أعطت رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030 أولوية يعتد بها لدور قطاع الصناعة فى عملية التنمية باعتباره قطاعا محوريا ورئيسيا ترتكز عليه خطط الدولة فى عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية من ناحية، وباعتباره قاطرة الاقتصاد؛ نظرا لمساهمته الواسعة فى الناتج المحلى من ناحية ثانية، فضلا عن مساهمته الفاعلة فى توفير العديد من فرص العمل، لاسيما الأنشطة الصناعية كثيفة العمالة من ناحية ثالثة. وهو بهذا الدور يعد إحدى أهم آليات الدولة لتحقيق "مستهدفات" التنمية المستدامة. واتساقا مع متطلبات عملية التنمية المستهدفة، اتجهت الدولة متمثلة فى وزارة التجارة والصناعة، وعبر مركز تحديث الصناعة، إلى تطوير "البرنامج القومى لتعميق التصنيع المحلى" الذى يعد واحد من أهم البرامج الصناعية التى تهدف إلى مساندة ودعم الأنشطة الإنتاجية فى القطاعات الصناعية، إلى جانب زيادة القدرة التنافسية للمنتجات الصناعية المحلية فى مواجهة مثيلاتها من المنتجات الأجنبية المستوردة. والبرنامج، وفقا لهذا السياق، يستهدف رفع مستوى مساهمة المكون المحلى فى الصناعة كبديل يتم إحلاله محل المكون الأجنبى عبر عدة وسائل تتمحور حول تطوير "سياسات صناعية" قادرة على توفير "منتج صناعى محلى" لديه القدرة على المنافسة فى السوق المحلية والدولية، وفى الوقت نفسه يتميز بجودة صناعية عالية.
تعميق التصنيع المحلى بات حتميا، وفقا لآراء العديد من الخبراء الاقتصاديين، فى ضوء ما تشهده الدولة من تأثيرات اقتصادية بفعل عدة أزمات خارجية ألقت بظلالها على وتيرة الاقتصاد المصرى كأزمة "كوفيد-19"، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، فضلا عما تفرضه متطلبات المرحلة الثانية من خطط الإصلاح الاقتصادى مما يحتم اتخاذ إجراءات تستهدف دور أكبر للدولة فى مواجهة التداعيات الناتجة عن هذه التأثيرات ومن أبرزها؛ حالة التضخم فى الأسعار المترتبة على سعر صرف الدولار على المستويين المحلى والدولى، وما ينتج عنها من ارتفاع حتمى فى تكلفة الواردات من الخارج. من ثم، فإن خطط المواجهة الاقتصادية تتطلب وجود مجموعة من السياسات تستهدف إعادة هيكلة الاقتصاد فى مسار يدفع إلى تنمية قطاع الصناعة، وزيادة مساهمته فى جميع جهود وخطط التنمية بصورة تتيح المجال أمام المنتج المصرى -المصنوع محليا- ليحل محل مثيله الذى يتم استيراده من الخارج من ناحية، وينافس مثيله فى السوق العالمية من ناحية أخرى.
تبدأ هذه الخطط بتبنى استراتيجيات "تعميق التصنيع المحلى" من خلال "سياسات صناعية" متوسطة وطويلة الأجل، تؤسس جل اهتمامها على رفع الكفاءة التنافسية لقطاع "الصناعات التحويلية" تحديدا؛ بما يعزز من مستويات إنتاجيته، ويرفع من معدلات التشغيل فيه، ويزيد من مساهمته فى الناتج المحلى الإجمالى للدولة، ويعزز من وجود المنتج المحلى عند مستويات تنافسية. ويتم ذلك -وفقا لآراء المتخصصين- عبر عدة آليات، أهمها: رفع معدلات الاستثمار فى القطاع الصناعى بشكل مستدام، وتوطين وتعميق الصناعة على المستوى الجغرافى، ومستوى الخطط الاقتصادية، وتنمية سلاسل التوريد المحلية، والاندماج فى مراحل أعلى فى سلاسل القيمة العالمية والإقليمية، والارتقاء بتكنولوچيا الإنتاج الزراعى بما يرفع من معدلات إنتاجيته وإسهامه فى نشاط الصناعات التحويلية، وزيادة القدرة التنافسية للصناعات التحويلية على المستوى الدولى، والنهوض بالصادرات الصناعية، مع وضع واتخاذ إجراءات تأخذ فى حسبانها دور المكون البشرى والاستثمار فيه؛ بحيث يتم تأهيله بما يلائم برامج الثورة الصناعية التى باتت معتمدة كلية على التكنولوجيا الرقمية الحديثة وما يرتبط بها من تطوير ومعرفة. ووفقا لدراسة حديثة لمعهد التخطيط القومى، فإن من شأن رفع كفاءة قطاع الصناعات التحويلية وتعميق التصنيع أن يؤدى إلى تحقيق نتائج يعتد بها، منها: تطوير الصناعات الموجود فعليا، وخلق صناعات جديدة بإمكانها لعب دور مهم فى معالجة الفجوات الموجودة فى السوق المحلية، وتجديد هياكل الإنتاج الصناعى فى مجمله.
يواجه تحقيق أهداف تعميق الصناعة المصرية، وفقا لما سبق، عدة تحديات من شأنها تكريس الخلل فى بنية النشاط الصناعى المصرى، وأبرزها؛ عقبات الارتقاء بتنافسية المنتج المصرى، وقيود جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية من أجل تنفيذ مشروعات اقتصادية جديدة، فضلًا عن العثرات التى تعرقل تعميق التصنيع المحلى، لاسيما ما يتعلق منها بنسب المكون المحلى فى المنتج الصناعى فى صورته النهائية، وأخيرًا إشكاليات تحسين المناخ الاقتصادى فى عمومه التى تواجه الدولة وتؤدى إلى تباطؤ دورها الإنمائى.
أهمية وضرورة التوجه المباشر من قِبل الدولة نحو وضع "سياسات اقتصادية" من شأنها تعميق الصناعة على المدى الطويل، تبدو أكثر إلحاحا فى ضوء متطلبات جلسات الحوار الوطنى الخاصة بالمحور الاقتصادى؛ فثمة آراء ورؤى اقتصادية متعددة تقترح عدة آليات لسياسات اقتصادية تستهدف فى محصلتها النهائية "الارتقاء بالصناعة المصرية وتعميقها"، بما يدعم من قدرة الاقتصاد المصرى على مواجهة الأزمات.
فى هذا السياق، يطرح الدكتور طه عبدالعليم -مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- رؤيته الاقتصادية الشاملة بشأن "تعميق الصناعة المصرية"، من خلال دراسة متميزة بعنوان "تصنيع مصر.. التحدى والاستجابة". تتطرق إلى مناقشة عدد من قضايا تصنيع مصر، الذى يشير إليه باعتباره الركيزة الأساسية لنهضة صناعية وتنمية اقتصادية مستدامة، بما يتفق ورؤية مصر 2030. ويرى أن "تصنيع مصر" عبر "سياسات صناعية" تستهدف "تعميق الصناعة" يُفترض أن يكون موضوعا رئيسيا على رأس جدول أعمال القضايا الاقتصادية لجلسات الحوار الوطنى. وقد اشتملت الدراسة، فى هذا السياق، على عدة محاور: الأول، حدد الإطار النظرى والسياق التاريخى لتصنيع مصر. الثانى، حلل البنية الأساسية الإنتاجية رافعة تصنيع مصر. الثالث، رصد أسباب تأخر تصنيع مصر فى ضوء المؤشرات المقارنة الدولية والتاريخية. الرابع تناول مؤشرات تأخر تصنيع مصر مقارنة بمجموعة العشرين. الخامس، رصد حالة تصنيع مصر فى ضوء تقارير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية "اليونيدو". السادس، تناول أسباب حتمية وضع وتنفيذ سياسة صناعية فى مصر. السابع، عرض للدروس المستفادة من التجارب الدولية فى شأن الارتقاء بالتصنيع (حالة كوريا الجنوبية). أما المحوران الثامن والتاسع فقد خلصا إلى وضع الآليات والاستراتيجيات التى عبْرها يمكن لتعميق الصناعة أن يسهم فى تحرير الاقتصاد المصرى من الاختلالات المزمنة.