنصب إلى ثلاث وظائف منفصلة، مع تعيين اثنين على الأقل من المناصب السياسية، وهو ما يسمح بتهميش دور المدعية العامة الحالية، غالي باهراف، التي أيدت قرار سلفها بتوجيه الاتهام إلى نتنياهو، وذلك نظرًا لصعوبة فصلها[29].

أيضًا تم التقدم بمشروع قانون من شأنه تغيير لجنة اختيار القضاة، وإحداث تغيير في التوازن بين السلطة القضائية والتشريعية من خلال وضع السلطة النهائية على تعيين القضاة في أيدي السياسيين[30].  

وتأتي هذه التغييرات ارتباطًا برغبة نتنياهو وشركاءه في الائتلاف لتأمين حصانة قضائية تحول دون ملاحقتهم، وخاصة نتنياهو الذي يرغب في تحصين منصبه ضد قضايا الفساد التي تلاحقه. هذا فضلاً عن بعض الشركاء الائتلافيين الذين يواجهون تحديات قانونية تحول دون توليهم مناصب وزارية، وهو ما اتضح في الأيام الماضية في قضية الزعيم الحريدي المتطرف لحزب شاس آرييه درعي الذي تولى حقيبتي الداخلية والصحة، بالمخالفة للقانون الإسرائيلي الذي يمنعه من تولي حقائب وزارية على خلفية الأحكام القضائية التي صدرت بحقه من قبل في قضايا رشوة وتهرب الضريبي[31]، وذلك بعد إقرار الكنيست قانونًا أساسيًا - مشابهًا لتعديل دستوري - يُعرف باسم "قانون درعي"، يسمح له بتولي منصبه[32]. الإ أن المحكمة العليا كان لها رأي آخر، حيث أصدرت قرارها بضرورة عزل نتنياهو لأدرعي من مناصبه الوزارية[33]. ومن شأن هذا القرار أن يزيد من سخونة المشهد الملتهب، والذي قد يدفع الشركاء الائتلافيين، وعلى رأسهم نتنياهو الذي عبّر عن أسفه تجاه قرار المحكمة العليا، إلى التعجيل بالتشريعات الخاصة بإصلاح المحكمة لتقييدها، وهو ما سيزيد بدوره من وتيرة الاحتجاجات المناهضة لتوجه الحكومة نحو تقييد صلاحيات السلطة القضائية.

وبالتالي، تعكس الملامح الرئيسة للثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية التي تم استعراضها، اختلالات واضحة غلب عليها تصاعد النزعة القومية والتوجه اليميني المتطرف، وتراجع الركائز الديمقراطية للنظام السياسي، وذلك في إطار ما يبدو أنه عملية لإعادة هندسة الثقافة الاستراتيجية تقوم بها النخبة الحاكمة، بحيث تتمكن من تشكيل استجابة مرنة للتحديات والفرص الخارجية، والتي قد تتطلب إجراء تعديلات استراتيجية على استراتيجيتها الكبرى.

فوفقًا لتشارلز كوبشان، يمكن للثقافة الاستراتيجية أن تضع قيودًا شديدة على قدرة النخب على إجراء تعديل استراتيجي للتغيرات النظامية، بحيث يمكن أن تصبح نخب صنع القرار محاصرة بالثقافة الاستراتيجية، والتي يمكن أن تمنعهم من إعادة توجيه الاستراتيجية الكبرى لتلبية الضرورات الدولية وتجنب السلوك المدمر للذات[34].

بيد أنه في الحالة الإسرائيلية قد تسّهل الثقافة الاستراتيجية الراهنة عملية إجراء تعديل استراتيجي للتغيرات النظامية وفقًا لإدراكات وتصورات النخبة الحاكمة التي تبسط نفوذها وسيطرتها بشكل تدريجي على كامل المشهد سياسيًا واجتماعيًا.

العلاقات بين الدولة والمجتمع

تعكس العلاقات بين الدولة والمجتمع طبيعة التفاعلات بين المؤسسات المركزية للدولة ومختلف الفئات الاقتصادية و / أو المجتمعية. وتتعلق المسائل الرئيسية بدرجة الوئام بين الدولة والمجتمع، ودرجة تحول المجتمع إلى قادة الدولة بشأن مسائل السياسة الخارجية في حالة وجود خلافات، والتنافس التوزيعي بين الائتلافات المجتمعية للاستيلاء على الدولة وما يرتبط بذلك من مكاسب، وكذلك مستوى التماسك السياسي والاجتماعي داخل الدولة، والدعم العام للسياسة الخارجية العامة وأهداف الأمن القومي[35].  

بالنسبة للواقعيين الكلاسيكيين الجدد، يمكن أن يكون لطبيعة العلاقات بين الدولة والمجتمع تأثير كبير على السلوك الاستراتيجي للدول، وذلك من خلال عدة عوامل، من أبرزهم:

1- تأثر تفضيلات القادة بالمخاوف المحلية بدلاً من المخاوف الدولية، نتيجة المخاطر السياسية المحلية المحتملة وارتفاع التكاليف الناجمة عن موازنة السلوك، حيث يجادل راندال شويلر، أحد رواد الواقعية الكلاسيكية الجديدة، بأن ذلك يحدث في حالة نقص التوازن، عندما لا توازن الدولة أو تفعل ذلك بشكل غير فعال ردًا على معتدٍ خطير[36].

2- درجة الإجماع أو الانقسام على مستوى النخبة والمستويات المجتمعية، حيث سيؤثر مستوى توافق النخبة وتماسكها على ما إذا كانت القيادة تتفق على طبيعة التهديدات الخارجية ومداها، وكذلك الاستجابة الاستراتيجية المناسبة لها. كما أن مستوى التماسك المجتمعي يعكس درجة التكامل السياسي والاجتماعي. على سبيل المثال، تميل القيادة في الدول المجزأة والمنقسمة للغاية إلى اختيار سياسات القاسم المشترك الأدنى، على الرغم من أنها يمكن أن تؤدي إلى رد فعل أقل تجاه التهديدات الخارجية[37].

3- ضعف النظام وقدرته على مقاومة المنافسين المحليين، بما في ذلك الجيش وأحزاب المعارضة وجماعات المصالح، وهو ما سيؤثر على استعداد الحكومة لتعبئة المجتمع والموارد اللازمة لسلوك التوازن المناسب وفي الوقت المناسب. بالنسبة لشويلر، فإن الدول التي تتميز بمستويات عالية من التشرذم والانقسامات بين النخب والجهات الفاعلة المجتمعية عرضة لسلوك نقص التوازن، وبالتالي الابتعاد عن الضرورات النظامية لنظرية توازن القوى[38].

4- ديناميات سياسة الائتلاف في الدولة، فبقدر ما تستحوذ مجموعة مصالح اجتماعية واقتصادية معينة أو قطاع اقتصادي أو تحالف مصالح على الدولة، بقدر ما قد تكون غير قادرة على سن سياسات تختلف عن تفضيلات هذا التحالف الأساسي. ويمكن أن يحدث هذا إما لأن القادة مستمدون من هذا التحالف السياسي، وبالتالي ينظرون إلى الشئون الدولية من منظور مصالحهم الضيقة، أو لأنهم يدركون أنه لا يمكنهم الحفاظ على مواقع سلطتهم إلا من خلال تلبية مطالب قاعدة دعمهم[39].

يواجه الداخل الإسرائيلي جملة من التحديات الهيكلية المرتبطة بتخلخل العلاقة بين الدولة والمجتمع نتيجة اتساع هوة الخلاف وتصاعد درجات الاستقطاب السياسي والمجتمعي بين التيارات الدينية والعلمانية. وقد تفاقم الوضع سوءًا مع مجئ الائتلاف الحكومي الراهن، حيث تعمقت أزمة الثقة بين الدولة والمجتمع، نتيجة سياسات وتوجهات النخبة الحاكمة التي تغلب عليها المصالح السياسية الضيقة لأعضاء الائتلاف، والتي قادت بدورها إلى تصاعد حالة عدم الرضاء بين الرأي العام الإسرائيلي عن التوجهات التي تستهدف أركان الدولة على غرار الأزمة الراهنة بين أحزاب الائتلاف والسلطة القضائية. هذا فضلاً عن الأزمات المرشحة للتصاعد خلال الفترة القادمة ومنها تراجع مستويات الأمن نتيجة الارتفاع المحتمل لمعدلات العنف تحت ضغط السياسات اليمينية المتطرفة التي يقودها أعضاء الائتلاف.

وقد عكست نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد دراسات الأمن القومي خلال العام 2021، جانبًا من هذه الاختلالات، حيث عبّر القطاع الأكبر من الجمهور الإسرائيلي المستطلع عن أن مصدر التهديد الأكثر قلقًا بالنسبة له يتمثل في التهديدات المجتمعية الداخلية بنسبة 66% في مقابل 27% للتهديدات الخارجية (انظر شكل رقم 4)[40]. في حين عكست نتائج الاستطلاع تراجع مؤشرات الثقة للرأي العام في مؤسسات الدولة، حيث تراجع مؤشر الثقة في المؤسسات العسكرية والأمنية بما يقارب 6% عن مؤشر العام الماضي[41]، بينما جاءت المؤسسات المدنية على غرار مجلس الوزراء والسلطات البلدية في نهاية المؤشر(انظر شكل رقم 5)[42].

شكل رقم (4)

مصدر التهديد الأكثر قلقًا

شكل رقم (5)

الثقة في مؤسسات الدولة

ومن ثم، ستفرض هذه المعطيات درجة من التعقيد على عملية صنع السياسات نتيجة أزمة الثقة الناشئة بين الدولة والمجتمع، حيث ستتطلب أن تناضل أحزاب الائتلاف وتسعى للتغلب على المعارضة الداخلية والمساومة مع خصومها حول محتوى السياسة. فإذا كان المجتمع يشك في الدولة ويقاوم ما يعتبره توغلاً لها على حقوق المجتمع وموارده، فسيكون من الصعب تنفيذ قرارات السياسة الخارجية[43].

ختامًا، تقود نتائج نموذج التحليل لنظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة وفقًا لمتغيرات السياق الإسرائيلي، سواء على مستوى البيئة الخارجية والمُحفِّزات النظامية، أو مستوى المتغيرات المتداخلة، إلى أن الإجابة على التساؤل الذي شملته الدراسة في عنوانها حول ما إذا كانت إسرائيل بصدد توجيه ضربة عسكرية لإيران، وإلى أي مدى كانت التنبؤات الدافعة بهذا الخيار العسكري مبنية على افتراضات نظرية سليمة، سوف تتراوح بين السيناريوهين التاليين هما:

1- استبعاد خيار الحرب المفتوحة مع استمرار استراتيجية "مابام": تقود معطيات المشهد الراهن للبيئة الاستراتيجية الإسرائيلية التي تتسم بالتقييد النسبي، إلى استبعاد خيار الحرب المفتوحة نظرًا لغياب إشارات نظامية واضحة بالتهديد الاستراتيجي من جانب إيران، إلى جانب قصور واختلال المتغيرات المتداخلة التي ستقود القادة وأحزاب الدولة (إذا ما استمر الائتلاف الحكومي الراهن ولم ينهار) لتفضيل استراتيجية "مابام" أو "الحملة بين الحروب" باعتبارها تمثل استجابة مُثلى لمواجهة تهديدات وكلاء إيران في مناطق المجال الحيوي لإسرائيل في الجبهة الشمالية (سوريا، لبنان)، عبر شنّ عمليات عسكرية محدودة بهدف إحباط التهديدات، والحفاظ على استقرار البيئة الاستراتيجية، وفرض سياسة الردع مع تجنب التصعيد والانتقال إلى مستوى الحرب الشاملة، التي ستجعل إسرائيل تحارب على عدة جبهات في إطار استنزافي قد يدفعها للتراجع التكتيكي خاصة إذا ما خاضت تلك الحرب دون مباركة أمريكية، وهو ما سيضر بأهدافها ومصالحها الحيوية في المنطقة، حيث ستهتز صورتها المرتبطة بقدرتها العسكرية التي تحاول الترويج لها من أجل كسر حالة العزلة المفروضة عليها وكسب شركاء جدد.

2- شن ضربة عسكرية محدودة ضد الجزء الاستراتيجي للمفاعل النووي الإيراني: في إطار حالة عدم الوضوح التي تصدرها الإشارات النظامية المرتبطة بالموقف الإيراني تجاه نشاطها النووي، خاصة في ظل انهيار مفاوضات الاتفاق النووي، التي كانت تشكل قناة دبلوماسية لفرض الضغط على إيران للالتزام بالخطوط الحمراء فيما يتعلق بنشاطها النووي، بالإضافة إلى احتمالية ميل قادة وأحزاب الائتلاف اليميني المتطرف للبحث عن حلول فريدة بناءً على تفضيلاتهم أو اهتماماتهم الضيقة أو ثقافاتهم الاستراتيجية التي تميل للخيار العسكري، لتشكيل استجابة مُثلى لمواجهة التهديد المحتمل إذا ما أقدمت إيران على الإعلان عن تجاوزها العتبة النووية، والوصول لمستويات مرتفعة من تخصيب اليورانيوم بنسب تتجاوز 60%، قد يتم اللجوء لشن ضربة عسكرية محدودة بتنسيق مع واشنطن ضد الجزء الاستراتيجي للمفاعل النووي الإيراني من أجل عرقلة تقدمها لتجاوز العتبة النووية التي تمكنها من امتلاك سلاح نووي على المدى القريب والمتوسط.


[1] John J. Mearsheimer, The Tragedy of Great Power Politics (New York: W. W. Norton, 2001), pp. 83–84, 114–128. Accessed date: January 10, 2023.  Retrieved From:

https://is.cuni.cz/studium/predmety/index.php?do=download&did=216573&kod=JPM755

[2] Jack S. Levy and William R. Thompson, “Balancing on Land and at Sea: Do States Ally against the Leading Global Power?,” International Security, vol. 35, no. 1 (2010), pp. 7–43. Accessed date: January 10, 2023.  Retrieved From:

http://www.jstor.org/stable/40784645

[3] Ibid.

[4] Norrin M. Ripsman, Jeffrey W. Taliaferro, and Steven E. Lobell, “Conclusion: The State of Neoclassical Realism,” in Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, ed. Steven E. Lobell, Norrin M. Ripsman, and Jeffrey W. Taliaferro (Cambridge: Cambridge University Press, 2009), pp. 282–287. Accessed date: January 10, 2023.  Retrieved From:

https://doi.org/10.1017/CBO9780511811869

[5] John Lewis Gaddis, Strategies of Containment: A Critical Appraisal of Postwar American National Security Policy (Oxford: Oxford University Press, 1982), p. 60; Accessed date: January 10, 2023.  Retrieved From:

http://gen.lib.rus.ec/book/index.php?md5=77cb2cb1b0cf0e071c4af4af5fabfa78

See also:

Stephen M. Walt, The Origins of Alliances (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1987). Accessed date: January 10, 2023.  Retrieved From:

http://www.rochelleterman.com/ir/sites/default/files/Walt1987_0.pdf

[6] Hans Mouritzen, “Past versus Present Geopolitics: Cautiously Opening the Realist Door to the Past,” in Rethinking Realism in International Relations: Between Tradition and Innovation, ed, SAGE Journals, 2010, 45:4, p.p 406-427. Accessed date: January 11, 2023.  Retrieved From:

https://journals.sagepub.com/doi/epdf/10.1177/0010836710387028

[7] Ahmad Samih Khalidi, Original English translation of the 2015 Gadi Eisenkot IDF strategy, Journal of Palestine Studies, 45, no. 2 (178), 2016: 1-33. Access Date: January 12, 2023. Retrieved From:

https://www.palestine-studies.org/sites/default/files/attachments/jps-articles/JPS178_07__Khalidi.pdf

[8] Norrin M. Ripsman, “Neoclassical Realism and Domestic Interest Groups,” in Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, Op.cit, pp. 170–193.

[9] Robert Jervis, Perception and Misperception in International Politics (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1976); Access Date: January 12, 2023. Retrieved From:

https://doi.org/10.2307/j.ctvc77bx3

[10] محمود جرابعة، ليهي بن شطريت، مواجهة إيران عسكريًّا: تحولات الجيش والسياسة في إسرائيل، مركز الجزيرة للدراسات، 23 مايو 2021؟ تاريخ الدخول: 21 يناير 2023. انظر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/5025

[11]  المرجع السابق.

[12] Colin Dueck, Reluctant Crusaders: Power, Culture, and Change in American Grand Strategy (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006). Access Date: January 14, 2023. Retrieved From:

http://gen.lib.rus.ec/book/index.php?md5=0baaee4307a91c610c00c918203e0366

[13] Ibid.

[14] Zoltan I. Buzas, “How Nationalism Helps Internal Balancing but Hurts EXternal Balancing: The Case of East Asia”, in Project on: Globalization and the National Security State, Center for International Peace and Security Studies, McGill University, September 19, 2014. Access Date: January 15, 2023. Retrieved From:

http://gnss.mcgill.ca/files/CIPSS_Buzas%20-%20Working%20Paper%2043.pdf

[15] Zipi Israeli and Ruth Pines, National Security Index: Public Opinion, 2020-2021, The Institute for National Security Studies, January 2022. Access Date: January 25, 2023. Retrieved From:

https://www.inss.org.il/publication/national-security-index-2022/

[16]  الخطوط الأساسية لحكومة بنيامين نتنياهو السادسة، مركز مدار، بتاريخ 29 ديسمبر 2022. تاريخ الدخول: 25 يناير 2023. انظر:

https://bit.ly/3XSeMtS

[17] Jeffrey Legro, Cooperation under Fire: Anglo-German Restraint during World War II (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1995), JSTOR, Access Date: January 16, 2023. Retrieved From:

https://www.jstor.org/stable/10.7591/j.ctt32b4p9

[18] Ibid.

[19] محمود جرابعة، ليهي بن شطريت، مواجهة إيران عسكريًّا: تحولات الجيش والسياسة في إسرائيل، مرجع سابق.

[20] Netanyahu said to back Smotrich over Gallant in dispute over West Bank authority, Times of Israel, January 25, 2023. Retrieved From:

https://www.timesofisrael.com/netanyahu-said-to-back-smotrich-over-gallant-in-dispute-over-west-bank-authority/

[21] قانون مقترح في الاتفاقيات الإئتلافية سيحدث "ثورة" في الجيش الإسرائيلي، i24news، بتاريخ 24 ديسمبر 2022. تاريخ الدخول: 25 يناير 2023. انظر:

https://bit.ly/3HevcWK

[22] Ibid.

[23] Military lawyers: Smotrich’s West Bank powers will be seen as de facto annexation, Times of Israel, January 26, 2023. Retrieved From:

https://www.timesofisrael.com/legal-aide-defense-minister-can-overrule-religious-zionism-on-west-bank-policy/

[24] Tel Aviv, other local authorities vow to oppose anti-LGBTQ lawmaker’s school plans, Times of Israel, December 2, 2022. Access Date: January 25, 2023. Retrieved From:

https://www.timesofisrael.com/tel-aviv-other-local-authorities-vow-to-oppose-anti-lgbtq-lawmakers-school-plans/

[25] Zipi Israeli and Ruth Pines, National Security Index: Public Opinion, 2020-2021, Op.cit.

[26] G John Ikenberry; Michael Mastanduno; William Curti Wohlforth, World out of balance: international relations and the challenge of American primacy, (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2008). Access Date: January 15, 2023. Retrieved From:

http://gen.lib.rus.ec/book/index.php?md5=5b0f2adff22f52ad200877472cd34f22

[27] سليم سلامة، "فقرة التغلب" على المحكمة العليا وحقوق الإنسان في صلب إجماع أحزاب الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الجديد!، مركز مدار، بتاريخ 29 ديسمبر 2022. تاريخ الدخول: 26 يناير 2023. انظر:

https://bit.ly/3j8DqYy

[28] Ben Gvir to get newly created role of national security minister in deal with Likud, Op.cit.

[29] ELEANOR H. REICH, How Netanyahu’s far-right, Haredi coalition could help him beat corruption charges, Times of Israel, November 25, 2022. Access Date: January 25, 2022. Retrieved From:

https://www.timesofisrael.com/how-netanyahus-far-right-haredi-coalition-could-help-him-beat-corruption-charges/

[30]  Otzma Yehudit submits bill to increase political control over judicial appointments, Times of Israel, December 4, 2022. Access Date: January 25, 2022. Retrieved From:

https://bit.ly/3VX7Af3

[31] Ben Gvir to get newly created role of national security minister in deal with Likud, Times of Israel, November 25, 2022. Access Date: January 25, 2022. Retrieved From:

https://www.timesofisrael.com/likud-said-to-make-progress-in-coalition-talks-with-otzma-yehudit-shas/

[32] Shira Rubin, Israeli court disqualifies senior minister, throws government into chaos, washingtonpost, January 18, 2023. Retrieved From:

https://www.washingtonpost.com/world/2023/01/18/deri-ineligible-israeli-supreme-court/

[33] Israel Supreme Court tells Netanyahu he must fire minister, Reuters, January 18, 2023. Retrieved From:

https://www.reuters.com/world/middle-east/israel-supreme-court-strikes-down-appointment-minister-deri-court-spokesman-2023-01-18/

[34] Randall Schweller, “Neoclassical Realism and State Mobilization: Expansionist Ideology in the Age of Mass Politics,” in Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, ed, Op.cit. pp. 227–250.

[35] Fareed Zakaria, From Wealth to Power: The Unusual Origins of America’s World Role (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1998). JSTOR, Access Date: January 25, 2022. Retrieved From:

https://doi.org/10.2307/j.ctvzcz5bq

[36] Randall L. Schweller, Unanswered Threats: Political Constraints on the Balance of Power (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006), pp. 11–13. Access Date: January 25, 2022. Retrieved From:

http://gen.lib.rus.ec/book/index.php?md5=c7dac28fa39247adb682db2c7dfcfe50

[37] Ibid.

[38] Ibid.

[39] Norrin M. Ripsman, “Neoclassical Realism and Domestic Interest Groups,” in Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, Op.cit,

[40] Zipi Israeli and Ruth Pines, National Security Index: Public Opinion, 2020-2021, Op.cit.

[41] Zipi Israeli and Ruth Pines, National Security Index: Public Opinion, 2020, The Institute for National Security Studies, January 2021. Access Date: January 25, 2023. Retrieved From:

https://www.inss.org.il/publication/strategic-survey-survey/

[42] Zipi Israeli and Ruth Pines, National Security Index: Public Opinion, 2020-2021, Op.cit.

[43] Neoclassical Realism and Domestic Interest Groups, in Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, Op.cit,