أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تُكثِّف الولايات المتحدة وإسرائيل من الأنشطة العسكرية المشتركة. فللمرة الثانية تجريان مناورات عسكرية مشتركة في غضون ثلاثة أشهر، كانت الأولى مناورات جوية مشتركة (نوفمبر 2022)، بينما أجرتا خلال الفترة (23 – 27 يناير الجاري) المناورة "جونيبر أوك 2023" الشاملة.

وعلى الرغم من اقتصار البيانات الرسمية على أن المناورات تهدف إلى تعزيز قدرات التشغيل البيني بين القوات الأمريكية ونظيراتها الإسرائيلية، إلا أن البيانات العملية، وتقارير وسائل الإعلام في إسرائيل والولايات المتحدة، نقلت عن مسئولين من البلدين أن الهدف هو التدريب على محاكاة هجوم مشترك على إيران ضد مواقع نووية، والتصدي لهجوم بحري إيراني كرد فعل على أي تحرك أمريكي–إسرائيلي ضد أي تحرك إيراني محتمل. كما نقلت الإدارة الأمريكية عن الرئيس جو بايدن بالتزامن مع ختام المناورات الأخيرة، أنه لا يستثني الخيار العسكري ضد إيران.

ما الذي تغير حتى أصبحت الأطراف تفكر بعقلية الحرب أو طرح "الخيار العسكري"؟. فاستباقاً للمناورات الأمريكية-الإسرائيلية، قامت إيران هى الأخرى بإجراء محاكاة لاستهداف موقع "ديمونة" النووي الإسرائيلي خلال مناورات "الرسول الأعظم" المشتركة الـ17 (ديسمبر 2021)، كما أجرت عدة مناورات بحرية تحاكي الهجوم على بنك أهداف أمريكي بحري في الشرق الأوسط، أبرزها مناورة "ذو الفقار 104" خلال يناير الجاري، وكان اللافت أنها كانت من المناورات النادرة التي تعكس مدى تنامي التعاون بين الجيش والحرس الثوري في القيام بذلك.

وقد يضاعف من أهمية البحث عن الدوافع والمتغيرات، أن تلك الأطرف كانت في حالة حرب غير مباشرة على مدار أكثر من عقد، حيث تشن إسرائيل "حرب الظل" في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، عبر الهجمات السيبرانية، وتصفية كوادر رئيسية في المشروع النووي الإيراني أبرزهم محسن فخري زاده.

وعلى المسرح الإقليمي، هاجمت إسرائيل عشرات المواقع في سوريا بزعم استهداف الوجود العسكري الإيراني، إضافة إلى حرب "ناقلات النفط" بين الطرفين. وفي المقابل، نفذت إيران هجمات على قواعد عسكرية أمريكية في العراق، وسفارة واشنطن في المنطقة الخضراء، بمساعدة المليشيات الموالية لها.

 كما نفذت عدة عمليات لاستهداف الوجود العسكري الأمريكي في شمال سوريا وقاعدة "التنف" في الجنوب، وحاولت المليشيا الحوثية في اليمن استهداف قطع بحرية أمريكية بالصواريخ (أكتوبر 2016)، فيما تشير تقارير محلية (يناير 2023) إلى أن المليشيا نشرت منظومات دفاعية وآليات غير مأهولة في الساحل الغربي لليمن تهدف إلى تشكيل تهديد للتحركات البحرية الأمريكية في البحر الأحمر.

تباين الدوافع حول الخطوط الحمراء

على الرغم من وحدة الهدف في توجيه رسالة لإيران من وراء تلك المناورات، إلا أنه لا توجد دوافع مشتركة أمريكية–إسرائيلية، أو على الأقل هناك تباين في أولويات الدوافع لدى كل منهما. وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن "حرب الظل" لم تعرقل التقدم في البرنامج النووي الإيراني، وأن إيران باتت بالفعل دولة "عتبة نووية"، وإذا ما اتخذ المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي قراراً بهذا الشأن يمكن لإيران الوصول نسبة 90% من اليورانيوم المخصب.

 وفي منتصف يناير الجاري، قال أفيف كوخافي رئيس الأركان العسكرية الإسرائيلية المنتهية ولايته إن طهران يمكنها تصنيع أربع قنابل نووية، ثلاث منها بمستوى 20% وواحدة بمستوى 60%، وبالتالي فإن الخط الأحمر بالنسبة لإسرائيل يتعلق حصرياً بالملف النووي، ومع ذلك قد يظهر خط إضافي، حيث كشفت صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية أن إيران تعمل على إنشاء قاعدة عسكرية في جنوب سوريا، ما قد يضاعف من تهديد إسرائيل بتوحيد إيران لجهودها وأصولها العسكرية في سوريا، وبما يفتح الباب لحرب على تلك الجبهة وفقاً للصحيفة الإسرائيلية.

وتعكس تصريحات كوخافي، والتي يتبناها أيضاً رئيس الأركان الجديد للجيش الاسرائيلي هرتسي هليفي، متغير موقف الجيش الإسرائيلي. فوفقاً لـمائير داغان رئيس الموساد الإسرائيلي السابق، عارض الجيش قراراً لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الأسبق ايهود باراك عام 2012 بشن هجوم عسكري على إيران، مع الاتفاق على أن تستمر العمليات التي يقوم بها الموساد لاختراق المشروع الإيراني عبر الهجمات السيبرانية وتصفية كوادر المشروع.

في هذا السياق، يقول مراقبون في إسرائيل مثل شيمون شتاين الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS إن الخيارات السابقة لم تحرز النتائج المطلوبة، فقط تمكنت من تعطيل البرنامج النووي الإيراني، ومع ذلك تمضي إيران في المشروع وفي الأخير ستحقق هدف امتلاك القنبلة النووية. ومن ثم–بحسب شتاين- هناك حاجة لبدائل جديدة، كالخيار العسكري، وأشار أيضاً إلى أن الرهان على سقوط النظام الإيراني في المرحلة الحالية لا يبدو واقعياً.

أما بالنسبة لواشنطن، فإن ثمة تطورات رئيسية تؤخذ في الاعتبار، ففيما يتصل بالعلاقة مع إسرائيل كثيراً ما تحفظت واشنطن على أن تقوم الأخيرة بضربة من طرف واحد ضد إيران، وهو جدل قد يتكرر مع عودة نتنياهو الذي كرر نواياه الخاصة بالقيام بهجوم من طرف واحد بغض النظر عن الموقف الأمريكي.

وعلى الرغم من عدم واقعية طرح نتنياهو، حيث لا يمكن لإسرائيل القيام بتلك العملية بشكل منفرد، وحاجتها لضوء أخضر بل ومساعدة أمريكية، لكن التطورات الراهنة وطبيعة المشاركة الأمريكية في المناورات ربما تكون مؤشراً على تغير هذه المعادلة، حيث أصبحت النوايا الأمريكية تميل إلى الخيار العسكري، وبالتالي تحتاج إلى دعم إسرائيلي.

لكن المحدد الأهم بالنسبة للموقف الأمريكي يتعلق بتجاوز طهران للخطوط الحمراء الأمريكية، إذ لم تعد إيران تمثل تهديداً للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط فقط، فقد تزايدت تلك التهديدات مع دخول إيران كطرف في الحرب الروسية-الأوكرانية، في إطار دعم روسيا بالطائرات من دون طيار (شاهد 136)، وتوقع إمداد طهران لموسكو أيضاً بالصواريخ، ضمن صفقة تعكس تنامي العلاقات العسكرية بين الطرفين، فالأخيرة ستحصل على أول دفعة من طائرات SU-35 الروسية بحلول مارس المقبل وفق التسريبات الأمريكية التي تستند إلى معلومات استخبارية، حيث ستدفع إيران جزءاً من قيمة الصفقة في شكل صواريخ وطائرات من دون طيار، وبالإضافة إلى ذلك فإن حصول إيران على تلك المقاتلات النوعية سيكون بمثابة متغيراً فارقاً في معادلات موازين القوى في الشرق الأوسط على المدى المتوسط.

تحديات عديدة

اختبار واشنطن وتل أبيب للخيار العسكري من خلال إجراء تدريبات مشتركة، ينطوي على العديد من المعضلات، منها على سبيل المثال:

1- اتساع المسرح النووي الإيراني: ربما كان من الممكن أن تقوم إسرائيل والولايات المتحدة بتوجيه تلك الضربة عندما لاح هذا الخيار في 2012، وربما قبل ذلك عندما شرعت إيران في رسم خريطة معقدة للمنشآت النووية، تحت الأرض. صحيح أن المناورة الأخيرة شهدت مشاركة أكبر عدد ممكن من الطائرات الهجومية(حوالي 142 طائرة منها 4 قاذفات استراتيجية من طراز B-52، و4 مقاتلات F-35، و45 مقاتلة F / A-18، وطائرتين MQ-9 Reaper، وطائرات AC-130 الحربية، وطائرات هليكوبتر أباتشي وطائرات إنقاذ وتزويد بالوقود Boeing KC-46)، كما أجريت بحسب التقارير الإعلامية الإسرائيلية تجربة لإلقاء 100 طن من القنابل على مفاعل هيكلي تحت الأرض، في صحراء النقب جنوب إسرائيل، إلا أن خبراء عسكريين أمريكيين أشاروا إلى أنه من الصعوبة بمكان تحديد طبيعة تلك المنشآت بشكل دقيق، فضلاً عن أن كوخافي نفسه كشف ضمن التصريحات المشار إليها سلفاً أن الخطط العسكرية الإسرائيلية تعمل على أمرين مهمين: الأول هو تحديد موقع الصواريخ الإيرانية لكي نقوم يوم التنفيذ بضرب أكبر عدد ممكن منها. والأمر الثاني إنشاء نظام دفاع جوي لتحييد هذه الصواريخ. إذ أنشأت إيران أيضاً مواقع تحت الأرض تستخدم كمخازن للصواريخ والطائرات من دون طيار.

في المقابل، فإن المحاكاة الإيرانية لاستهداف موقع "ديمونة" أو تحديد مبنى التبريد في الموقع، تبدو أكثر سهولة كهدف سطحي، حيث استخدمت إيران فقط 16 صاروخاً باليستياً و5 طائرات من طراز "شاهد 136"، وعندما وصل صاروخ سوري إلى موقع "ديمونة" في (أبريل 2021) طرح تساؤل داخل إسرائيل عن طبيعة تأمين موقع المفاعل، بالإضافة إلى ذلك يمكن أن تُغرِق إيران إسرائيل بالصواريخ التي تمتلكها فصائل غزة وحزب الله في لبنان وسوريا بالإضافة إلى الفصائل العراقية، ومهما كان بمقدور القبة الحديدة التعامل مع الصواريخ، لكن ما سيفلت من هذه المنظومة سيؤدي إلى إيذاء إسرائيل بشكل كبير. كما أن البحرية الإيرانية يمكنها بمساعدة الحوثيين في اليمن الوصول إلى الأصول العسكرية الأمريكية في المنطقة.

2- حسابات القوى الإقليمية الرئيسية: على الأرجح، خسرت إسرائيل والولايات المتحدة الرهان على تشكيل تحالف إقليمي واسع يضم القوى العربية في الشرق الأوسط "ناتو عربي". لكن حينما يطرح الخيار العسكري ضد إيران لا يمكن استبعاد تلك القوى من المعادلة، وهي معضلة أخرى، في كلتا الحالتين. فإذا ما شنت حرب ضد إيران فإن التكلفة لن تنعكس فقط على طرفى الحرب، بل على المنطقة بأسرها. وكذلك في حال أصبحت إيران نووية، فإن معادلات القوى الإقليمية ستتغير، ولكن يمكن اعتبار أن إجراء المناورات على هذا النحو دون مشاركة قوى عربية هو تأكيد لموقف القوى العربية الرئيسية بأنها لن تكون طرفاً في حرب من هذا النوع.

ومن جانب آخر، تقارن العديد من القوى الإقليمية ما بين الموقف الأمريكي من إيران حينما أصبح الأمن القومي الإسرائيلي مهدداً، وبين تهديد إيران للأمن القومي العربي، وتقاعس الولايات المتحدة عن لعب دور محوري في هذا الصدد. ففي ذروة الحرب في اليمن، سحبت الولايات المتحدة بطاريات "باتريوت" من الخليج، ما تسبب في حالة من الانكشاف الدفاعي، وضغطت الولايات المتحدة أيضاً بورقة التسليح حينما حجبت بعض التوريدات الخاصة بالأسلحة والذخائر.

سيناريوهات معقدة

واقعياً؛ تتداخل السيناريوهات بشكل معقد، فسيناريو توجيه ضربة لإيران ليس مستبعداً، وبحسب التقديرات الإسرائيلية لا تزال هناك حاجة لمزيد من الوقت للجاهزية استعداداً لشن هجوم على إيران، ومع ذلك هناك حاجة لتحديد طبيعة الضربة العسكرية، اذ أن القيام بضربة عسكرية تستهدف البنية العسكرية الإيرانية يختلف عن القيام بضربة عسكرية تستهدف المواقع النووية الإيرانية.

وقد يكون هناك سيناريو ثالث وهو استهداف البنية العسكرية والمواقع النووية معاً. فالأولى ممكنة إلى حد كبير، رغم كلفتها الكبيرة في الوقت ذاته، لكن تبدو الضربة الثانية أكثر تعقيداً، ومع ذلك حتى لو كسبت الولايات المتحدة وإسرائيل الضربة الأولى على البنية العسكرية، فإن ذلك قد يدفع إيران إلى امتلاك القنبلة النووية، بل ربما تعلن عن امتلاكها بمجرد إطلاق أي هجوم.

ويؤخذ في الاعتبار أن سيناريو الهجوم يتطلب الاستعداد لحرب متعددة الأطراف، وبخلاف القوة الإيرانية الأساسية، سيكون من الصعوبة بمكان تحييد هجمات من سوريا واليمن والعراق وقطاع غزة، التي ستقوم بمهمة الضربة الثانية. بينما توجيه ضربة للمواقع النووية الإيرانية ينطوي على مغامرة أكبر، فخريطة البنية النووية الإيرانية لا يمكن مقارنتها باستهداف المفاعل النووي العراقي "اوزيراك" (يونيو 1981)، أو مفاعل "الكبر" في دير الزور السورية (سبتمبر 2007) الذي كان عباره عن مبانٍ تحت الإنشاء.

 وبالتالي لا يمكن استبعاد سيناريو أكثر مغامرة، وفقاً لبيانات المناورات المشتركة، وهو الهجوم على كافة الأهداف، بمعنى توجيه ضربات تستهدف البنية العسكرية والنووية الإيرانية معاً، فلن يكون بمقدور الدفاعات الإيرانية اعتراض المقاتلات الاستراتيجية B25 أو F-35، التي يتم توجيهها بالاتصال مع أقمار صناعية في مدار منخفض وآخر متوسط حول الأرض تحت سيطرة قيادة الفضاء الجديدة SPACECENT، مع حشد باقي المقاتلات والقطع البحرية للتعامل مع مسرح واسع المدى، ومن ثم تعجيز إيران ووكلائها الإقليميين عن القيام بالضربة الثانية من الأساس.

ومع أنه لا يمكن التكهن بالسيناريو التالي بشكل دقيق، في ضوء غموض نتائج المناورة، لا سيما ما يتعلق بنتائج العمليات اللوجستية، أو العمليات التمهيدية، كشن هجمات سيبرانية لإخراج بعض المفاعلات النووية الإيرانية عن العمل، ليس من المعروف على وجه الدقة أيضاً نتائج محاكاة إلقاء القنابل الخارقة للتحصينات في النقب.

 وحتى الآن، لا يمكن التعامل بشكل واقعي مع هذه العمليات سوى أنها جانب من الحرب النفسية لإيصال رسائل لإيران بأن كافة السيناريوهات مطروحة، ومن جانب آخر التعاطي معها كاستعدادات لسيناريو مستقبلي.

ولا يمكن تجاهل التطورات السياسية أيضاً، خاصة مواقف القوى الإقليمية الرئيسية. ومن جهة أخرى، يمكن افتراض تراجع إيران وتقديم تنازلات للاتفاق النووي، علماً بأن تلك التنازلات تتطلب من إيران تقديم ثمن أكبر في إطار التعاون العسكري مع روسيا، وبافتراض تحقق سيناريو التراجع سيكون ذلك ضربة للجهود الإسرائيلية في دفع الخيار العسكري قدماً بالتعاون مع الولايات المتحدة، وستعود بالتالي إلى مربع الخلاف مع واشنطن حول التوافق على كيفية التعامل مع إيران، في ظل نظرة تل أبيب إلى أن الاتفاق ليس أكثر من صفقة مؤقتة.

وكنتيجة منطقية، يمكن القول إن الخيار العسكري قد يوحد وجهة نظر إسرائيل والولايات المتحدة للتعامل مع الملف النووي الإيراني، بينما العودة إلى السيناريوهات السابقة ستظل محل خلاف، وسيتوقف الأمر على تطور الموقف الإيراني تجاه السياسات الأمريكية والإسرائيلية، ليس فقط تجاه ملفها النووي، ولكن إزاء سياستها الخارجية الإقليمية والدولية في الوقت نفسه.

في الأخير، ما يشكل يقيناً في المرحلة الحالية هو أن الخيار العسكري ضد إيران أصبح أحد البدائل المحتملة على عكس ما كان عليه الوضع في السابق كسيناريو مستبعد، وكيقين أيضاً يمكن تصور أن الإقدام على تنفيذ سيناريو ضربة عسكرية ضد إيران سيغير من شكل المنطقة في كل الأحوال، بما يعني أن الشرق الأوسط قبل الضربة لن يكون كما بعدها، فالمناورات في حد ذاتها تعكس منظور طبيعة عودة التموضع الأمريكي في الشرق الأوسط، وأولويات واشنطن الاستراتيجية، وبالتالي سيتعين عليها أن يكون لديها خطة للتعامل مع ما بعد ذلك.

 كذلك، فإن دروس الحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان على مدى عقدين يجب أخذها في الاعتبار، ولا يمكن أن يختزل الأمر في مقاربة موقف الطرفين الإسرائيلي والأمريكي حيال تجاوز إيران للخطوط الحمراء.