د. أحمد عسكر

باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أعلنت وسائل الإعلام في بوركينا فاسو في 21 يناير الجاري (2023) قرار الحكومة الانتقالية في البلاد بطرد القوات الفرنسية من البلاد في غضون 30 يومًا[1]، والذي جاء عقب تعليقها في 18 يناير الجاري الاتفاق العسكري الموقع مع فرنسا في 17 ديسمبر 2018 الذي يسمح بوجود القوات الفرنسية في واجادوجو[2]، وذلك بالرغم من إعلان باريس في اليوم التالي أنها تنتظر توضيحات من واجادوجو كونها تدّعي أنه لم يتم إجراء أي اتصال رسمي بشأن هذا القرار[3].

ويشير ذلك بالأساس إلى تفاقم المعضلة الفرنسية في منطقة الساحل التي لطالما يُنظر إليها على أنها منطقة نفوذ فرنسي تقليدي خلال السنوات الماضية، إلا أنها بدأت تفقده ولو بشكل جزئي خلال الفترة الأخيرة. فهذه ليست المرة الأولى التي تطالب دولة أفريقية بمنطقة الساحل بسحب باريس لقواتها من أراضيها، حيث انسحبت القوات الفرنسية من مالي في أغسطس 2022، وقبلها انسحبت من جمهورية أفريقيا الوسطى في عام 2018.

السياق الحاكم الراهن للعلاقات الثنائية

يمثل القرار الأخير لحكومة بوركينا فاسو خطوة تصعيدية تعكس حالة التوتر المتصاعد بين واجادوجو وباريس خلال الفترة الأخيرة، وهو ما تكشف عنه بعض المؤشرات الدالة، فقد توترت العلاقة بين البلدين منذ يناير 2022 عقب وقوع الانقلاب في البلاد، وسرعان ما تفاقم التوتر مع اندلاع الانقلاب الثاني في سبتمبر 2022 على يد النقيب إبراهيم تراوري الذي نصب نفسه رئيسًا للحكومة الانتقالية في البلاد.

ومع تصاعد الرفض الشعبي للوجود الفرنسي في البلاد من خلال اندلاع التظاهرات الشعبية المناهضة للقوات الفرنسية والتي هاجمت السفارة الفرنسية في واجادوجو في أكتوبر 2022، وجهت باريس اتهامًا في نوفمبر 2022 للحكومة الانتقالية بفشلها في توفير الحماية للسفارة.

وسرعان ما أثارت تصريحات السفير الفرنسي لدى بوركينا فاسو حول تدهور الوضع الأمني في البلاد حفيظة الحكومة الانتقالية التي طالبت بتغييره في ديسمبر 2022 قبل أن تقوم بطرده في أوائل يناير الجاري، لا سيما أنه قد شبه الصراع مع التنظيمات الإرهابية بحرب أهلية تدور في البلاد، قبل أن يُجبر على الاعتذار فيما بعد. كما طردت حكومة بوركينا فاسو في ديسمبر 2022 فرنسيين اثنين بتهمة التجسس ونقل المعلومات المتعلقة بقوات الأمن بالبلاد.

فيما يُلاحظ أن فرنسا تواجه أزمة تزامنًا مع صعود بعض النخب العسكرية الجديدة إلى السلطة -بشكل مفاجئ- في بعض دول الساحل مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو، والتي أفقدتها بعض حلفائها التقليديين في المنطقة مثل إبراهيم كيتا وكريستيان كابوري وألفا كوندي إلى جانب الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي. ويبدو أن التقارب الفرنسي مع هذه النخبة قد بات صعبًا بسبب سخط العسكريين الجدد من إخفاق المقاربة الفرنسية في محاربة الإرهاب بدول المنطقة، مما دفعهم للبحث عن بديل وحليف آخر لتحقيق بعض النجاحات في ملف مكافحة الإرهاب مثل روسيا.

كما يبدو أن منطقة الساحل تشهد تحولًا استراتيجيًّا عميقًا فيما يتعلق بتبادل الأدوار الدولية، إذ يقابل موجة الانسحاب الفرنسي من بعض دول الساحل خلال الفترة الماضية صعودًا متناميًّا للدور الروسي في المنطقة، والذي بات يُنظر إليه من الغرب على أنه المخطط الرئيسي للانقلابات العسكرية هناك، إضافة إلى المساهمة في تأليب الشعوب الأفريقية ضد فرنسا التي أخفقت مقاربتها في القضاء على التنظيمات الإرهابية على مدار العقد الماضي، ما جعل الرأي العام الأفريقي ينتفض ضد القوات الفرنسية مطالبًا بانسحابها من بلدانهم، والاستعانة بالروس الذين حققوا بعض النجاحات في أفريقيا الوسطى خلال السنوات الأخيرة.

فقد بات هناك شبكة إقليمية من الداعمين للحضور الروسي في الساحل، وهي تضم على الأقل في الوقت الحالي دول مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وغينيا، وتسارع موسكو نحو توسيع دائرة تحالفاتها الإقليمية في المنطقة من خلال تقديم نفسها كحليف دولي مهم وبديل قوي لباريس مدجج بأدوات ناجعة في محاربة الإرهاب، وهو ما يعكس جاذبية الدبلوماسية العسكرية الروسية لدول الساحل والصحراء بما يكسب الروس المزيد من القبول والنفوذ والمكانة على الساحة الأفريقية، الأمر الذي يمثل مصدر قلق وتهديد للمصالح الأوروبية بما في ذلك الفرنسية.

أسباب قرار بوركينا فاسو

يبدو أن هذه الخطوة تحمل في طياتها عددًا من الدوافع والأسباب التي دفعت حكومة واجادوجو لاتخاذها، وتتمثل أبرز تلك الأسباب في:

1- الرغبة في السيادة التامة على البلاد: هناك إدراك لدى العسكريين بأن فرنسا تفرض سيطرتها على البلاد سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وذلك من خلال القوات الفرنسية المنتشرة في أنحائها والتي تمثل عبئًا ضاغطًا على السلطة الحاكمة من أجل تحقيق المصالح الفرنسية الاستراتيجية، وهو أمر كفيل بإصرار السلطة الجديدة على طرد القوات الفرنسية من أجل الاستئثار بالسلطة بشكل كامل دون أي وصاية أجنبية عليها.  

2- تنامي مشاعر الاستياء الشعبي ضد الوجود الفرنسي: والذي ظهر في تكرار اندلاع التظاهرات الشعبية في أنحاء البلاد للتعبير عن رفض الوجود الفرنسي من خلال ترديد شعارات معادية لها ومطالبتها بالخروج من البلاد، حتى أن بعض المتظاهرين قد رفعوا أعلام روسيا وصورة الرئيس فلاديمير بوتين في إشارة إلى السعي نحو توثيق العلاقات مع موسكو. وإن كانت فرنسا تدّعي تورط الأخيرة في تشويه صورتها وسمعتها في منطقة الساحل عبر أدوات مختلفة توظفها مجموعة فاجنر الأمنية الروسية الخاصة التي تنتشر في بعض دول المنطقة.

3- فقدان الثقة في فرنسا: لم يعد يُنظر إلى باريس على أنها "المنقذ" لدول الساحل، خاصة بعد إخفاقها على مدار السنوات الماضية منذ انخراطها في المنطقة في عام 2013 في القضاء على التهديدات الأمنية ومخاطر الإرهاب، وهو ما صرح به أبولينير يواكيم تامبيلا، رئيس الوزراء البوركيني المؤقت، بأن بعض الشركاء الدوليين لبلده لم يكونوا أوفياء دائمًا في مكافحة الإرهاب، وهو ما يعكسه تصاعد نشاط الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في شمال بوركينا فاسو، حتى أن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول سياسة فرنسية جديدة تجاه الساحل في غضون شهور قليلة بات يُنظر إليه باعتباره التفافًا من باريس على فشلها في المنطقة ومحاولة إعادة تقديم نفسها من أجل إعادة إحياء نفوذها هناك.  

4- تحييد الضغوط الفرنسية: تحاول الحكومة الانتقالية في بوركينا فاسو الاستفادة من تجربة العسكريين الجدد في مالي في ظل التقارب الراهن بينهما، وذلك من خلال قطع الطريق مبكرًا على باريس فيما يتعلق باستغلال سلاح المشروطية السياسية والاقتصادية والأمنية، وما يمثله من أعباء على كاهل السلطة الجديدة في واجادوجو. وربما تستعد لسلسلة من الضغوط المتتالية بهدف تغيير قرارها خلال الفترة المقبلة.

5- إخفاق المقاربة الأمنية الفرنسية: أدرك العسكريون الجدد في السلطة ببوركينا فاسو خلال مشاركتهم في ميدان القتال مدى فشل استراتيجيات باريس في مجال محاربة الإرهاب بدول المنطقة، وهو ما أثار سخطهم تجاه كل من الأنظمة الحاكمة السابقة والقوات الفرنسية المتمركزة في بلدانهم. فلم تُحقق المقاربة الأمنية التي انتهجتها باريس أهدافها في احتواء المخاطر الأمنية أو القضاء على التنظيمات الإرهابية في دول الساحل وغرب أفريقيا.

6- الرغبة في تنويع الشركاء الدوليين: هناك رغبة لدى السلطة الحاكمة في بوركينا فاسو -مثلها مثل بعض دول الساحل- في الخروج من العباءة الفرنسية التي ظلت بلادهم لسنوات طويلة تسير في فلكها، والبحث عن بديل وحليف آخر جديد يمكنها الاستفادة من خبراته في مجال مكافحة الإرهاب. وقد نجحت موسكو في تقديم نفسها باعتبارها المنقذ الجديد لدول المنطقة، لا سيما أن سياستها تجاه أفريقيا بشكل عام بما في ذلك منطقة الساحل تقوم على ثلاث ركائز هي المساعدة العسكرية ومبيعات الأسلحة والتعاون في مجال الطاقة، وذلك من خلال عدة أدوات فاعلة على رأسها مجموعة فاجنر الأمنية التي تنتشر عناصرها في عدد من الدول الأفريقية بما في ذلك بوركينا فاسو ومالي وأفريقيا الوسطى وغيرها.

وقد عززت بوركينا فاسو علاقاتها مع روسيا خلال الفترة الأخيرة، وبرز ذلك في تبادل الزيارات بين البلدين، حيث زار يواكيم تامبيلا موسكو في ديسمبر 2022 وصرح بأنها خيار عاقل لبلاده وأكد على أن الشراكة يجب أن تتعزز بين الجانبين. كما يخطط البلدان لتطوير استراتيجيات لمكافحة الإرهاب في بوركينا فاسو والمنطقة ككل، وهو ما قد يعزز النفوذ الروسي في البلاد وانعكاسه على توسع هذا النفوذ على الصعيد الإقليمي في الساحل وغرب أفريقيا خلال الفترة المقبلة.

تداعيات محتملة

يفرض قرار حكومة بوركينا فاسو ضد فرنسا جملة من التداعيات المحتملة على الأطراف المعنية، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- السلطة الانتقالية في بوركينا فاسو: ربما تتعرض السلطة الانتقالية لبعض الضغوط الإقليمية من جانب منظمة إيكواس بإيعاز من باريس لتحسين العلاقات معها والعدول عن قرارها الأخير، وربما يتطور الأمر إلى مواجهة مع المنظمة الإقليمية مما يهدد وحدتها واستقرارها. وقد تعترض بعض دول المنطقة على تواجد قوات فاجنر على حدودها كما هو الحال في أزمة غانا الأخيرة. ومع ذلك، من المتوقع أن تعزز السلطة الانتقالية علاقاتها مع موسكو لتحصل على الحماية السياسية في المحافل الدولية ضد أي قرارات عقابية محتملة، إلى جانب الحصول على الدعم العسكري واللوجستي لمحاربة الإرهاب في شمال البلاد.

2- منطقة الساحل والصحراء: يشكل التنافس الفرنسي الروسي عبئًا إضافيًّا من شأنه تعقيد السياق الإقليمي المضطرب بطبيعة الحال في حالة اصطفاف دول المنطقة وراء أي من القوتين وما يعنيه من زيادة الانقسام الأفريقي هناك. كما أنه يعزز حالة عدم الاستقرار الأمني في الساحل التي قد تستغلها التنظيمات الإرهابية بتكثيف نشاطها وعملياتها الإرهابية ضد المصالح الدولية والإقليمية هناك.

3- فرنسا: تزداد أزمة فرنسا تعقيدًا في الساحل وغرب أفريقيا يومًا بعد يوم في ضوء فقدانها لأبرز حلفائها بالمنطقة، وهو ما يهدد نفوذها هناك. بينما يمثل ذلك في الوقت نفسه فرصة للقوى المنافسة مثل روسيا لملء الفراغ الذي تخلفه باريس بهدف تعظيم النفوذ والسيطرة على الموارد والثروات الطبيعية هناك. وربما تحاول باريس تكثيف ممارساتها لتشويه صورة الروس في دول المنطقة بهدف استعادة توازنها تزامنًا مع قرب إطلاق استراتيجية فرنسا الجديدة تجاه الساحل وغرب أفريقيا تمهيدًا لاحتمال استعادة نفوذها هناك.

4- روسيا: تتعزز فرص موسكو في توسيع نفوذها في الساحل وغرب أفريقيا، وربما توسيع شبكة تحالفاتها مع دول المنطقة، من خلال البحث عن حليف جديد مستغلة حالة عدم التوازن لباريس في المنطقة خلال الفترة الأخيرة، مما قد يترتب عليه صدام بين الطرفين ربما يؤدي إلى توتير السياق الإقليمي في الساحل، بما ينعكس على تنامي عسكرة الإقليم وتداعياتها على زعزعة الاستقرار الأمني هناك.

وإجمالًا، ربما تواجه فرنسا عامًا صعبًا في أفريقيا خلال 2023، قد يفقدها مزيدًا من النفوذ في مناطق هيمنتها الرئيسية مثل الساحل وغرب أفريقيا لصالح أطراف أخرى متحفزة مثل روسيا، لطالما يتسم أداء باريس بالجمود فيما يتعلق بإعادة النظر في استراتيجيتها الشاملة تجاه المنطقة وبخاصة المتعلقة بمحاربة الإرهاب، والسعي نحو تحسين صورتها في العقل الجمعي الأفريقي من خلال التخلي عن عدد من السياسات التي لم تعد مقبولة بالنسبة للأفارقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر "الأبوية" السياسية في علاقات باريس مع النخب الحاكمة الجديدة في بعض الدول الأفريقية، وعدم استنزاف الموارد والثروات الأفريقية التي هي من حق شعوب القارة وحدهان خاصة أن الجيل الجديد من هذه النخب الحاكمة بات يرفض تلك السياسات ويعاقبها بالبحث والتحول نحو بدائل أخرى.


[1]. Arsene Kabore, Burkina Faso ends ties with French troops, orders departure, Washington Post, 21 January 2023, available at: https://wapo.st/3wig0TL

[2]. Burkina Faso gives French troops a month to leave, says local media, France 24, 22 January 2022, available at: https://bit.ly/3Wx8M8Z

[3]. Macron wants Burkina Faso 'clarifications' on reports of call for French withdrawal, Le Monde, 22 January 2023, available at: https://bit.ly/3XNbfNt