خلال ثلاثة أيام فقط، بين 26 و28 يناير الجاري (2023)، وقعت أربعة تطورات بدت كما لو كانت مقدمة حتمية لتدهور الأوضاع بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وصولاً إلى نشوب حرب واسعة النطاق بين الجانبين على غرار ما حدث مراراً في سنوات سابقة منذ عام 2008.
بدأت الأحداث بسقوط عشرة شهداء فلسطينيين في مواجهات بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وعدد من المطلوبين الأمنيين في مخيم جنين بالضفة الغربية، وعلى إثرها أطلقت بعض الصواريخ بشكل محدود من قطاع غزة تجاه المدن الإسرائيلية على الحدود مع القطاع.
ورغم اعتراض منظومة القبة الحديدية لهذه الصواريخ، وعدم وقوع خسائر في الأرواح أو الممتلكات الإسرائيلية، فقد شنت الطائرات الإسرائيلية عدة غارات على مواقع تابعة لحركة الجهاد في غزة، بدون أن تتسبب في خسائر في الأرواح في الجانب الفلسطيني.
بعد ذلك، وقعت عملية قام بتنفيذها شاب فلسطيني من سكان القدس الشرقية في معبد يهودي أودت بحياة 7 إسرائيليين بالإضافة إلى عدد آخر من الجرحى، وعقب ذلك بساعات قليلة أصيب إسرائيليون بجروح قاتلة في حادث إطلاق نار في القدس أيضاً.
ورغم أن هناك توقعات متشائمة بأن تبادر إسرائيل للقيام بعمل انتقامي واسع النطاق، يهدد باتساع المواجهات على كافة الأصعدة، إلا أن ذلك لم يحدث، وبدا من التسريبات حول القرارات التي سيتخذها المجلس الوزاري المصغر في إسرائيل (المناط به اتخاذ القرارات الأمنية على وجه الخصوص) أن الرد الإسرائيلي لن يكون عسكرياً وسيقتصر على إجراءات عقابية محدودة تجاه عدد من النشطاء الفلسطينيين وعائلاتهم في الضفة الغربية والقدس.
فلماذا ركنت إسرائيل إلى محاولة احتواء الوضع ومنع تصعيده؟، وهل يمكن تفادي انفجار هذا الوضع في غضون الأسابيع القليلة القادمة؟
يبدو بوضوح أن لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عدة أسباب قادته لعدم اتخاذ قرارات كان من شأنها تفجر مواجهات أوسع مع الفلسطينيين، وذلك على النحو التالي:
1- عدم تعريض الائتلاف الذي لم يمض على تكوينه سوى شهر واحد لأزمة مبكرة، حيث كانت المعارضة الإسرائيلية قد حذرت من أن تشكيلة الائتلاف الحاكم التي تضم أحزاب الصهيونية الدينية والأحزاب الحريدية ستقود إسرائيل إلى الدخول في صدامات واسعة مع الفلسطينيين، وبالتالي كان على نتنياهو وشركائه في الائتلاف إثبات عدم صحة ما تروجه المعارضة عن الائتلاف، والبرهنة على العكس من ذلك، أى على قدرة الحكومة على التريث في اتخاذ القرارات التي يمكن أن تؤدي إلى تداعيات غير مرغوب فيها في الوقت الراهن، خاصة أن الائتلاف الحاكم كان قد بدأ معركة مبكرة مع أحزاب المعارضة ومع مؤسسة القضاء حول قضية إصلاح المنظومة القضائية، والتي وصفتها المعارضة بأنها هجمة متعمدة على ما أسمته بـ"الديمقراطية الإسرائيلية ودولة القانون".
2- تزامنت الهجمات الإسرائيلية في جنين والعمليات التي شنها نشطاء فلسطينيون في القدس، مع زيارات مكثفة من جانب مسئولين أمريكيين لإسرائيل، بدأت بزيارة جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي قبل وقوع الأحداث على الجانبين بأيام قليلة، وأيضاً الزيارة غير المعلن عنها لمدير المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز ليلة اجتياح إسرائيل لمخيم جنين، وأخيراً الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في 30 يناير الجاري.
فقد فرضت هذه الزيارات المكثفة على نتنياهو الاستجابة للضغوط الأمريكية عليه، بعدم التسبب في مزيد من تدهور الأوضاع، خاصة أن الجانب الأمريكي كان يحاول إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن" بالتراجع عن قراره بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واللجوء لمجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية للمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل جراء سياستها في الأراضي المحتلة والتي يتعرض الشعب الفلسطيني بسببها لإجراءات عقابية شديدة بعضها يرقى لمرتبة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أيضاً ولأن إسرائيل تسعى بقوة لضمان تشديد الولايات المتحدة لموقفها من إيران ومشروعها النووي، فلم يكن نتنياهو يرغب في أن تتسبب أي ردود انتقامية ضد الفلسطينيين في التأثير على القرار الأمريكي في الملف الإيراني حتى لو كان هذا التأثير رمزياً أو لفترة زمنية محدودة.
3- كان للاتصالات والضغوط الشديدة من جانب مصر والأردن على وجه الخصوص لمنع تصعيد الأوضاع، أثر كبير في كبح الرد الإسرائيلي. فالأمر المؤكد أن نتنياهو لا يريد أن يبدأ عهده الجديد في رئاسة الحكومة بإثارة أزمة كبيرة في العلاقات مع البلدين كونهما الأهم، بسبب ارتباطهما باتفاقيتي سلام مع إسرائيل منذ سنوات طويلة.
ويعرف نتنياهو أن الدور المصري على وجه الخصوص يكتسب أهمية قصوى لكونه الوسيط الوحيد القادر على رعاية اتفاقات التهدئة التي كان يتم التوصل إليها في أعقاب انهيار الأوضاع الأمنية بين إسرائيل والفلسطينيين.
أيضاً ما يزال نتنياهو يأمل، ليس فقط في الحفاظ على اتفاقات السلام الإبراهيمي التي وقعتها إسرائيل مع عدد من الدول العربية خلال العامين الماضيين، بل أيضاً في توسيع هذه الاتفاقات مستقبلاً، خاصة عبر محاولة ضم بعض الدول الأخرى إلى المسيرة نفسها حتى ولو بصيغة مختلفة.
وكان إقدام الإمارات العربية المتحدة، بالتعاون مع الصين وفرنسا، على تقديم طلب إلى مجلس الأمن لمناقشة الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، تحذيراً إضافياً لنتنياهو للتوقف عن تصعيد الأوضاع.
4- لم تتوصل التحقيقات الإسرائيلية في حادثي القدس إلى استنتاجات بشأن انتماءات من قاما بتنفيذها. إذ توضح بعض التقارير في الصحف الإسرائيلية أن هذه التحقيقات تشير مبدئياً إلى أن الشاب الذي تسبب في حادث المعبد القريب من القدس الشرقية لا ينتمي لأية تنظيمات، وأنه قام بالعمل منفرداً.
كما أن الصبي الذي يبلغ من العمر 13 عاماً فقط والذي أطلق النار وتسبب في جرح شخصين في القدس، لا يمكن من الناحية المنطقية حسبانه على أي تنظيمات مثل حماس أو الجهاد أو غيرهما. بمعنى آخر، يمكن القول إن أي عمل انتقامي كان سيؤدي إلى مواجهات واسعة النطاق من جانب إسرائيل، كان يستلزم وجود إعلان واضح من جانب هذه التنظيمات أو إحداها لمسئوليتها عن الحادثين، وهو ما لم يحدث.
فحتى البيان الذي نشرته الجماعه المعروفة باسم "كتائب شهداء الأقصى"، والذي أشاد بالعمليتين، لم يكن صريحاً في تبني تنفيذهما. كما أن هذه الجماعة التي كانت قد نشأت في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2004) وكانت تتبع حركة فتح، توقفت عن نشاطها تماماً منذ أكثر من 15 عاماً. وحتى عندما عاودت الظهور عام 2021، لم يكن بالإمكان تحديد تكوينها التنظيمي الذي يغلب عليه انتمائات عقائدية مختلفة تأتي من انشقاقات حقيقية من العديد من المنظمات الفلسطينية الكبرى مثل فتح وحماس والجهاد.
بمعنى أكثر وضوحاً، يمكن أن تكون الاستنتاجات الإسرائيلية من أسلوب تنفيذ الحادثين، أن المنفذين مجرد "ذئاب منفردة" ولا يمكن معاقبة أية تنظيمات فلسطينية على أفعالهما، ناهيك عن أن أية ردود فعل إسرائيلية واسعة النطاق ضد سكان القدس أو عرب 48 (كون المنفذين لحادثي القدس يشتبه في أنهما أو أحدهما على الأقل من سكان المدينة) يمكن أن يؤدي إلى تدهور خطير في العلاقات العربية-اليهودية داخل إسرائيل، وهو ما سيفرض أعباءً أمنية كبيرة ليست إسرائيل على استعداد لتحمل تبعاتها على الأقل في الوقت الراهن.
خطر التصعيد سيظل قائماً
وفق تسريبات الإعلام الإسرائيلي، فإن المجلس الوزاري المصغر ناقش في اجتماعه، في 28 يناير الجاري، خمسة إجراءات للرد على حادثي القدس هى :
1- تعزيز قانون ترحيل عائلات منفذي عمليات الهجوم التي تستهدف إسرائيليين.
2- إغلاق أو هدم منازل عائلات منفذي الهجومين.
3- القبض على أفراد عائلات وأقارب منفذي الهجمات.
4- الدفع بتعزيزات أمنية إسرائيلية إضافية في الضفة الغربية.
5- تسريع الإجراءات المتعلقة بإصدار تراخيص حيازة الأسلحة للإسرائيليين كأفراد لمساعدتهم على حماية أنفسهم مستقبلاً.
وكما هو واضح، ليس من المحتمل أن يؤدي اعتماد الحكومة الإسرائيلية لواحد من، أو كل، هذه الإجراءات كرد على عمليتى القدس، إلى تدهور الوضع بين إسرائيل والفلسطينيين. ورغم ذلك، لا يمكن ضمان بقاء رد الفعل الإسرائيلي في حدوده الحالية، إذا ما وقعت أحداث مشابهة في فترة زمنية قريبة.
كما أن الفترة الزمنية بين بداية شهر رمضان في الأسبوع الأخير من مارس القادم، وحتى نهاية شهر أبريل، ستكون بيئة مناسبة لتجدد الأوضاع المتوترة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بسبب الاحتكاك المتوقع بين قوات الأمن الإسرائيلية والمصلين الفلسطينيين الذين يحرصون على الصلاة والاعتكاف في المسجد الأقصى خلال هذه الفترة، وما يقابله من محاولات اليهود المتطرفين لإقامة احتفالاتهم في الفترة نفسها في المناطق القريبة من المسجد.