تشير بدايات عام 2023 الى تفاعل عدد من المحفزات الدافعة للعمل الاهلى ودوره الخيرى والرعائى. محفزات مرتبطة بمداخل عام 2022 وتوافر الإرادة السياسية والمجتمعية فى زيادة عمليات ربط المنظمات الأهلية بالمبادرات الرئاسية، كما تعكسها تجربة تحالف العمل الاهلى التنموى، وتفعيل بعض اطر المجتمع المدنى من خلال إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإعادة تشكيل المجلس القومى لحقوق الإنسان، ومن قبل إصدار القانون الجديد 149 لعام 2019 ولائحته التنفيذية، وتنامى الخطاب الرسمى الداعم للنهج التشاركى فى مجالات التنمية، وتوفيق وإشهار 32 ألف جمعية أهلية من إجمالى 52 ألف جمعية (قبل التوفيق).
ولكن يبقى التساؤل هل نحن أمام صياغة جديدة للمجتمع المدنى ومنظماته؟ أم أننا أمام رؤية ومنهاج عمل حاكم للعلاقة بين الدولة وأحد مكونات العمل الأهلى الرئيسية (الجمعيات الأهلية)؟. أهمية السؤال ترتبط بأجندة الحوار الوطنى، وما تطرحه من قضايا متشابكة ومتعددة تتقاطع جميعها مع أهمية وجود مجتمع مدنى راسخ يتطلب بناؤه، لتعزيز مفهوم الدولة الوطنية ومواجهة العديد من التحديات ومظاهر الخلل المجتمعية، مثل: قضايا التطرف (الدينى واللادينى)، والعنف بدرجاته واشكاله المتعددة، والاستقطاب السياسى، والسيولة الاجتماعية، وتنامى مؤشرات مجتمع الفقاعات والانغلاق والعزلة الاجتماعية، واتساع الفجوة الجيلية لاسيما بين أجيال المراهقين والنشء والشباب على مستوى الأفكار والهوية والانتماء والنظرة الى المجتمع والدولة. بمعنى أدق إن تراجع درجات التجانس والتماسك المجتمعى مع التحديات الاقتصادية والاستقطاب السياسى يتطلب بناء منظومة متكاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية الفعالة والمستندة الى رؤية وقناعات مجتمعية داعمة للإصلاح والبناء، وهو ما يمكن الرهان عليه من خلال تفعيل أطر المشاركة الثلاثية بين القطاعات الثلاثة الحكومى والاهلى والخاص.
انطلاقا من هذا التساؤل، يمكن التأكيد على عدد من المرتكزات لبلورة تلك الرؤية وتحديد الأهداف والمسارات وأولوياتها: دراسة وتقييم تجربة المجتمع المدنى، لاسيما مرحلة الانطلاق فى التسعينيات وحتى الآن، لاستخلاص الدروس والنتائج التى فرضتها سمات ضعف المجتمع المدنى المصرى وأخلت بكثير من أدواره ومسئولياته وقيمه. وبالقدر الذى بدت معه بعض منظماته سبباً فى زيادة المشاكل وأوجه الخلل الذى أصاب المجتمع المصرى، وليس سبيلا إلى حل تلك المشاكل أو مواجهة اختلالاتها، الأمر الذى يطرح فكرة حساب التكلفة السياسية وتحديد الاسهام الاقتصادى والاجتماعى والثقافى للمنظمات الاهلية.
ـ أهمية فهم الفرق بين المجتمع المدنى والمجتمع الأهلى لتفهم طبيعة وحجم إسهام المنظمات الأهلية، استناداً إلى طبيعة المكونات التنظيمية. فالمجتمع المدنى يقوم على التنوع الاجتماعى والثقافى ويرتكز على التنظيمات والروابط والتحالفات غير الرسمية القادرة على مواكبة التطور الاجتماعى والثقافى والسياسى والاقتصادى. بينما غالباً ما يرتكز المجتمع الأهلى على الارتباط الإثنى والعرقى والروابط التقليدية. لذا يبقى التكامل بين منظمات المجتمع الأهلى ومنظمات المجتمع المدنى أمرًا حتميًا لتعزيز المشاركة المجتمعية وتنظيمها وتفعيل مكوناتها بالقدر الذى يعظم من قدرات الدولة وقدرتها على تنفيذ خططها التنموية والإصلاحية، فالمنظمات الأهلية تمثل الإطار القاعدى والأفقى للمجتمع، نظرًا لما تعبر عنه عملية تكوينها وأدوارها الرعائية والخيرية البسيطة، وما تحمله من قيم تكافل وتضامن. وبالتالى تبقى أدوار ومنظمات المجتمع المدنى فى طابعها ووظائفها وقيمها ممثلة للإطار الرأسى للمجتمع والمخترق لكل شرائحه وفئاته، فالوظائف المتعددة للمجتمع المدنى تتطلب وعيًا مجتمعيًا ونخبويا، وتبلور قوى مدنية قادرة على إعادة تنظيم مكونات المجتمع المدنى بالقدر الذى يمكنه من لعب أدواره التنموية والحقوقية والرعائية والتوعوية.ان انتهاج سياسات وإجراءات من شأنها تحقيق «الأمن الاجتماعى» للمجتمع وتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة للمواطنين تمثل فقط نقطة بداية وقاعدة بناء لعلاقة المواطن بمجتمعه ودولته، ومن ثم تكون نقطة الانطلاق مرتهنة بتفعيل منظمات المجتمع المدنى والاهلى جنباً الى جنب مع منظمات القطاع الخاص والحكومة، لتنظيم التفاعلات المجتمعية وحركة المواطنين عبر أدوار ومسئوليات واضحة. تحديد طبيعة العلاقة بين المجتمع المدنى والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان والتأثير المتبادل، ومردود ذلك على نطاق وحجم فاعلية الاستراتيجية، فضلا عن موقع تلك العلاقة على الأجندة الوطنية الدافعة لعملية البناء والتنمية.
ـ الوعى بعمق التناقضات التى أظهرتها محاولة المزج بين تركيبة وثقافة المجتمع التقليدى وبين الأطر الحداثية ومكوناتها الثقافية والنخبوية وأبنيتها المؤسسية والتنظيمية، وما أحدثته من شقوق وتفكيك وتشوه فى البنية الاجتماعية للمجتمع، حيث كانت متطلبات التوفيق بين الثقافتين بدون تحديد لماهية المجتمعات وجوهر ثقافتها التقليدية سبيلاً لهذا الكم من التناقضات التى يمكن رصدها عبر اتجاهات الفكر المصرى وتطورات العقل الجمعى وتعبيرات الوجدان. فحالة الحداثة القشرية فى مجتمعاتنا ومحاولة مزجها مع الثقافة التقليدية، ساهمت فى طرح ما يشبه التناقض بين الهوية المصرية الام والهويات الفرعية والسعى نحو تجاوز العمق الحضارى، ومن ثم كان التراجع والتمحور حول الروابط التقليدية والولاءات الاولية والانتماءات الى ما دون الدولة كسبيل لمواجهة تلك التناقضات والمحافظة على الذات والمصالح والمكانة، وهو ما انعكس بوضوح على خريطة توزيع الجمعيات الاهلية ومنظومة القيم الحاكمة لمنظمات المجتمع المدنى. بمعنى أدق، إن تفعيل مقومات المجتمع والمواطنين، تتطلب رؤية متكاملة من السياسات والإجراءات التكاملية بين القطاعات الثلاثة (الاهلى والخاص والحكومى) لاسيما فى مجالات التعليم والثقافة والصحة بهدف تعزيز الوعى المعرفى والعقل الجمعى وتقوية البنيان الاجتماعى عبر تنظيم وتكامل مؤسسات المجتمع الاهلية والمدنى.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 6 فبراير 2023.