أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً ينص على ضرورة قيام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بإقالة زعيم حزب شاس ووزير الصحة والداخلية ارييه درعي من مناصبه الوزارية، وبالفعل أعلن نتنياهو، آسفاً، في 22 يناير الجاري (2023)، استجابته للقرار، مع وعد لدرعي بأن يحصل على مكانة مؤثرة في الائتلاف بعيداً عن المناصب الوزارية.
يأتي هذا التطور غير المفاجئ لأي متابع للشأن السياسي في إسرائيل، ولا للمراقبين من الخارج، في ظل تصاعد المواجهة بين ائتلاف نتنياهو ومعارضيه في الشارع الإسرائيلي الذي يشهد على مدى الأسابيع القليلة الماضية مظاهرات متفاوتة في أعداد المحتشدين فيها، في العديد من المدن الإسرائيلية وخاصة في تل أبيب، احتجاجاً على خطة الحكومة لإجراء تعديلات على القوانين واللوائح المنظمة لعمل الجهات القضائية بما فيها المحكمة العليا ذاتها.
قادت هذه التطورات إلى طرح العديد من التساؤلات حول خلفياتها وحول الآفاق التي يمكن أن تبلغها في المستقبل القريب، ومدى تأثير ذلك على الاستقرار السياسي في إسرائيل وعلى النسيج الاجتماعي الذي يتعرض لحالة تمزق، يخشى البعض أن تتحول إلى ما يشبه حرب أهلية، كما يزعم رئيس حزب كاحول لافن الذي يرأسه وزير الدفاع السابق بيني جانتس.
خلفيات الأزمة
بدأت أزمة الإطاحة بالوزير ارييه درعي مبكراً، أثناء مفاوضات نتنياهو مع الأحزاب الدينية الصهيونية والحريدية لتشكيل الحكومة الحالية. فقد كان وضع درعي القانوني ملتبساً، حيث أنه أدين بتهم التهرب من الضرائب والفساد في عام 2021، ولكنه عقد اتفاقاً مع الادعاء العام، بموجبه تفادى تلقي عقوبة بالسجن مقابل تعهده بعدم تولي أي مناصب وزارية مستقبلاً. وبناءً على ذلك كانت التوقعات تذهب إلى أن نتنياهو لن يقدم على تعيين درعي في أي منصب وزاري لمعرفته بما سيقوم به خصومه من حض المحكمة العليا الإسرائيلية على رفض هذا التعيين إذا حدث.
وحدث الأمر نفسه حينما توقع الكثيرون ألا يتحدى درعي المحكمة العليا، بالإصرار على تولي منصب وزاري، لأنه مدان في قضايا فساد، خوفاً من إيجاد ثغرة قانونية تقود إلى إلغاء صفقة الادعاء التي وقعها قبل عامين، مما يمهد لإعادة محاكمته ومعاقبته بالسجن.
خالف نتنياهو ودرعي هذه التوقعات، وركزا على هدفهما المباشر وهو تشكيل الحكومة بالنسبة لنتنياهو، وتحديا المحكمة العليا علانية، بعد أن حصل حزب درعي على 400 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة ضمنت له أحد عشر مقعداً في الكنيست. والسؤال الذي فرض نفسه منذ تدشين الائتلاف في نهاية شهر ديسمبر الماضي هو: لماذا أقدم نتنياهو ودرعي على هذا التحدي رغم وثوقهما بأن المعارضة الإسرائيلية سواء في الأحزاب أو مؤسسات المجتمع المدني لن تترك الأمر يمر من دون استغلاله لصالحها؟
فيما يتعلق بنتنياهو، كانت تلك هي الفرصة المناسبة له تماماً لكي يعود إلى مقعد رئيس الحكومة الذي خسره أربعة عشر شهراً، قبع فيها في منصب زعيم المعارضة، وطمح نتنياهو أيضاً في أن يتمكن، عبر تحالفه مع الأحزاب الدينية التي تناصب المحكمة العليا العداء على خلفية بعض قراراتها التي تقر تشريعات تراها هذه الأحزاب مخالفة للشريعة اليهودية، أو أخرى تأمر بتفكيك بعض المستوطنات تحت دعوى أنها بؤر غير شرعية - أي لم تقرها الحكومة-…. طمح نتنياهو في أن يتمكن من إقناع هذه الأحزاب بتمرير تشريع يساعده في التخلص من المحاكمة التي يتعرض لها بتهم استغلال النفوذ والفساد منذ عام 2019.
أما بالنسبه لدرعي، فقد وجد أن هناك فرصة حقيقية لوضع مفهوم الديمقراطية التي يكرهها على المحك، إذ كيف يمكن لمؤسسة في دولة تتدعي أنها ديمقراطية أن تحرم شخص حصل على تأييد 10% من الناخبين من العمل السياسي، في وقت تزعم فيه النظرية الديمقراطية ضرورة الإذعان لحكم الصندوق، وحماية حقوق الأقليات؟، أو بمعنى آخر أراد درعي من جهة التخلص من الحكم السابق الذي كان يمنعه من شغل المناصب الوزارية، ومن جهة أخرى إثبات مدى تناقض النظرية الديمقراطية، حيث يصبح قضاة المحكمة العليا غير المنتخبين ديمقراطياً لهم الحق في الإطاحة بمن هم منتخبون من قبل الشعب الذي تزعم الديمقراطية أنه الأصل في مبدأ اختيار من يمثله.
حسابات المعارضة الإسرائيلية في الأزمة
مثّل انتصار نتنياهو وحلفائه من الأحزاب الدينية الحريدية والصهيونية في الانتخابات الأخيرة، هزيمة فادحة لخصومه من أحزاب الوسط واليسار والأحزاب العربية، حيث أظهرت هذه الانتخابات وأيضاً الانتخابات الأربعة التي سبقتها مدى عجزها (أي هذه الأحزاب) عن تحدي نتنياهو، وأيضاً مدى عدم ثقة الجمهور الإسرائيلي بها، ولم يعد أمام تلك الأحزاب سوى مطاردة نتنياهو بالدعوة للتظاهر ضده في الشارع، واستخدام القضاء لتقويض تحالفاته مع الأحزاب الدينية، والاستعانة بالضغوط الخارجيه لمنعه من المضى قدماً في تنفيذ بعض التغييرات التي ينوي إدخالها على اللوائح والقوانين المنظمة لبعض مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مؤسسة القضاء وخاصة المحكمة العليا.
وإذا كان نتنياهو قد اضطر لإقالة درعي، وإذا كانت المعارضة قد نجحت في حشد ما يزيد على مائة ألف متظاهر في تل أبيب ضد خطة إعادة هيكلة الهيئات القضائية التي تقودها حكومة نتنياهو، وإذا كانت الولايات المتحدة قد نقلت لنتنياهو عبر مستشار الأمن القومي جيك سوليفان قلق واشنطن من التداعيات المحتملة للتدخل في عمل القضاء، فإن كل ردود الفعل تلك، لا يمكن حسبانها انتصاراً كبيراً للمعارضة الإسرائيلية، أو بداية لتقويض حكم نتنياهو على المدى المنظور، إذ إن جميع هذه التطورات كانت في حسبان نتنياهو وحلفائه ولم تفاجئهم، وبالتالي فقد استعدوا لها جيداً على النحو التالي:
1- توافق نتنياهو ودرعي على تمرير أزمة حكم المحكمة العليا ضد الأخير، وذلك بامتناع درعي عن الاستقالة مع قبول إقالة نتنياهو له، وبذلك أثبت درعي للجمهور الحريدي الداعم لحزبه شاس، أنه مستعد لتحدي المحكمة العليا التي تناصبهم العداء سواء عن طريق تمرير تشريعات مخالفة للشريعة اليهودية، أو تفكيك بعض البؤر الاستيطانية التابعة لحلفائهم في أحزاب الصهيونية الدينية، أو الاستجابة لطلبات المعارضة العلمانية التي تتقدم للمحكمة العليا بطلبات تستهدف تقليص سلطات التيارات الدينية عامة على مجالات عديدة مثل الأحوال الشخصية (إجراءات الزواج والطلاق مثلاً)، وتحديد أو تعريف من هو اليهودي، وحق المؤسسات الدينية في تلقي المعونات المالية من الحكومة وعدم تجنيد أتباعها في الجيش وغيرها.
أما نتنياهو، فقد برهن على مهاراته بالتغلب على كل العراقيل التي كانت تحول دون تشكيله الائتلاف الحالي وعلى رأسها إصرار درعي على تولي منصب وزاري، حيث استجاب لطلبه وقام بتعيينه في مناصب وزارية كان يعلم أنها معرضة للإلغاء كما حدث، ولكن كما تتوقع الكثير من التحليلات في الإعلام الإسرائيلي سيقوم نتنياهو بتعويض درعي عن فقدان مناصبه الوزارية بتعيينه نائباً لرئيس الحكومة وجر المعارضة إلى معركة قانونية أخرى قد يطول أمدها حول مدى مشروعية تعيين درعي في هذا المنصب.
2- حاجج نتنياهو وحلفائه بأن المظاهرات الحاشدة ضد الحكومة والتي تحرض عليها المعارضة، لا تعبر بالضرورة عن القلق على الديمقراطية كما تزعم المعارضة، بل في الأغلب تعبر عن الفشل الذريع لأحزابها في كسب ثقة الشارع الإسرائيلي الذي لم يمنحها أصواتاً كافية لكي تصل لمقعد الحكم. كما أن تعامل السلطة والشرطة مع هذه المظاهرات بشكل سلمي يقوض ادعاء المعارضة بأن حكم اليمين يهدد الديمقراطية وحق التعبير. بالإضافة إلى ذلك، فإن حجم هذه التظاهرات لا يبدو كبيراً مقارنة بعدد السكان وعدد من لهم حق الاقتراع في الانتخابات، ويقابلها مظاهرات مماثلة من أنصار نتنياهو واليمين تؤيد مسعى الحكومة لإدخال تعديلات على لوائح عمل الهيئات القضائية.
وبالتالي فإن الوضع برمته يدعو لإقامة حوار بين جميع الأطراف للوصول إلى حل وسط يرضي الجميع، وهو ما صرح به نتنياهو مراراً بقوله أن الحكومة منفتحة على مثل هذا الحوار بدون اشتراطات مسبقة. ويعني ذلك أن قبول دعوة نتنياهو- بتأييد من جانب بعض القانونيين في الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وأيضاً الرئيس يتسحاق هرتسوغ - إجراء مثل هذا الحوار، يشكل نوعاً من الاعتراف الضمني بأن سعيه لإصلاح القضاء لا يشكل اعتداءاً من جانب حكومته على استقلاله (أي القضاء)، أو على الديمقراطية الإسرائيلية.
3- لأن نتنياهو يدرك مدى أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة، وأن التدخل السافر في شئون القضاء الإسرائيلي من جانب حكومة نتنياهو سيشكل حرجاً لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يعتبر الدفاع عن الليبرالية والديمقراطية والنظام الدولي المستند لقيمهما، حجر الزاوية في مواجهة دعوات الصين وروسيا لإقامة نظام عالمي بديل لا يستند لمنظومة قيم وحيدة، لأن نتنياهو يدرك ذلك، فقد حرص على أن ينقل لجيك سوليفان أثناء زيارته لإسرائيل أنه لن يقر أية تغييرات في منظومة عمل القضاء الإسرائيلي إلا عبر التوافق بينه وبين معارضيه.
وغنى عن الذكر أن الولايات المتحدة تضع في أولوياتها ضرورة أن يساعدها نتنياهو في التصدي لمحاولات الفلسطينيين لنزع الشرعية عن إسرائيل بسبب استمرار سياستها المتمثلة في نشر الاستيطان وتكريس الاحتلال للأراضي الفلسطينية والقضاء عملياً على حل الدولتين.
بمعنى آخر، لم يستخف نتنياهو بمخاوف واشنطن التي ربطت بين أهمية دعم القيم الديمقراطية في إسرائيل وعلى رأسها مبدأ فصل السلطات والحفاظ على استقلال القضاء، وبين القدرة الأمريكية على التصدي لمحاولات إدانة إسرائيل في المنظمات الدولية.
4- أظهر التحالف الذي يقوده نتنياهو قدرته على التصدي لهجمات المعارضة ضده، فعلى سبيل المثال فور نشر صحيفة "هاآرتس" في 23 يناير الجاري، خبراً عن تحرك المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية لتقديم دعوى للمحكمة العليا الإسرائيلية تستهدف عزل نتنياهو من منصبه، عقدت أحزاب الائتلاف اجتماعاً طارئاً انتهى بإصدار بيان يعتبر فيها مثل هذه الروايات نوعاً من التحريض على القيام بانقلاب على الحكومة المنتخبة والشرعية لإسرائيل، ويدين امتناع المستشار القضائي السيدة جالي بهاراف ميارا عن إيضاح موقفها في مواجهة مثل هذه الشائعات.
ولم يتأخر رد بهاراف التي أصدرت تكذيباً للأنباء السالفة الذكر وأكدت على عدم وجود مثل هذا التوجه لدى الجهاز الذي ترأسه. وبذلك ضمن حلف نتنياهو التشكيك مستقبلاً في الإعلام المعادي له وخاصة الذي يعبر عن اليسار الإسرائيلي الذي يسيطر على العديد من الوسائط الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني.
5- يراهن نتنياهو وحلفاؤه على الخفوت التدريجي لمظاهرات المعارضة ضده في الشارع، فمن جهة من المعتاد أن تشهد هذه الأنشطة تراجعاً في قوتها مع تقبل المجتمع الإسرائيلي لحقيقة استمرار الائتلاف في الحكم كأمر واقع، ومن جهة أخرى يقف الوسط العربي وأحزابه بعيداً عن المشاركة في مثل هذه الاحتجاجات بسبب خلافاته مع الجبهة المعادية لنتنياهو حول الكثير من القضايا وعلى رأسها الموقف من التشريعات التي تقر بيهودية الدولة، أو التي تتنكر لحقوق الوسط العربي في التمتع بالمساواة في الفرص والخدمات التي تقدمها الدولة، مع الوسط اليهودي، والموقف من مستقبل مدينة القدس، وكلها قضايا تشترك المعارضة وحكومة نتنياهو في دعمها.
وفي كل الأحوال، يبدو من المستبعد أن تقود أزمة الإطاحة بدرعي من مناصبه الوزارية إلى تهديد بقاء الائتلاف الحاكم، حيث ذكرت بعض التقارير في الصحف الإسرائيلية أنه حتى لو أراد درعي الانسحاب من الائتلاف، فإن العديد من أعضاء حزب شاس الذين يشغلون وزارات عديدة فيه لن يقبلوا بذلك، ومن المستبعد أن يفكر درعي من الأصل في الدخول في صدام مع أعضاء الحزب على هذه الخلفية تحديداً.