عقب التغيرات السياسية التي شهدتها الجزائر، منذ نهاية عام 2018، وما تبعها من الإطاحة بنظام «بوتفليقة»، وتولي الرئيس عبد المجيد تبون السلطة، في عام 2019، حملت السياسة الخارجية للجزائر ملامح بارزة تتضح أهم معالمها في محاولة تفعيل مكانتها كـ«فاعل إقليمي» في شمال أفريقيا وجنوب المتوسط. ففي ضوء التحديات السياسية والأمنية التي تفرض نفسها على الصعيدين، الإقليمي والدولي، وفي إطار مختلف تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية وخاصة تلك المتعلقة بمجالات الطاقة؛ تبدو محاولات الجزائر في تصدر المشهد كـ«فاعل»، حيوي ومؤثر، سواء بالنسبة لدول جوارها الجغرافي، في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، أو بالنسبة لدول جنوب أوروبا.

وتعتمد الجزائر في محاولاتها، تلك، على اعتبارات عدة، منها ما تمتلكه من موارد كبيرة للطاقة، خاصة الغاز الطبيعي؛ إضافة إلى موقعها الاستراتيجي المتميز، كونها إحدى أهم الدول في شمال أفريقيا، التي تربط دول شمال المتوسط بعمق القارة الأفريقية، حيث الصحراء الكبرى ودول الساحل الأفريقي الغنية بالموارد الطبيعية.

واللافت، في إطار مساعي صانع القرار السياسي لتعزيز دور الجزائر كـ«فاعل إقليمي»، هو الدخول على خط عدد من الملفات الإقليمية والدولية، وتحديدًا تلك التي لها تأثير مباشر فى مستقبل علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية مع محيطها الجغرافي. بالتالي، تتقاطع مسارات السياسة الخارجية للجزائر؛ التي تتسم، في المرحلة الحالية بالنشاط والاستباقية عبر التعاطي مع القضايا المتداخلة، وذلك على أكثر من جانب.

هناك مسار التفاعل مع أزمات دول شمال أفريقيا.، حيث أسهمت التحولات الراهنة التي طرأت على دول الجوار الإقليمي للجزائر فى تعرض دوائرها الجيوسياسية لتحديات أمنية، أهمها تلك التي تتمثل في انهيار الدولة في ليبيا، وطول المرحلة الانتقالية في تونس؛ فضلًا عن قضية الصحراء الغربية، والمشكلات المثارة مع المغرب بشأنها، ثم تبعات دخول القوى الدولية الكبرى على خط هذه الأزمات المحيطة بالدولة الجزائرية. وتطرح هذه القضايا تحديات أمام الدور الإقليمي الذي تحاول أن تلعبه الجزائر في حل النزاعات الإقليمية للدول المجاورة. من ثم، تجد الجزائر نفسها مضطرة إلى تنشيط وتفعيل دورها الإقليمي بشكل يتناسب مع إمكاناتها، خاصة المتعلقة بالطاقة، في جنوب المتوسط وشمال أفريقيا؛ فهي، وإن كانت أكبر مُصَّدِر للغاز في أفريقيا، إلا أنها، في الوقت نفسه، تضع نصب أعينها الوضع التنافسي، سياسيًا، خصوصًا مع مصر، في منطقة الشمال الأفريقي؛ سواء فيما يتعلق بالملف الليبي، أو فيما يخص طلب انضمام إلى مجموعة «بريكس»، وغير ذلك من الملفات.

هناك أيضًا مسار التفاعل مع إشكاليات دول الساحل الأفريقي حيث يدفع الموقف الجزائري غير المُرَحِب بفرنسا، خصوصًا في جوارها الجنوبي، إلى بحث الجزائر عن آليات جديدة لتعزيز دورها في منطقة الساحل. أضف إلى ذلك أن الجزائر تحاول التركيز على الأسواق الأفريقية، التي باتت المكان الأنسب لتصدير منتجاتها، بعد أن واجهت معوقات كبيرة في اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، في ظل غزو المنتجات الآسيوية، خصوصًا من الصين والهند، منطقة التبادل التجاري العربية. من ثم، تحاول الجزائر التركيز على الأسواق الأفريقية، في ظل علاقاتها سياسيًا واقتصاديًا، مع دول القارة؛ خصوصًا مع دخول اتفاقية التبادل الحر بين الدول الأفريقية حيز التنفيذ منذ نهاية 2020، ما يسمح بتحقيق الاندماج الإقليمي والتكامل الاقتصادي.

وهناك، إضافة إلى ذلك وما قبله، مسار التفاعل مع دول شمال البحر المتوسط، أو بالأحرى التفاعل مع الشراكة الأورومتوسطية، حيث أسهمت تداعيات الحرب في أوكرانيا على أسواق النفط والغاز في لفت الأنظار الدولية، خصوصًا الأوروبية منها، إلى ضفة المتوسط الجنوبية؛ وهو ما زاد من أهمية الجزائر، ليس فقط بصفتها موردًا للغاز إلى إيطاليا وإسبانيا ودول جنوب أوروبا؛ بل أيضًا كـ«لاعب رئيسى»، كونها تحتل المركز الثالث في إمداد أوروبا بالغاز بعد روسيا والنرويج، بل إن ما يجري هناك، في شرق أوروبا، دفع الجزائر إلى التحكم الواضح في تحديد إيطاليا بديلًا عن إسبانيا، بصفة «الموزع الرئيسى» للغاز الخاص بها في أوروبا.

فقد قررت الجزائر، بشكل لافت للنظر، تغيير اتجاهها الاستراتيجي نحو إيطاليا، التي باتت، اعتبارًا من 26 مايو 2022، «الموزع الحصري للغاز في أوروبا» بعد أن كانت شريكة في هذا مع إسبانيا. جاء ذلك بعد إعلان الرئيس الجزائري بأن «إيطاليا ستكون الموزع للغاز الجزائري إلى أوروبا بعد زيادة الإمدادات إليها»، خلال مؤتمر صحفي في روما مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا.ويأتي القرار الجزائري في إطار أزمة دبلوماسية متصاعدة مع إسبانيا؛ بعد تبني مدريد، أواخر مارس 2022، مبادرة «الحكم الذاتي» المقترحة منذ عام 2007، من جانب المغرب لإيجاد تسوية لمشكلة الصحراء الغربية، المتنازع عليها منذ عام 1975، بين المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر.

وهكذا، فإن الجزائر، عبر هذه المسارات، التي تتقاطع في إطار تفاعلات السياسة الخارجية، تسعى إلى البحث عن تحالفات دولية وإقليمية جديدة لأجل تعزيز حضورها خارج المنطقة المغاربية؛ وذلك عبر عدد من المشروعات العملاقة، التي تستهدف الربط مع مستويات دولية وإقليمية أعلى.

وتكفي الإشارة، كأمثلة، إلى مشروعات أنابيب الغاز إلى إيطاليا، والطريق العابر للصحراء الأفريقية، فضلًا عن محاولة الانضمام إلى مجموعة «بريكس» الهادفة إلى تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي بين أعضائها؛ إذ، تتطلع الجزائر للانضمام إلى المجموعة، في مسعى لتعزيز حضورها، ليس فقط الاقتصادي، بل السياسي أيضًا، خارج محيطها المغاربي والأفريقي، خاصة أن مسألة عضوية المجموعة ترتبط بالعلاقات الدولية والحسابات الاستراتيجية والتحالفات، بالنظر إلى ما يشهده العالم من تحولات جيوسياسية راهنًا.