د. خالد حنفي علي

باحث مصري، مؤسسة الأهرام

 

بفعل الخيال والعاطفة وما تثيره أوقات الأزمات والتغيرات المتسارعة من ضغوطات على الأفراد والجماعات والدول، قد يعود الزمن أحياناً إلى الوراء، عندما تلعب مشاعر الحنين للماضي أو ما اصطلح عليه في الأدبيات بـ"النوستالجيا" Nostalgia دوراً مؤثراً في ديناميات السياسة العالمية والإقليمية والداخلية، أسوة في ذلك بمجالات الأدب والفنون والسينما وغيرها.

تتجلى شواهد النوستالجيا، عندما يحن قادة مثل بوتين وبايدن وترامب وأوربان وغيرهم في العالم إلى أزمنة في الماضي كانت بلادهم فيه قوية ثم يستخدمون هذه المشاعر في خطاباتهم وبرامجهم السياسية، إما لنيل الدعم الداخلي أو إدارة الصراع على النفوذ والمصالح أو استعادة المكانة في السياقات الخارجيةـ. يتمدد الحنين للماضي على نطاق واسع إلى الشرق الأوسط بسبب تأزم الحاضر وصراعاته داخلياً وإقليمياً، ناهيك عن هيمنة عقلية ماضوية على ثقافة المجتمعات في المنطقة.

فبينما يستدعي أردوغان في تركيا الماضي العثماني لتبرير سياساته الداخلية والخارجية، يختلف الفاعلون السياسيون في دول عربية أخرى حول الأزمنة التي يحنون وفقاً لطبيعة أغراضهم، فثمة من يرغبون بالعودة إلى أنظمة تسلطية أزاحتها الثورات العربية في العام 2011 أو حتى نظم ملكية ما قبل الاستقلال بصياغات دستورية حديثة، فيما يتوغل آخرون في الماضي البعيد، مثل تنظيمات الإرهاب كداعش والقاعدة وغيرها ليستدعون نماذج دينية تاريخية ولت كـ"الخلافة الإسلامية".

مع انتشار النوستالجيا في صبغتها السياسية، نشأت جدالات بين من يعتبرونها "وباءاً متعولماً" يعبر عن قصور فكري قد يعيق القدرة على التكيف مع الحاضر أو الاستعداد للمستقبل، وآخرون ينظرون لها كملاذ للدول والمجتمعات لموازنة مجتمع المخاطر العالمي– كما يسميه أولريش بيك- الذي لا يكف عن إنتاج أزمات ومخاطر تثير القلق والخوف واللايقين. وليس في ذلك الجدال فارقاً بين دول متقدمة ونامية أو نظم تسلطية وأخرى ديمقراطية، إلا من حيث الانتشار والدوافع، وما قد يثيره الحنين السياسي من إشكاليات.

معنى الحنين للماضي وأبعاده السياسية

الحنين للماضي هو بالأساس عاطفة إنسانية يشعر فيها المرء بالسعادة إثر التعلق بقيم وعلاقات وأشخاص وأماكن في الماضي على نحو إيجابي، ويحزن في الوقت ذاته لفقدها في الحاضر. تعمل هنا، الذاكرة البشرية على استرجاع الماضي بطريقة انتقائية، أي تحن لما هو أفضل، وتتجاهل الأسوأ. وبينما برزت حالة النوستالجيا تلك قديماً كتعبير عن معضلة مرضية تتمثل في ألم يعانيه الإنسان لخوفه من عدم العودة إلى الوطن، فإنها انتقلت لاحقاً إلى مجالات الآداب والفنون والسينما وغيرها لتشمل الحنين للماضي بشكل عام كنمط قيمي وحياتي مفضل[1].

تنشأ هذه المشاعر الحنينية لدى الأفراد والجماعات كرد فعل "تلقائي" على وتيرة الصدمات والتغيرات المتسارعة التي أحدثتها الأزمات العالمية والثورات الصناعية في العالم في بنية النظم والقيم والعلاقات داخل المجتمعات. وتكمن أهميتها بالأساس في أمرين: الأول، نفسي، فالحنين للماضي قد يولد احتراماً للذات والثقة والتوازن، بما يساعد الأفراد والجماعات على مواجهة الأزمات. ذلك أن إدراك الفرد أو المجتمع تجاوزه لأزمات الماضي قد يشكل لديه شعوراً محفزاً على مجابهة نظيراتها في الحاضر. لذا، تخصص الدول أياماً وطنية للانتصارات في الحروب وتضع التماثيل للزعماء السياسيين التاريخيين في الميادين العامة والنصب التذكارية للضحايا، كأدوات رمزية لشحذ الذاكرة الوطنية وبث الثقة الجماعية في المجتمع[2].

أما الأمر الثاني، فهو هوياتي، فالحنين للماضي قد يسهم في بناء الهويات الفردية والجماعية، لأن الذاكرة، وهي تسترجع أحداث الماضي المفضل تحدد للأفراد والجماعات من أين جاءوا وكيف نشأوا، وبالتالي تساعد على تشكيل تصوراتهم عن أنفسهم والآخرين، وما ينبغي أن يكون عليه الحاضر والمستقبل[3].

هنا، لا تمثل السرديات الفردية والعائلية والوطنية التاريخية مجرد قصص أو حكايات عن أحداث مضت لكنها تستدعي معها أنساقاً قيمية وعلاقات اجتماعية وسياقات مكانية عاشها الفرد وتشارك فيها مع المجتمع، وبالتالي يصبح حنين جماعة ما لفترة تاريخية معينة محفزاً على تشارك القيم والمعاني وأنماط العلاقات الاجتماعية التي سادت حينها[4].

على أساس هذين البعدين النفسي والهوياتي، تساعد مشاعر الحنين للماضي على بناء "عقلية المقارنة" لدى المجتمعات بين سياقات وقيم ونمط الحياة في الماضي والحاضر في كافة مجالاته، بما فيها السياسية. فمع وجود نظم حاكمة في الدول الحديثة تتعاقب على المجتمعات كل فترة زمنية سواء طالت أو قصرت، فقد خلق ذلك ذاكرة سياسية منتظمة تتيح مقارنة أداء تلك النظم في الماضي والحاضر.

هنا، يمكن القول إنه كلما كانت النظم السياسية، أياً كان شكلها تسلطية أم ديمقراطية، لا تلبي تطلعات المجتمعات في الحاضر تنامت أكثر مشاعر الفقد لما كان أفضل بالماضي. لذلك، فإن الحنين السياسي للماضي هو بالأساس تعبير مشاعر فرد أو جماعة أو حتى دولة ما بتمجيد حقبة سياسية تاريخية، واعتبارها العصر الذهبي الذي كانت فيه الدولة أو الأمة أو المجتمع أفضل وأقوى[5].

لكن هذه المشاعر السياسية تعرضت للنقد الشديد، إذ اعتبرها البعض "غير عقلانية"، وتنظر إلى الأحداث الماضية بمنطق إيجابي دون إدراك أن لها وجهاً سلبياً، ناهيك عن أنها لن تسفر في الأخير عن عودة التاريخ أو الزمن إلى الوراء[6]. مع ذلك، فقد فتح الجدال بين مفكرين وفلاسفة حول التاريخ ذاته بين "الحتمية التاريخية" لماركس، و"العود الأبدي" لنيتشه، ودورة صعود وهبوط الأمم والمجتمعات لابن خلدون مجالاً للاهتمام بمدى تأثير الحنين السياسي للماضي في الحاضر والمستقبل. وبدت الرغبة في الماضي تأخذ شكلين: أحدهما، تقديسي، أي استدعائه كما هو دون إدراك تغير الظروف والملابسات، والآخر نقدي، أي استلهام العبر والدروس من التاريخ من أجل تطوير التعامل مع الحاضر والمستقبل.

تحولت الرغبات الحنينية إلى واقع يؤثر في الظواهر السياسية ويلفت نظر الباحثين لها، عندما بات لديها حضوراً واضحاً لدى تيارات دينية وشعبوية وقومية أخذت تصاعداً في السياسة العالمية رداً على انتشار تداعيات العولمة خلال العقود الماضية على الهويات المحلية، وتنامي أزمات الهجرة والاقتصاد العالمي وتراجع دولة الرفاه في الغرب. من هنا، بلورت بعض الأدبيات مكونات أساسية للحنين السياسي للماضي منها، الإحساس بالخسارة للعصر الذهبي للأمة مقابل اعتبار العصر الراهن متردياً، والشعور بانهيار القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية، وفقدان الاستقلالية الذاتية والبساطة والعفوية والأصالة والنقاء، ومن ثم يصبح الحنين للعصر السياسي الذهبي مصدراً لاستعادة هذه الأمور المفقودة[7].

واعتمدت التيارات الدينية والقومية في تغذية الرغبات الحنينية على استثمار الخوف ونشر الكراهية والعداء ضد الآخر، وتصوير سياسات الحاضر على أنها أفقدت المجتمعات ما كانت تملكه في الماضي من هويات وقيم أصيلة وغيرها تارة بسبب فساد النخب والمؤسسات الديمقراطية واختطاف السلطة من الشعب، كما ترى الاتجاهات الشعبوية، وتارة أخرى بسبب الأنظمة التي ترفض العودة لحكم الإسلام من وجهة نظر التيارات الدينية خاصة المتطرفة.

دورة توظيف الحنين وأنماطه

أخذ الحنين للماضي بعداً توظيفياً في المجال السياسي، أي يستخدمه القادة والجماعات والدول لتحقيق أغراض سياسية في الحاضر، كتعزيز للهويات والتماسك الاجتماعي، أو نيل تأييد شريحة من الناخبين أو شرعنة بعض الأنظمة السياسية عبر وصلها بسياسات ناجحة في الماضي، كي تستمد الدعم الاجتماعي. ومن خلال هذا التوظيف، تحول الحنين للماضي إلى جزء أساسي من خطابات وسياسات وممارسات الفاعلين السياسيين في الحاضر.

ووفقاً لكل من كامبانيلا وداسو، تمر دورة توظيف الحنين للماضي في العملية السياسية بعدة مراحل أساسية[8]، أولها، العصر الذهبي، أي تذكير المجتمع بالفترة التاريخية التي كانت فيها الأمة أفضل وأقوى حالاً. وثانيها، الانقطاع الكبير، أي أن هنالك انقطاعاً في هذا العصر بهدف إحداث المقارنة وتأجيج مشاعر الماضي. وثالثها، السخط الحالي، أى رفض السياسات الراهنة، خاصة إذا كانت الفاعل السياسي المستخدم للحنين للماضي ليس في السلطة أو ينافس على الوصول لها. لكن يمكن إضافة مرحلة رابعة لذلك، تتعلق بسياسات الاستعادة، أي طرح سياسات تستعيد الماضي إما جزئياً أو كما هو أو بشكل نقدي.

على سبيل المثال، رفع ترامب شعار "أمريكا عظيمة مرة أخرى" لتوسيع قاعدته السياسية والاجتماعية في الانتخابات الأمريكية في عام 2016، فذكّر ناخبيه في خطاباته وبرنامجه السياسي بقيمهم الأصيلة في الماضي، وأنها تعرضت للتراجع والتدهور بفعل توسيع الالتزامات الأمريكية العالمية والمهاجرين، ومن ثم ولّد غضب مؤيديه تجاه منافسيه الديمقراطيين في تلك الانتخابات، وبالتالي، فعندما دخل البيت الأبيض، صاغ سياسات داخلية وخارجية تنطوي على العزلة والحمائية ومعاداة المهاجرين وتقليص الالتزامات الأمريكية إزاء الحلفاء.

بالمثل، وظّف تنظيم "داعش" الحنين للماضي عبر الترويج لاستعادة الخلافة الإسلامية، من خلال تذكير الشباب في خطاباته بالأزمان المزدهرة التي كان المسلمون يقودون فيها العالم، ثم يبرر الانقطاع بفعل ما يعتبره "أنظمة كافرة"، بالتالي يحفز الغضب ضدها. وأخيراً، يستخدم هذه المراحل في صياغة نهج يستند على العنف ضد الآخر وإلغائه لكونه يعيق استعادة الماضي[9].

إلا أن توظيف الحنين للماضي لم يكن قاصراً على قادة وتيارات تميل إلى التطرف الفكري وإن كان أكثر حضوراً لديها بفعل عقلياتها الصراعية مع الحاضر، إذ أخذ هذا الحنين أنماطاً مختلفة في السياسة العالمية والإقليمية والداخلية وفقاً لطبيعة أهداف الفاعل السياسي والسياقات المحفزة، منها على سيبل المثال لا الحصر:

 - النمط الأول: استعادة النفوذ والمكانة: فقد يصبح الحنين للماضي جزءاً من سياسات القادة السياسيين لاستعادة المكانة والنفوذ لدولهم ومواجهة المنافسين. فمثلاً، يستدعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاباته الحسرة على تفكك الاتحاد السوفيتي، ويعتبره "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين" لكن لا يتوقف عند هذا الحد، وإنما يسعى إلى لملمة شتات الإمبراطورية الروسية القديمة[10]. لذا، يستخدم بوتين هذا الحنين في إحياء الشعور القومي الروسي ومواجهة القوى الغربية والدفع بنظام تعددي دولي، وهو ما برز في تبريره للغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث اعتبره من نتائج انهيار الاتحاد السوفيتي.

في المقابل، فإن الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو يقود حرباً بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، يظهر حنيناً براجماتياً لاستعادة القيادة الأمريكية في العالم وترميم تحالفاته الخارجية وإعادة الاهتمام الأمريكي بقضايا متعولمة كالمناخ والهجرة والأوبئة، لاسيما بعد سياسات العزلة والحمائية التي انتهجها ترامب. الحنين ذاته، ظهر قبل سنوات عندما رفع مؤيدو البريكست البريطاني شعار "استعادة بلادنا" في العام 2016. وبدا الخروج من الاتحاد الأوربي انتصاراً عاطفياً لأولئك الذين يرغبون في استعادة مكانة بريطانيا أيام زمن الإمبراطورية التي كانت تحكم العالم، حيث لا يستطيعون التعامل مع دولتهم على أنها جزيرة عادية في أوروبا[11].

- النمط الثاني: دعم وشرعنة السياسات: أي يتم استخدام الحنين للماضي من القادة والحكومات لنيل الدعم السياسي وشرعنة السياسات الداخلية والخارجية، فمثلاً فإن حنين الرئيس الراحل هوجو شافيز في فنزويلا إلى سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية، والمضي على خطاه الثورية لعب دوراً في دعم مناهضته للولايات المتحدة والسياسات الإمبريالية[12].

الأمر ذاته مع رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذي لا يكتفي برفض السياسات الأوروبية الجماعية وكان آخرها رفض العقوبات على روسيا، بل يثير جدلاً واسعاً بإشارته السياسية وحنينه للماضي لتكريس سياساته الشعبوية، فمثلاً ارتدى وشاحاً في نوفمبر الماضي عليه خريطة "المجر الكبرى" قبل الحرب العالمية الأولى، مما أثار انتقادات دول أوروبية مجاورة كانت ضمن هذه الخريطة[13].

بدوره، وظّف أردوغان في تركيا الماضي العثماني لخدمة سياساته الداخلية والتدخلات الخارجية في المنطقة، حتى أن وزير دفاعه خلوصي أكار برر تواجد أنقره العسكري في غرب ليبيا بالتاريخ المشترك مع المنطقة منذ 500 عام[14]، بينما يحن معارضوه في المقابل للحقبة العلمانية الكمالية، بل إنهم يراهنون عليها في خطابهم السياسي وهو يستعدون لمواجهة أردوغان في الانتخابات التي ستعقد في مايو من العام الجاري.

يظهر توظيف الحنين للماضي أيضاً وإن كان بشكل مغاير في حالة الصراع العربي- الإسرائيلي. فبينما تستخدم إسرائيل سردية الحنين اليهودي لأرض الميعاد لشرعنة دولة الاحتلال على حساب الحقوق العربية المشروعة، فإن الفلسطينيين يواجهون ذلك بحنين هوياتي وترسيخ لذاكرة الماضي، حتى أصبحت مفاتيح المقدسيين رمزاً لا يغادر ذاكرة المقاومة، ويتم استحضارها كلما حلت ذكرى النكبة الفلسطينية.

- النمط الثالث: تلبية احتياجات الحد الأدنى: هنا قد يكون الحنين للماضي بهدف تلبية احتياجات الحد الأدنى، إذ تتم المقارنة بين حاضر أسوأ وماضي أقل سوءاً، وإن لم يكن مثالياً، من وجهة نظر البعض. ينشأ ذلك الحنين عندما تتعرض المجتمعات لصدمات وتحولات كبرى تتعرض للتعثر ولا تسهم فقط في تحسين حياة المجتمعات بل تفقدها الحد الأدنى الذي كان متوفراً في الماضي.

يمكن تلمس هذا النمط في مرحلة ما بعد الثورات العربية، إذ باتت بعض الشرائح السياسية والاجتماعية في دول المنطقة تحن إلى المراحل التي سبقتها، مدفوعة بما أفرزه تعثر الثورات من استقطابات اجتماعية وصراعات أهلية مسلحة وتدخلات خارجية، وتراجع قدرة الأنظمة والفاعلين السياسيين على التوافق السياسي أو إدارة الأوضاع المعيشية والاقتصادية، بما يجعل المجتمعات لا تثق في تحسين أحوال الحاضر أو المستقبل مقارنة بما كان يتوفر لهم من حد أدنى من تلبية الاحتياجات في الماضي.

يظهر ذلك في مؤشرات تراجع الثقة في الحاضر واعتبار الماضي كان أقل سوءاً. فمثلاً، اتفقت الأغلبية في استطلاع نشرت نتائجه "الجارديان" في ديسمبر 2020 وشمل تسعة دول عربية (شهدت إما حروباً أو احتجاجات أو ثورات شعبية) على أن الأوضاع المعيشية باتت أكثر تردياً مقارنة بفترات ما قبل الثورات، بينما تفاوتت نسب الندم من عدمه على المشاركة في الاحتجاجات، وفقاً للشرائح العمرية، فمال الأكبر سناً للندم مقارنة بالأعمار الأقل[15].

يتجلى أيضاً الحنين للماضي في التفاعلات السياسية للواقع العربي عبر استعادة بعض أنصار نظم ما قبل الثورات لحضورهم السياسي، مثلما حال عودة أنصار نظام القذافي إلى المشهد الليبي، بعد أكثر من عقد على سقوطه ونشوب حروب أهلية وعدم القدرة على التوصل إلى تسوية سياسية[16].

وولّد السياق العربي المأزوم أيضاً أنماطاً أخرى للحنين السياسي يتلاقى فيها ما هو تلقائي وتوظيفي، كما حال مساعي الحركات المناطقية والانفصالية في العودة إلى مرحلة ما قبل الدولة الوطنية الموحدة كما في جنوب اليمن، وشرق ليبيا والأكراد في شرق سوريا. وتعبر هذه الاتجاهات الحنينية عن تعثر دولة الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي في أداء وظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، ومساعي تلك الحركات لتوظيف فشل الحاضر في الحنين إلى نماذج ماضوية من جهة أخرى.

تفسيرات متداخلة وأوزان متفاوتة

ينطوي تفسير انتشار الحنين للماضي في العالم والإقليم على عوامل متعددة ومتداخلة وهي تتفاوت أوزانها النسبية من حالة إلى أخرى. فبرغم عولمة النوستالجيا السياسية، لكن تظل محفزات بروزها مختلفة، ووفقاً لطبيعة سياقات وظروف الدول والمجتمعات. فالحنين لحقبة تاريخية أو عصر ذهبي للأمة قد يمثل رد فعل على عوامل نفسية تتعلق بالإذلال والإهانة التي تتعرض لها المجتمعات والدول في الحاضر، فيصبح عندها الماضي مفضلاً لها لأنه يمثل لديها ذاكرة التقدير والاحترام والكرامة.

هنا، يشير برتران بديع [17] إلى أن تعرض بعض الدول لأشكال من الإذلال والإهانة التاريخية، كالانتقاص من السيادة، وإنكار المساواة، والوصم، والإقصاء، قد يؤدي إلى تأجيج المشاعر المعادية لدى المذلولين ودفعهم إلى سياسات مضادة، كالجنوح والاعتراض. ويمكن هنا اعتبار الحنين للماضي جزءاً من هذه السياسات المضادة لمن تعرضوا للإهانة والإذلال.

على سبيل المثال، ينطوي أحد تفسيرات إقدام روسيا على غزوها لأوكرانيا على شعورها بالإهانة والإذلال بسبب الانتقاص من سيادتها في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث تمدد حلف "الناتو" في النطاق الأمني الحيوي لروسيا، أي الدول التي كانت تنتمي سابقاً للاتحاد السوفيتي ومنها أوكرانيا.

أيضاً، قد يفسر رد الفعل القومي على العولمة وما أثارته من تداعياته كزيادة موجات المهاجرين من الجنوب إلي الشمال حالة الحنين للماضي في العديد من المجتمعات الغربية التي باتت تخشى على فرصها الاقتصادية والاجتماعية. وأسهم هذا المناخ في توفير بيئة خصبة للتيارات اليمينية المتطرفة وصعود قادة شعبوبين معادين للهجرة لا يخفون مشاعرهم المتعاطفة مع الماضي في مواقفهم وسياساتهم، متجاوزين الأطر المؤسسية التقليدية التي واجهت تراجعاً ديمقراطياً.

الملاحظ هنا، أن العاملين القومي والاقتصادي قد يتمازجان لتفسير الحنين للماضي واتخاذ مواقف سلبية في بعض الحالات إزاء الحاضر مقارنة بالماضي. فعلى سبيل المثال، يشير استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" للأبحاث في ديسمبر 2017 وشمل 38 دولة في العالم إلى أنه كلما كان أداء اقتصاد بلد ما جيداً بدت مواقف سكانه أكثر إيجابية إزاء الحاضر[18].

كشف هذا الاستطلاع حينها أن منطقة آسيا كانت أكثر إيجابية إزاء الحاضر مقارنة بأوروبا وأمريكا اللاتينية اللتين كانتا أكثر سلبية. في المقابل، انقسم المجتمع الأمريكي حول الحاضر، وتباينت وجهات النظر في الشرق الأوسط وأفريقيا. قد تعكس هذه النتائج كيف أن الصعود الاقتصادي الذي تقوده الصين في النظام الدولي جعل الحنين للماضي متراجعاً في آسيا مقارنة بتصاعده في مناطق أخرى.

تعد كذلك البنية الديمغرافية في المجتمعات مفسراً للحنين للماضي، فقد أسهمت سياسات دولة الرفاه في أوروبا في ارتفاع الأعمار، وبالتالي باتت ظاهرة الشيخوخة متغيراً أساسياً يحكم التفاعلات السياسية في دول القارة، إذ يميل كبار السن إلى نماذج ماضوية عاشوها ويرونها أفضل مقارنة بالحاضر. لذلك مثلاً، صوت 59% من المتقاعدين على مغادرة الاتحاد الأوروبي في بريطانيا في عام 2016، مقابل 19% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً[19].

يعزز هذا الأمر ما وجدته إحدى الدراسات الغربية حول الحنين للماضي في أوروبا بأن الشباب الأقل سناً في أوروبا لا يميلون للماضي، على عكس من تجاوزوا الـ35 عاماً خاصة من الرجال بسبب قلق البطالة والخوف من المهاجرين[20]. لكن هذا الاستنتاج لا ينفي أن الشباب في مناطق أخرى في العالم قد يميلون إلى حقب ماضية إذا كان الحنين مرتبطاً بفكرة أيديولوجية، فعلى سبيل المثال، فإن غالبية هيكل المنتمين لتنظيم إرهابي كداعش الذي يسعى لاستعادة الخلافة هم بالأساس شباب.

هنا، يمكن القول إن حنين الشباب لنموذج ديني قد يرتبط أحياناً بأزمات كبرى في المجتمعات والدول، فأحد تفسيرات صعود تيار الإسلام السياسي منذ سبعينيات القرن العشرين في مصر هي الصدمة القومية التي شكلتها هزيمة يونيو 1967، إذ دفعت البعض إلى الحنين لمشاريع دينية بديلة. وأخذ ذلك لاحقاً مغذيات داخلية وخارجية إثر سياسات استخدام الإسلاميين ضد اليسار، ونشوب الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979، والجهاد الإسلامي في أفغانستان في الثمانينيات، ناهيك عن استيعاب هذا التيار في اللعبة السياسية في العديد من النظم العربية قبل الثورات.

وبينما كان هذا الاستيعاب يخلق نوعاً من "الحنين الإدماجي"، كمراهنة جماعات دينية مثل الإخوان على طرح نماذج سياسية دينية تمزج في خطاباتها وبرامجها بين الماضي والحاضر، فإن فشل أولئك وخروجهم من المشهد السياسي في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، ربما أسهم في صعود أكبر للحنين الراديكالي.

اللافت في كل هذه العوامل المفسرة للحنين للماضي أن الرأسمالية العالمية عززت المناخ الحنيني في العالم عبر "تسليع الماضي" من خلال خلق معروض من السلع الثقافية والفنية والسينما والوثائقيات وغيرها التي تلامس الذاكرة التاريخية للمجتمعات وتحفز الرغبات الحنينية. ومع ثورة التكنولوجيا والاتصالات، تمددت أيضاً "رسملة الحنين" تلك إلى الفضاء الإلكتروني، فعملت وسائل التواصل الاجتماعي على خلق ذاكرة لمستخدميها عبر تذكيرهم بتغريدات ومشاركات وصور قديمة لهم لتعزز ارتباطهم الاستهلاكي بها من جهة، وتشكل جسراً يربط بين هوياتهم الافتراضية والواقعية من جهة أخرى[21].

إشكاليات الاستقطاب والتضليل

تطرح ظاهرة الحنين للماضي إشكاليات عديدة تنتج من طريقة التعامل مع مشاعر تفضيل فترة سياسية تاريخية معينة واستخدامها في تفاعلات الحاضر، وهو ما يرتب آثاراً مختلفة من مجتمع ودولة إلى أخرى. أولى الإشكاليات المطروحة وأبرزها هي إمكانية أن يؤدي الحنين للماضي وتوظيفه في سياسات الحاضر إلى "الاستقطاب السياسي"، فتمجيد فترة تاريخية قد لا يكون متفقاً عليها بالأساس بين القوى السياسية داخل المجتمع، بالتالي قد يتحول الحنين إلى كراهية للآخر واعتباره عدواً، حيث يصبح الماضي المفضل لبعض الأطراف هو الذاكرة السيئة للآخرين[22].

على سبيل المثال، فإن توظيف ترامب لمشاعر الحنين للماضي للعودة لما يسمى القيم الأمريكية الأصيلة خلق استقطاباً حاداً في المجتمع الأمريكي تجاوز منطق التنوع داخل النظام الديمقراطي ليصل إلى حد مهاجمة أنصار ترامب مبنى الكونجرس في يناير 2021. بالمثل أيضاً، فإن ثمة انقسامات بين الفرقاء السياسيين حول الذاكرة التاريخية في دول مثل ليبيا وسوريا واليمن وغيرها بين اعتبارها الأفضل والأسوأ.

قد يصبح هذا الانقسام أحياناً نتاجاً لطبيعة الموقف من السلطة الراهنة، فمن يؤيدونها قد يرفضون الحنين للماضي، بينما من يعارضونها قد يميلون إلى العكس. هذه العلاقة الارتباطية أظهرها استطلاع مركز "بيو" للأبحاث السابق الإشارة له في حالات أخرى، مثل جنوب أفريقيا، فالسود لا يميلون للماضي في هذا البلد بحكم معاناتهم منه، والعكس بالنسبة للبيض الذين حكموا البلاد قبل انتهاء نظام الأبارتهيد العنصري[23].

قد تبرز أيضاً إشكالية "التضليل السياسي" نتاجاً لتغول الحنين على عقول المجتمعات، وذلك عندما يتم تصوير مرحلة تاريخية معينة على أنها مثالية بينما كانت لا تخلو من السلبيات أو أنها مهدت لتأزم الحاضر. فمن يحنون في المنطقة العربية إلى أنظمة ما قبل نشوب الثورات قد يتغافلون عن أنها أسهمت في إنتاج أزمات ومعضلات هيكلية أصابت الدولة والمجتمع، كالفقر والبطالة وعدم العدالة والتسلط وغيرها، والتي وفرت بدورها البيئة المحفزة للثورات وتعثرها، ومن ثم الإسهام في أزمات الحاضر.

يظهر أيضاً هذا التضليل في الحنين الداعشي، عندما يخلط بين الدين كمعتقدات مقدسة، والأحداث الدينية التاريخية بما لها من طبيعة نسبية وزمنية. إذ تعمل سردية داعش عندما تستدعي الخلافة الإسلامية على إظهار الربط المزعوم بين نقاء الفترة التاريخية المستدعاة، وأساليب التنظيم ونهجه، ورغبة الشباب في النقاء الديني، وأخيراً، محاولة تصوير أن استدعاء الماضي سيحل أزمات أولئك الشباب في الحاضر سواء أكانت تتعلق بالهوية أو الاحتياجات النفسية والمعيشية[24].

على الجانب الآخر، فإن توظيف الحنين في سياسات الحاضر قد يؤدي إلى إشكالية إرباك سياسي وانعدام الرؤية لتغيرات وحقائق الواقع الراهن، ومن ثم عدم القدرة على تحقيق تلك السياسات. فالحالمون باستعادة بريطانيا كقوة عظمي بعد البريكست اصطدموا بحقائق واقع لن تمكنهم من ذلك، بسبب العوائق الاقتصادية والخسائر التجارية والانقسامات الحزبية الداخلية، ناهيك عن التحديات الجيوسياسية والتي كان آخرها الحرب الروسية-الأوكرانية، حتى أن المؤيدين ذاتهم لمغادرة الاتحاد الأوروبي تراجعوا من 52% في عام 2016 إلى 34% في 2022[25].

لذا، يحذر البعض من محاولات الولايات المتحدة استعادة القيادة أو الهيمنة العالمية مرة أخرى، على نحو ما كان موجوداً في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة[26]، نظراً لأن حقائق الواقع الجيوسياسي العالمي تغيرت مع صعود قوى منافسة، مثل الصين، تملك القدرة والأدوات على المنافسة الدولية، فالنظام الدولي، من وجهة نظر البعض، غادر مرحلة الأحادية القطبية وإن لم تستقر تعدديته القطبية.

ختاماً، فإن انتشار الحنين السياسي للماضي في العالم والإقليم ليس أمراً سلبياً أو إيجابياً في حد ذاته، فقد يتحول هذا الحنين وما يتبعه من استخدامات في سياسات الحاضر إلى عبء مقيد للدول والمجتمعات إن اعتبرته قابلاً للتكرار أو جعلها متقاعسة عن الأخذ بأسباب ومصادر القوة الراهنة، أو على العكس قد يصبح الحنين ملاذاً يمكن الاستفادة منه في تطوير القدرة على التكيف مع الحاضر والاستعداد للمستقبل، لكن ذلك يتحدد وفقاً لطريقة التفكير في الماضي ذاته.


[1] تعبير النوستالجيا Nostalgia برز في القرن السابع عشر على يد طبيب سويسري يدعى يوهانس هوفر، وهو مشتق عن مقطعين باليونانية (nostos)، أي العودة للوطن و( algos)، أي شعور بالألم يغمر الإنسان عن التفكير في أشياء جرت في الماضي.

Marcos Piason Natali, History and the Politics of Nostalgia, Iowa Journal of Cultural Studies 5 (Fall 2004)

https://pubs.lib.uiowa.edu/ijcs/article/29615/galley/137965/view/

[2] Why We Reach for Nostalgia in Times of Crisis, nytimes , 28 July, 2020

https://www.nytimes.com/2020/07/28/smarter-living/coronavirus-nostalgia.html

)[3](The Psychology of Nostalgia, New studies show why we reminisce about the past ,Psychologytoday,2 March, 2020

https://www.psychologytoday.com/us/blog/talking-apes/202003/the-psychology-nostalgia

Emily K. Hong, Constantine Sedikides, and Tim Wildschut ,How Does Nostalgia Conduce to Global Self-Continuity? The Roles of Identity Narrative, Associative Links, and Stability, 21 June, 2021

https://journals.sagepub.com/doi/full/10.1177/01461672211024889

([4]) Rachel B. Gross, The Politics of Nostalgia, religion and politics, 2 February, 2021  https://religionandpolitics.org/2021/02/02/the-politics-of-nostalgia/

([5]) Andrew R. Murphy, Longing, Nostalgia, and Golden Age Politics: The American Jeremiad and the Power of the Past, Perspectives on Politics Vol. 7, No. 1 Mar,2009 , Stacey Novack, The Politics of Nostalgia The Psychoanalysis of Longing for Politics Past ,16 November, 2016 https://publicseminar.org/2016/11/the-politics-of-nostalgia/

[6] Marcos Piason Natali ,History and the Politics of Nostalgia ,Iowa Journal of Cultural Studies 5 (Fall 2004), op.cit. the same link.

[8] Edoardo Campanella, Marta Dassù ,The Age of Nostalgia Liberals shouldn’t leave emotion to the right-wing` populists.foreign policy, 14 may 2019 https://foreignpolicy.com/2019/05/14/the-age-of-nostalgia/

[9]Colin P. Clarke, Haroro J. Ingram , Defeating the ISIS Nostalgia Narrative, Foreign Policy Research Institute, 18 April 2018

https://www.fpri.org/article/2018/04/defeating-the-isis-nostalgia-narrative/

[11] Caroline Koegler, Pavan Kumar Malreddy, Marlena Tronicke ,The colonial remains of Brexit: Empire nostalgia and narcissistic nationalism ,28 Oct 2020

https://doi.org/10.1080/17449855.2020.1818440

[13]أوكرانيا تطالب المجر باعتذار رسمي بسبب وشاح أوربان، يورونيوز23/11/2022

https://arabic.euronews.com/my-europe/2022/11/23/ukraine-slams-viktor-orban-over-greater-hungary-scarf

[15]Guardian , Life has got worse since Arab spring, say people across Middle East,17 Dec 2020

https://www.theguardian.com/global-development/2020/dec/17/arab-spring-people-middle-east-poll

[16]Robert Worth, Authoritarian Nostalgia in Libya ,CSIS ,Podcast Episode by Jon B. Alterman,Natasha Hall, and Daniel Sharp ,November 16, 2021

https://www.csis.org/podcasts/babel-translating-middle-east/robert-worth-authoritarian-nostalgia-libya

[17]برتران بديع، "زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدولية"، ترجمة: جان ماجد جبور، (بيروت: المركز العربي للأبحاث، 2015).

[18] Pew research, People Divided on Whether Life Today Is Better Than in the Past , 5 December 2017

https://www.pewresearch.org/global/2017/12/05/worldwide-people-divided-on-whether-life-today-is-better-than-in-the-past/

[19] Edoardo Campanella ,Marta Dassù ,The Age of Nostalgia Liberals shouldn’t leave emotion to the right-wing` populists, op.cit,. The same link.

[20]Catherine E. de Vries, Isabell Hoffmann, The Power of the Past :How Nostalgia Shapes European Public Opinion, Bertelsmann stiftung, 2/2018

https://www.bertelsmann-stiftung.de/fileadmin/files/BSt/Publikationen/GrauePublikationen/eupinions_Nostalgia.pdf

[21]Andrew Potter ,How Nostalgia Can Hide Dark Political Realities, 21October 2021

https://lithub.com/how-nostalgia-can-hide-dark-political-realities/

[22]Ezgi Elçi, Politics of Nostalgia andPopulism: Evidence from Turkey, op.cit, the same link.

[23] Pew research, People Divided on Whether Life Today Is Better Than in the Past , op.cit, the same link.

[24]Colin P. Clarke Haroro J. Ingram Defeating the ISIS Nostalgia Narrative, op.cit ,the same link.

[26]Patrick Porter, A World Imagined :Nostalgia and Liberal Order.Cato institute  5 june, 2018

 https://www.cato.org/policy-analysis/world-imagined-nostalgia-liberal-order