قادت الاضطرابات التي شهدها النظام الديمقراطي الأمريكي في أعقاب انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020، والتي أسفرت عن فوز الديمقراطي جو بايدن، إلى حالة من الفوضى والاستقطاب السياسي غير المسبوق، ما بين أنصار المعسكر الديمقراطي، وأنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي رفض ومؤيدوه من الجمهوريين نتائج الانتخابات (Election Deniers). هذا فضلاً عن نشوء حالة من الاستقطاب الداخلي في صفوف الجمهوريين، وهو ما انعكس في أزمة جمود انتخاب رئيس لمجلس النواب، حيث فشل زعيم الأغلبية للجمهوريين كيفن مكارثي خلال 14 جولة تصويتية في أن يتجاوز عتبة الأصوات اللازمة (218 صوت) للحصول على "مطرقة" رئيس المجلس[1]، نتيجة معارضة التيار اليميني المتطرف في الحزب الجمهوري، المكون من عشرين عضوًا جمهوريًا من حركة "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" (MAGA)، حيث تمكنوا من تكوين كتلة صلبة ضد ترشيح مكارثي[2]، الذي فاز في الجولة الـ15 التي أجريت في 7 يناير الجاري (2023).
ومع إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر الماضي 2022، والحديث يتزايد عن أن حالة الاستقطاب الحادثة في المجتمع الأمريكي بين مؤيدي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، سيكون لها انعكاساتها على توجهات المجالس التشريعية للولايات بإضفاء مزيد من الحزبية على عمليات تقسيم الدوائر الانتخابية. فقد كان لذلك دوره في إماطة اللثام عن إشكالية التلاعب الحزبي في تقسيم الدوائر الانتخابية (Gerrymandering)، وإعادتها للسطح من جديد، باعتبارها أحد المحددات المؤثرة في نتائج الانتخابات (الكونجرس أو الرئاسة).
وبظهور مؤشرات نتائج انتخابات التجديد النصفي، والتي تأكدت بسيطرة الجمهوريين بأغلبية محدودة على مجلس النواب، بـ222 مقعد في مقابل 213 مقعد للديمقراطيين، وسيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ كذلك بأغلبية بسيطة 51 مقعد بفارق مقعدين عن الجمهوريين (49 مقعد)، اتجهت التحليلات إلى تفسير هذه النتائج بإرجاعها إلى اختلال تفضيلات الناخبين لصالح حماية الديمقراطية على حساب التفضيلات الأخرى المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والأمنية، وذلك على عكس استطلاعات الرأي وغالبية التحليلات قبيل الانتخابات التي دفعت باحتمالية سيطرة الحزب الجمهوري على جناحي الكونجرس، وتحقيقه نجاحات كبيرة في هذه الانتخابات خاصة في ظل أزمة التضخم والغلاء التي يعاني منها المواطن الأمريكي، وتراجع شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن.
هذا التفسير وإن حوى في مضامينه ملمحًا أساسيًا لمتغيرات السياق الانتخابي الأمريكي من ناحية تفضيل الناخبين حماية الديمقراطية على حساب القضايا الحيوية الأخرى كالاقتصاد والأمن، إلا أنه أغفل بدوره جانبًا مهمًا في خلفيات هذا التحول الذي كان بمثابة "الباب الخلفي" لهندسة نتائج تلك الانتخابات والمرتبط بما يُعرف بـ "Gerrymandering"، حيث سبقت تلك الانتخابات مجموعة من الإجراءات على مستوى الولايات لمواجهة هذه الظاهرة التي يكون لها تداعياتها غير المباشرة على توجيه نتائج الانتخابات وترجيح كفة أحد المعسكرين على حساب المعسكر الآخر، وهو ما سيتم التعرض له تفصيلاً في هذه الدراسة، وبيان إلى أي مدى كان لهذه الاجراءات دور في النتائج الراهنة.
مفهوم Gerrymandering وأنماطه
يعود تاريخ المصطلح إلى عام 1812 عندما وقع حاكم ولاية ماساتشوستس إلبريدج جيري قانونًا لخطة إعادة تقسيم الدوائر بالولاية على حساب الحزب الفدرالي المعارض، التي تضمنت منطقة يعتقد الكثيرون أنها تشبه السمندل، مما دفع المعارضين إلى تسمية المنطقة باسمه[3].
وقد تم تعريف مصطلح "Gerrymandering" تعريفًا اصطلاحيًا وفقًا لموسوعة بريتانيكا، بأنه عمل "للتغيير بشكل غير عادل أو غير طبيعي، كخريطة سياسية للولاية، إلخ". ومن ناحية التعريف اللفظي فهو "إعادة تقسيم غير طبيعية وتعسفية للولاية أو المقاطعة"[4].
وقد ذهبت بعض الأدبيات إلى تعريفه بأنه "مصطلح يستخدم في السياسة الأمريكية لوصف رسم حدود الدوائر الانتخابية والأقسام وغيرها من التقسيمات الفرعية، من أجل إعطاء ميزة غير عادلة لحزب واحد على منافسيه"[5].
ووفقًا لموسوعة العلوم الاجتماعية فإن "Gerrymandering" هو "إساءة استخدام السلطة التي يهيمن بها الحزب السياسي في ذلك الوقت على الدوائر الانتخابية بشكل غير متكافئ بحيث يمكن احتساب قوته الانتخابية قدر الإمكان في الانتخابات وقوة الحزب أو الأحزاب الأخرى لأقل قدر ممكن. وذلك من خلال حشد ناخبي الأحزاب المتعارضة في عدد صغير من الدوائر، وبالتالي يوزع ناخبيه حتى يتمكنوا من تحمل عدد كبير من الدوائر بأغلبية صغيرة"[6].
وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض الأدبيات التي تعرضت للمفهوم أثارت ملاحظات أساسية، من أبرزها: عدم دقة التعميم في القول بأن كل إعادة تقسيم الدوائر هي تلاعب في تقسيم الدوائر، نظرًا لكون ذلك يجعل المصطلح السياسي الشائع بلا معنى كأداة لصقل التفكير السياسي والقانوني، مع التأكيد بأن إعادة التوزيع ليست هي المشكلة[7]، وإنما تطبيق التوزيع أي "إعادة تقسيم الدوائر" وفقًا لما تم إقراره في قانون التصويت عام 1968 بحيث يكون "شخص واحد، صوت واحد كأساس للتوزيع"، وهو ما يقاومه شاغلو المناصب ومؤيدوهم نظرًا للخطر الذي قد تتعرض له مزاياهم.
ومرت عملية "Gerrymandering" بعدد من التطورات على مدار التاريخ الأمريكي، وهو ما كان له انعكاساته في ظهور أنماط مغايرة من "Gerrymandering"، والتي تتركز في معظمها حول نمطين يُعرفا بـ "التعبئة والتكسير"، ومن أبرز هذه الأنواع:
1- "التلاعب الصامت" في تقسيم الدوائر الانتخابية (Silent gerrymanders)
كان هذا النوع من التلاعب الذي تسبب في حدوث تشويه كبير للتمثيل قبل القضايا الثلاثية لمحكمة وارن في الستينيات، يحدث من خلال مسارين[8): الأول، عن طريق التقاعس التشريعي؛ حيث فشلت هيئة إعادة تقسيم الدوائر (عادة الهيئة التشريعية) في إعادة تقسيم الولاية على الرغم من التغيرات السكانية الكبيرة. وتمحورت حالتان كلاسيكيتان من "القضايا السياسية" حول التقاعس التشريعي. قضية Colegrove v. Green والتي تعلقت بفشل الهيئة التشريعية في إلينوي في تغيير دوائر الكونجرس بعد عام 1901. وأيضًا قضية Baker v. Carr حيث تحدى تقاعس الهيئة التشريعية لولاية تينيسي في الدوائر التشريعية للولاية بعد 1901.
والمسار الثاني، تمثل في الأحكام الدستورية، حيث تمت المصادقة على الرفض التشريعي لتعديل الدوائر مع التحولات السكانية (من الريف إلى الحضر) من خلال البنود الدستورية التي حدت من تمثيل المقاطعة. وتم تضمين Silent gerrymanders في ترسيم الدوائر، بسبب التقاعس التشريعي، في الدستور مما جعل الإجراءات شبه مستحيلة.
2- التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية من خلال "التركز" (Gerrymanders by Concentration)
يقوم عامل التركز بتوطيد قوة حزب سياسي أو مجموعة عرقية في منطقة ما، أو في عدد قليل من الدوائر، عادةً لتقليل تمثيل الناخبين المعارضين. وفي المواقف الأقل شيوعًا، قد يركز حزب إعادة الترسيم مؤيديه في منطقة يسيطر فيها الطرف الآخر.
ونتيجة للسياسات العرقية في الستينيات أدى ذلك إلى ظهور نوع فرعي آخر من أنواع concentration gerrymander، ألا وهو the minority concentration gerrymander وغالبًا ما يُطلق على هذا النوع اسم "affirmative action" gerrymander. كأداة gerrymander يمكن استخدامه لتعزيز التمثيل العرقي أو يمكن استخدامه لتركيز الجماعات العرقية بطريقة "benevolent"، بينما في نفس الوقت تقليل نفوذها السياسي من خلال تركيز المجموعة العرقية في عدد أدنى من الدوائر[9].
3- التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية عبر "التشتت والتفكيك" (Gerrymanders by Composition)
خلافًا لأنماط التركيز السابقة، يعتمد هذا النمط على تقسيم وتشتيت قوة الخصم لتعزيز فرص التصويت للطرف الآخر. وذلك من خلال توزيع قوة الحزب المهيمن في أكبر عدد ممكن من الدوائر لضمان انتخاب مرشحيه. وبالتالي يُحرم حزب متساوٍ نسبيًا من التمثيل تمامًا من خلال تشتيت قوته بشكل متساوٍ لجعله أقلية في جميع المقاطعات. ويصبح الحزب المنافس في إجمالي الأصوات طرفًا ثانيًا بعيدًا من حيث التمثيل[10]. ومن ثم، إذا حافظ الحزب المهيمن على أغلبيته، وهو أمر مرجح في ضوء إعادة تقسيم الدوائر الأصلية، فيمكنه إدامة قاعدته السياسية من خلال المزيد من إعادة تقسيم الدوائر.
4- التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية عن طريق "الإقصاء والعزل" (Gerrymanders by Purpose— Elimination)
يعد هذا النمط أحد انعكاسات الأنماط السابقة للتشتيت والتركيز، حيث يتم استخدام تشتت وتركيز الناخبين أيضًا لإنشاء هذا النوع "elimination gerrymander" من أجل عزل شاغل المنصب من قاعدة دعمه لجعل إعادة الانتخاب غير محتملة أو أكثر صعوبة، حيث قد يتقاعد شاغل المنصب بدلاً من خوض معركة في ظل ظروف معاكسة، في ظل مواجهته المحتملة لمعركة إعادة انتخاب صعبة[11].
5- التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية من خلال "إعادة تشكيل الدوائر" (Gerrymanders by Form)
يتم اللجوء إلى هذا النمط في حالة المقاطعات التي تتناقص فيها عدد السكان، الذين ينتقلون إلى الخارج (الضواحي) ويمثلون نسبة مئوية أكبر من إجمالي المساحة، وهو ما يستدعي توحيد المناطق المركزية. وبالتالي يلجأ شاغلو المناصب، إلى توسيع اعتبار الأصول الديموغرافية للمقاطعات للحكم على استطالة المقاطعات[12]. على سبيل المثال، لجأ الجمهوريون إلى هذا النمط في عام 1951 في ولاية كاليفورنيا، وكذلك نيويورك. وغالبًا ما يستخدم هذا الأسلوب لتشتيت مراكز النفوذ أو القضاء عليها، لكن الممارسة الأكثر شيوعًا هي التركيز، مما يكشف عن الهدف السياسي[13].
انعكاسات على اتجاهات تصويت الناخبين الأمريكيين
عكست الأنماط المختلفة لـGerrymandering التي تم استعراضها، جانبًا من التفاعلات ذات التأثير المباشر على اتجاهات التصويت لدى الناخبين وممارستهم لحقهم التصويتي، وهو ما يؤثر بدوره على مسار العملية الديمقراطية، وقد أثارت تلك الإشكالية حالة من الجدل على المستوى النظري بين منظري ودارسي النظرية الديمقراطية، وكذلك النظرية القانونية الدستورية.
وقد ارتكز ذلك الجدل حول مدى شرعية عملية إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية خاصة في ظل عمليات التلاعب التي تحدث، حيث ذهب كل من أنصار النظرية الديمقراطية والقانونية إلى انتقاد تلك العمليات من منظور ورؤية خاصة بكل منهما، فبينما اعتبرتها النظرية الديمقراطية تؤثر بشكل مباشر على الشرعية الديمقراطية، في إطار انتهاكها لمعيار "النزاهة الإجرائية"، انتقدها أنصار النظرية القانونية من ناحية كونها تؤثر على عدد من الأحكام الدستورية بما في ذلك، على وجه الخصوص، بند الحماية المتساوية بالتعديل الأول[14]، وكذلك بنود الإجراءات القانونية.
وقد تعرضت هذه الاتجاهات النظرية للقضية، من خلال الكشف عن كيفية تأثير عمليات التلاعب الحزبي في إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية على اتجاهات التصويت للناخبين، من خلال إما تفتيت أو تعبئة الناخبين في دوائر تعطي ميزة لمرشحي وناخبي الحزب المسيطر على حساب ناخبي ومرشحي الحزب الآخر.
خرائط الدوائر الانتخابية الأمريكية (2022) وتأثير الـ Gerrymandering
قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي جرت في 8 نوفمبر 2022، تصاعد الحديث عن أن حالة الاستقطاب الحادثة في المجتمع الأمريكي بين مؤيدي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، سيكون لها انعكاساتها على توجهات المجالس التشريعية للولايات بإضفاء مزيد من الحزبية على عمليات تقسيم الدوائر الانتخابية.
وبالنظر إلى البيانات المرتبطة بعمليات إعادة تقسيم الدوائر الخاصة بانتخابات 2022، ومقارنتها ببيانات انتخابات 2020، نجد حجم الأثر الذي أحدثته عمليات التلاعب في إعادة تقسيم الدوائر، وإلى أي مدى ساهم ذلك في توازن النفوذ والسيطرة بين الحزبين (الديمقراطي – الجمهوري)، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
خريطة الدوائر الانتخابية للولايات والميل الحزبي وفقًا لمخطط انتخابات 2022
Source: CNN Politics, published on the following website: https://edition.cnn.com/election/2022/results/house?election-data-id=2022-HG&election-painting-mode=projection&filter-key-races=false&filter-flipped=false
خريطة الدوائر الانتخابية للولايات والميل الحزبي وفقًا لمخطط انتخابات 2020
Source: U.S. Census Bureau, published on the following website: https://projects.fivethirtyeight.com/redistricting-2022-maps/
حجم التغير في عدد الدوائر الانتخابية للحزبين (جمهوري - ديمقراطي) خلال الفترة (2020 – 2022)
Source: U.S. Census Bureau, published on the following website: https://projects.fivethirtyeight.com/redistricting-2022-maps/
تكشف البيانات السابقة أنه على الرغم من التلاعب المستمر في توزيع الدوائر الانتخابية، إلا أن خريطة الكونجرس المعلنة تعكس فارق ضئيل نسبيًا بين الدوائر التي تميل إلى الديمقراطيين والجمهوريين وذلك في خروج عن النمط المستمر منذ عقود في السياسة الأمريكية.
وقد يفسر ذلك أنه على عكس الدورات السابقة، ألغى المتشددون المتطرفون في الدوائر الانتخابية من كلا الحزبين بعضهم البعض بشكل فعال، لأن المشرعين الديمقراطيين بذلوا جهودًا أكبر لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة. هذا بالإضافة إلى أن هناك عددًا أكبر من الولايات التي لديها خرائط رسمتها المحاكم أو اللجان غير الحزبية والحزبية أكثر مما كانت عليه في العقود السابقة، مما يقلل من عدد الدوائر المرسومة لصالح حزب واحد عن قصد.
وبشكل عام، هناك عدد من الملاحظات الأساسية التي تعكسها هذه البيانات، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- تراجع المناطق التنافسية وتحولها لمناطق آمنة للحزبين: يتبين من الرسوم البيانية السابقة تراجع عدد المناطق التنافسية 6 مقاعد خلال مخطط الانتخابات الحالي على العكس من انتخابات 2020. ويحدث هذا غالبًا نتيجة محاولات كلا الحزبين لتأمين بعض المناطق التنافسية لصالحه بحيث تصبح محسومة له. على سبيل المثال، ولاية أوريغون التي تمكن الحزب الديمقراطي من تأمين أحد المناطق هناك لمرشحيه.
وعلى الرغم من هذا التراجع، إلا أنه لوحظ تحول عدد من المناطق الآمنة إلى تنافسية وذلك في إطار محاولات اللجان المستقلة والمحاكم إحداث التوازن في تقسيم الدوائر. هذا بالإضافة إلى اشتراط بعض الأحزاب الموافقة على خرائط بعض الولايات شرط أن تضم مقاعد تنافسية، وهو ما انعكس في ولاية أريزونا، حيث كان ضمان وجود مناطق تنافسية تحت خريطة أريزونا الجديدة شرطًا أساسيًا لجعل العضوين الديمقراطيين في اللجنة يصوتان لصالحها[15].
2- تراجع الميزة النسبية للحزب الجمهوري في تأمين المناطق على حساب الحزب الديمقراطي: وذلك على عكس الدورات السابقة التي كان يتمتع فيها الحزب الجمهوري بسيطرة كبيرة في الهيئات التشريعية والمحاكم وحكام الولايات، مما كان يسمح له بتعزيز ميزته الحزبية وتأمين مرشحيه في العديد من دوائر الولايات من خلال عمليات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وتقديم خرائط تصب في صالح شاغلي المناصب من الحزب الجمهوري. وانعكس ذلك بشكل واضح في انتخابات 2012 حيث احتفظ الحزب بسهولة بالسيطرة على مجلس النواب رغم فوز الديمقراطيين بأكبر عدد من الأصوات، كما هو موضح في الشكل التالي في ولاية ويسكونسن:
Source: Common Cause Minnesota, available at: https://bit.ly/3xKkpkc
أيضًا في عام 2016، كانت الميزة الهيكلية للحزب الجمهوري في ذروتها، حيث مالت 195 منطقة فقط نحو هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية في ذلك العام، مقارنة بـ 240 منطقة مالت نحو ترامب.
إلا أن ميزة الجمهوريين انهارت وتراجعت مع انتخابات التجديد النصفي لعام 2018، أي قبل أن تبدأ عملية إعادة تقسيم الدوائر الحالية، حيث أدت سلسلة من الأحكام القضائية في ولايات كارولينا الشمالية وفلوريدا وبنسلفانيا وفيرجينيا إلى تآكل أو القضاء على بعض من أكثر مخططي تقسيم الدوائر قيمة للحزب الجمهوري، مما قلل من التفوق الجمهوري في الغرفة بمقدار الثلث قبل انتخابات 2020[16].
أيضًا منحت انتخابات التجديد النصفي لعام 2018 للحزب الديمقراطي تأثيرًا أكبر في عملية إعادة تقسيم الدوائر في العديد من الولايات، حيث ألغى الديمقراطيون 12 مقعدًا يميل إلى الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في نيويورك وإلينوي ونيو مكسيكو ونيفادا وأوريغون. وتم تمريرها في ظل عدم عراقيل قضائية من جانب أي من محاكم هذه الولايات[17].
3- تفعيل الرقابة القضائية السابقة على عمليات إعادة تقسيم الدوائر من خلال الدعاوى القضائية: لعبت محاكم الولايات دورًا فعالاً من خلال ما يمكن تسميته "الرقابة السابقة" على خرائط تقسيم الدوائر، من خلال الدعاوى القضائية التي تم تحريكها ضد هذه الخرائط، وهو ما أسهم في إحداث التوازن في خرائط تقسيم عدد من الولايات، بالإضافة إلى مساهمته في كبح جماح الحزب الجمهوري في تعزيز ميزته الحزبية في خرائط تقسيم الدوائر الانتخابية التي يقدمها مسئولو الحزب في الهيئات التشريعية للولايات.
إذ كان من المتوقع أن يستعيد الجمهوريون مكاسبهم مرة أخرى في هذه الدورة، بحيث يحصل الحزب على مقاعد أكثر من الديمقراطيين. إلا أن الأحكام القضائية الجديدة والتعديلات الدستورية حدت من قدرة وسلطة الجمهوريين على تحسين خرائطهم السابقة[18].
يضاف إلى ذلك ما قامت به المحكمة العليا من رفض النظر في طلبات الجمهوريين لحظر عدد من الخرائط المختارة من قبل المحاكم، حيث رفضت المحكمة العليا طلبات الجمهوريين لحظر الخرائط المختارة من قبل المحكمة في بنسلفانيا ونورث كارولينا، مما عزز سيطرة الديمقراطيين على أربع مقاطعات على الأقل كان يمكن للجمهوريين أن يتمتعوا بها بخلاف ذلك[19].
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من التوازن النسبي الذي تتمتع به خريطة الدوائر الانتخابية الحالية للكونجرس، إلا أنها قد تكون قصيرة الأجل. فبينما زعمت المحاكم بشكل متزايد أن الأوان قد فات للطعن في الخرائط قبل موسم الانتخابات التمهيدية هذا العام، إلا أنه لا يزال من الممكن إعادة النظر في القضايا في ولاية بنسلفانيا وجورجيا وألاباما وولايات أخرى بعد انتخابات التجديد النصفي.
كما أنه سيتم أيضًا إعادة رسم الخريطة التي رسمتها المحكمة في ولاية كارولينا الشمالية بعد انتخابات هذا العام، وربما بعد فوز جمهوري إضافي بمقعد في المحكمة العليا للولاية. ويظل بإمكان الولايات الأخرى أن تختار إعادة رسم الخرائط في منتصف الدورة.
بشكل عام، اعتبرت العديد من التحليلات أن المخطط الراهن لدورة إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية يعد نقطة مضيئة - وإن كانت نسبية - بالنسبة للديمقراطية الأمريكية. فعلى الرغم من التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية، إلا أن المخطط شهد درجة من التوازن في تقسيم الدوائر بين الحزبين بشكل لم تشهده الولايات المتحدة منذ عقود، وهو ما يرجح أن يفوز الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات بالسلطة. وذلك بخلاف ما كان يحدث في العقود الأخيرة، حيث واجه الديمقراطيون العكس تمامًا نتيجة فشلهم بشكل روتيني في الفوز بالسلطة على الرغم من فوزهم بأكبر عدد من الأصوات، وهو ما كانت له ارتداداته السلبية على الحالة الديمقراطية وتراجعها بشكل كبير نظرًا لما أثاره هذا التاريخ من مخاوف من حكم الأقلية، حيث قد يفوز حزب واحد بالسيطرة الكاملة على الحكومة بدون أغلبية الأصوات.
إلى جانب هذه الملاحظات الأساسية كانت هناك ملاحظات أخرى حول عمليات التلاعب في تقسيم الدوائر، والتي تم الوقوف عليها سواء من خلال الدعاوى القضائية التي تم رفعها في عدد من الولايات، أو من خلال بيانات الاعتراض على خرائط الدوائر الانتخابية التي أعلن عنها الحزب الديمقراطي، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:
1- الدعاوى القضائية المتعلقة بقضايا التلاعب بخرائط الدوائر الانتخابية: شهد عدد من الولايات بعض قضايا التلاعب في خرائط إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بها كما هو موضح في الشكل البياني، حيث كانت هناك 7 دعاوى قضائية ضد خرائط تقسيم الدوائر الانتخابية في كل من ألاباما، أركنساس، فلوريدا، لويزيانا، ميشيغان، كارولينا الجنوبية، كولورادو، وذلك بدافع حماية حقوق التصويت للأقليات الموجودة في هذه الولايات وأغلبيتها من السود باستثناء ولاية كولورادو حيث يعيش بها أقلية أسبانية[20].
وهنا تجدر الإشارة إلى أن غالبية هذه الولايات تشهد سيطرة من جانب الحزب الجمهوري في الهيئات التشريعية والمحاكم وبعض حكام الولايات. ومن المعروف بميل الناخبين السود والملونين إلى التصويت للديمقراطيين، وبالتالي تعمدت الخرائط التي رسمتها الهيئات التشريعية التي يسيطر عليها الجمهوريون في هذه الولايات، أن تحرم الناخبين السود والأسبان من التصويت. فعلى سبيل المثال في ولاية ميشيغان سيتم ذلك من خلال القضاء على المناطق ذات الأغلبية السوداء في ديترويت[21]. وكذلك في ولاية كولورادو لا تمنح الخريطة الجديدة قوة كافية للناخبين من أصل أسباني، على الرغم من أن ما يقرب من ربع سكان كولورادو هم من ذوي الأصول الأسبانية، إلا أنه لا توجد منطقة بها تعددية من أصل أسباني[22].
العدد (التقريبي) للدعاوى القضائية المتعلقة بخرائط إعادة تقسيم الدوائر لعام 2022 حسب أسس التقاضي
Source: The graph was prepared by the researcher based on U.S. Census Bureau, published on the following website: https://projects.fivethirtyeight.com/redistricting-2022-maps/
أيضًا كان هناك بعض الدعاوى القضائية ضد خرائط تقسيم الدوائر الانتخابية في بعض الولايات على أساس انتهاكها لدستور الولاية، وجاءت هذه الدعاوى في المرتبة الثانية بـ 4 دعاوى في كل من كنتاكي وكارولينا الشمالية وبنسلفانيا وماريلاند. ففي ولاية كنتاكي جادلت الدعوى بأن الخريطة عبارة عن مخطط حزبي متطرف ينتهك دستور الولاية، مع التركيز بشكل خاص على المنطقة الأولى المترامية الأطراف والمكثفة للجمهوريين[23]. بينما طلب الجمهوريون في الهيئة التشريعية لولاية نورث كارولينا من المحكمة العليا الأمريكية مراجعة عملية إعادة تقسيم الدوائر بالولاية، بحجة أن محاكم الولاية تجاوزت صلاحياتها عندما رفضت هيئة مؤلفة من ثلاثة قضاة في فبراير 2022 خريطة أقرها المجلس التشريعي للولاية ذات السيطرة الجمهورية[24]. ومن المتوقع إعادة رسم الخريطة التي رسمتها المحكمة في الولاية بعد انتخابات هذا العام - وربما بعد فوز جمهوري إضافي بمقعد في المحكمة العليا للولاية[25].
في حين رفع جمهوريو بنسلفانيا دعوى قضائية للطعن في الخريطة الجديدة لمقاطعات الكومنولث في الكونجرس، حيث عارضوا حق المحكمة العليا في بنسلفانيا في تعيين المقاطعات، واصفين إياه بأنه "غير دستوري"[26]. هذا بالإضافة إلى ولاية ماريلاند، حيث ألغى قاضي الولاية الخريطة التي سنها الديمقراطيون في المجلس التشريعي، واصفًا إياها بـ "الحزبية المتطرفة" على أساس انتهاكها بنود دستور الولاية المتساوية في الحماية وحرية التعبير والانتخابات الحرة[27].
وجاءت في المرتبة الأخيرة الدعاوى القضائية المرتبطة بمسألة فجوة الكفاءة التمثيلية، حيث تم رفع 2 قضية في ولايتي أوهايو وكانساس، ويقصد هنا بفجوة الكفاءة بأنه "معيار يتضمن مفهوم "الأصوات الضائعة" عندما يقوم حزب بتقسيم الدوائر الإنتخابية لولاية ما، فإنه يحاول تعظيم الأصوات المهدرة للطرف المعارض مع تقليل أصواته إلى الحد الأدنى"[28]. ففي ولاية أوهايو أبطلت المحكمة العليا خريطة الكونجرس التي وافق عليها الحزب الجمهوري واعتبرتها "مليئة بالتحيز الحزبي غير المبرر"، مؤكدة أن الخريطة التي جعلت 73 بالمائة من مقاطعات الولاية ذات ميول جمهورية - تنتهك شرط الإنصاف الحزبي في دستور الولاية معتبرةً أن الحزب الجمهوري "بشكل عام لا يحشد أكثر من 55٪ من التصويت الشعبي على مستوى الولاية"[29].
بينما في ولاية كانساس قام الديمقراطيون واتحاد الحريات المدنية الأمريكية، برفع دعوتين قضائيتين في محكمة الولاية زاعمين أن التكوين الجديد للمقاطعة الثالثة غير عادل وغير قانوني، وأن من شأن الخريطة التي مررها الجمهوريون في الهيئة التشريعية للولاية أن تعرض احتمالات إعادة انتخاب النائب شاريس ديفيدز، العضو الديمقراطي الوحيد في الكونجرس في كانساس، للخطر[30].
2- الولايات التي شهدت إعادة توزيع متوازن (وميل معتدل للديمقراطيين): عكست غالبية الولايات التي شهدت إعادة تقسيم متوازن، درجة من الميل المعتدل للحزب الديمقراطي، ففي ولاية مين نقلت الخطة المعتمدة عاصمة الولاية أوغوستا، إلى المنطقة الثانية، وهو ما يساعد بشكل هامشي في تعزيز الدعم للنائب الديمقراطي جاريد جولدن، الذي يمثل المقعد على الرغم من فوز الرئيس السابق دونالد ترامب بالمنطقة في كل من عامي 2016 و2020[31]. أيضًا تخلق الخريطة الجديدة لولاية إلينوي منطقة جديدة ذات أغلبية لاتينية، وهي المنطقة الثالثة، وهو تغيير كان بعض السياسيين والنشطاء يدفعون من أجله[32]. هذا بالإضافة إلى كل من ولاية كاليفورنيا التي انحازت بشكل معتدل تجاه الديمقراطيين[33] وبنسلفانيا، حيث تدخلت المحكمة العليا ذات الأغلبية الديمقراطية لوضع اللمسات الأخيرة على الخرائط بعد أن استخدم الحاكم الديمقراطي توم وولف حق النقض ضد الخريطة التي اختارها المجلس التشريعي للولاية التي يسيطر عليها الجمهوريون[34].
2- إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لإعادة التوازن من خلال التعاون بين الحزبين: لوحظ وجود عمليات تعاون مشترك بين الحزبين في بعض الولايات، وهو ما ساهم بدوره في إحداث التوازن في خرائط تقسيم تلك الولايات واتساقها مع معطيات الناخبين الموجودين في كل ولاية. ومن بين هذه الولايات، ولاية أريزونا، حيث قامت لجنة إعادة تقسيم الدوائر المستقلة في الولاية بإجراء العديد من التعديلات الصغيرة على خطة الولاية النهائية لإعادة تقسيم الدوائر لتصحيح التناقضات بين حدود الدوائر أو لإزالة الانقسامات المحرجة، وهى التعديلات التي لم تغير الميل الحزبي لأي من مناطق أريزونا.
وما كان لهذه الخطة أن ترى النور إلا من خلال التعاون المشترك بين الحزبين، حيث كان ضمان وجود مناطق تنافسية تحت خريطة أريزونا الجديدة شرطًا أساسيًا لجعل العضوين الديمقراطيين في اللجنة يصوتان لصالحها. وبذلك أصبحت المنطقة السادسة ذات الميول الجمهورية أكثر تنافسية مما كانت عليه في الإصدارات السابقة بينما المنطقة السابعة هي منطقة ذات أصول إسبانية كثيفة من أجل الامتثال لقانون حقوق التصويت[35].
4- الولايات التي شهدت تلاعبًا حزبيًا من قبل مسئولي الحزب الديمقراطي: على الرغم من أنه جرت العادة أن يتصدر الحزب الجمهوري مشهد عمليات التلاعب في إعادة تقسيم الدوائر، حيث لم يكن الديمقراطيون قد تبنوا التلاعب الفعال أو المتطرف بشكل خاص قبل عقد من الزمان. إلا أنه لوحظ وجود عمليات تلاعب خلال المخطط الانتخابي الحالي من جانب اعضاء الحزب الديمقراطي في بعض الولايات ومنها: ولاية ماريلاند حيث ألغى قاضي الولاية الخريطة التي سنها الديموقراطيون في المجلس التشريعي، واصفًا إياها بـ "الحزبية المتطرفة" على أساس انتهاكها بنود دستور الولاية المتساوية في الحماية وحرية التعبير والانتخابات الحرة. حيث من شأنها "تفتيت" قوة الناخبين الجمهوريين من خلال توزيعهم في مناطق كثيفة الزرقة. على سبيل المثال، تم إخراج الناخبين الجمهوريين في مقاطعة هارفورد من المنطقة الأولى ووضعهم في المنطقة الثالثة الزرقاء - أثناء نحت مناطق هارفورد الزرقاء بالقرب من خليج تشيسابيك وإبقائهم في المنطقة الأولى[36]. ايضًا رصد وجود محاولات في كل من ولاية ماساتشوستس[37]، وأوريغون[38]، ورود آيلاند[39].
5- الولايات التي لديها اعتراض على إعادة رسم الخرائط دون دعاوى قضائية: إضافة إلى الاعتراضات السابقة حول خرائط تقسيم الدوائر الانتخابية، والتي تمثلت في دعاوى قضائية، كانت هناك اعتراضات أخرى على قضايا تلاعب ولكن دون أن يتم تحريك دعوات قضائية. وارتبط ذلك بتقسيم الدوائر في كل من ولاية إنديانا حيث هاجم الديموقراطيون الخريطة التي مررها الجمهوريون والتي تجعل منطقة الكونغرس الخامسة، التي تمثلها الجمهورية فيكتوريا سبارتز، أكثر أمانًا للحزب الجمهوري، ويقضي بشكل فعال على مناطق الكونغرس التنافسية في الولاية[40]. أيضًا هاجم الديمقراطيون خريطة ولاية أوكلاهوما الجديدة التي تنتج خمسة مقاعد حمراء بأمان، مما يؤدي إلى إلغاء المقعد التنافسي الوحيد في أوكلاهوما[41].
نتائج انتخابات التجديد النصفي 2022 ودلالات الـ "Gerrymandering"
كشفت نتائج الانتخابات عن أغلبية محدودة للحزب الجمهوري بمجلس النواب بواقع 222 مقعد بفارق 9 مقاعد عن الحزب الديمقراطي، بينما حصل الحزب الديمقراطي على أغلبية بسيطة بمجلس الشيوخ بواقع 51 مقعد بفارق مقعدين عن الحزب الجمهوري. وتعكس هذه النتائج درجة من التوازن في تأثير كلا الحزبين على جناحي الكونجرس، كنتيجة لإجراءات تحجيم ظاهرة الـ Gerrymandering وتأثيراتها على خرائط نفوذ كلا الحزبين في الدوائر الانتخابية للولايات على النحو المبين سلفًا، وهو ما تأكد مع فوز الديمقراطيين في بعض الولايات التي شهدت اجراءات تقاضي أو تعديل على خرائطها الانتخابية.
على سبيل المثال، نجد أن الولايات التي شهدت دعوات قضائية ضد خرائط تقسيم دوائرها الانتخابية ومنها ألاباما، أركنساس، فلوريدا، لويزيانا، ميشيغان، كارولينا الجنوبية، كولورادو، التي كان الحزب الجمهوري مسيطرًا فيها على الهيئات التشريعية والمحاكم وبعض حكام الولايات، قد شهدت جميعها باستثناء ولاية إركنساس (ظلت حمراء بسيطرة جمهورية) حضورًا ديمقراطيًا بفوز المرشحين الديمقراطيين في عدد من مناطق تلك الولايات ومنها، فوز المرشح الديمقراطي في الحي الثالث بولاية ألاباما على المرشح الجمهوري، وكذلك فوز المرشحين الديمقراطيين ببعض المقاعد بولاية فلوريدا وكارولينا الجنوبية وكولورادو ومقعد بولاية لويزيانا[42]. هذا بالإضافة إلى ولاية ميشيغان التي تعد المثال الأبرز على التأثير الإيجابي لتدخل اللجان المستقلة التي شكلت لتعديل خرائط الدوائر الانتخابية للولاية (والتي كانت تعد من أكثر الخرائط التي تشهد تلاعبًا في تقسيمها بشكل منحاز لصالح الحزب الجمهوري)، بيد أن هذه التعديلات أحدثت توازنًا في تمثيل الحزبين، وأنشأت عددًا من المناطق التنافسية أكثر بكثير من تلك الموجودة في الولايات الأخرى[43].
كما كان واضحًا أيضًا الدور الذي لعبه التدخل في تعديل خرائط ولاية مين، حيث نقلت الخريطة المعتمدة عاصمة الولاية "أوغوستا"، إلى المنطقة الثانية. وهو ما ساعد في تعزيز الدعم للنائب الديمقراطي جاريد جولدن، وفوزه بالمقعد، على الرغم من فوز الرئيس السابق دونالد ترامب بالمنطقة في كل من عامي 2016 و2020[44].
أيضًا عكست النتائج درجة من المرونة في تبادلية المقاعد بين الحزبين في بعض الولايات، فما كان أحمر في دورة الانتخابات السابقة أصبح أزرق والعكس الصحيح، وهو ما يمكن إيضاحه من خلال الأشكال التالية:
مقاعد الولايات التي تحولت للحزب الديمقراطي خلال الانتخابات 2022
Source: 2022 ELECTION RESULTS, politico, Nov. 22, 2022. Retrieved From: https://www.politico.com/2022-election/results/house/
مقاعد الولايات التي تحولت للحزب الجمهوري خلال الانتخابات 2022
Source: 2022 ELECTION RESULTS, politico, Nov. 22, 2022. Retrieved From: https://www.politico.com/2022-election/results/house/
وعلى الرغم من هذه التأثيرات الإيجابية لإحداث التوازن في خرائط تقسيم الدوائر الانتخابية، إلا أن هذا لم يمنع وجود تجاوزات حدثت في ولايات أخرى لترجيح كفة حزب على حساب الحزب الآخر، وهو ما حدث من خلال تدخل مشرعي الحزب الجمهوري لتعديل الخرائط الانتخابية لصالحهم أو منع محاولات تعديل الخرائط الانتخابية لدوائر ولايات كل من تكساس وجورجيا وتينيسي وأوهايو للابقاء على ميزتهم الحزبية هناك، وبرز ذلك بشكل واضح أيضًا في ولاية فلوريدا حيث مرر حاكم فلوريدا رون ديسانتيس خريطة أعطت الجمهوريين أربعة مقاعد إضافية في تلك الولاية[45].
أيضًا لم يكن الديمقراطيون قادرين على تنظيم عدد صغير من الولايات الخاصة بهم، بما في ذلك نيو مكسيكو وإلينوي ونيفادا وأوريجون، كما أنهم لم يكونوا قادرين أيضًا على مواجهة الجمهوريين من خلال التلاعب في الولايات الزرقاء الكبيرة جدًا التي يهيمنون عليها عادةً - كاليفورنيا ونيوجيرسي وواشنطن وكولورادو وفيرجينيا[46]. كما لعبت المحكمة العليا دورًا في إعاقة ترسيم الدوائر الانتخابية في بعض الولايات، وهو ما تجلى في كل من ولاية ألاباما وجورجيا ولويزيانا، حيث كان من المقرر أن يتم رسم منطقة أخرى ذات أغلبية من السود. إلا أن المحكمة العليا أعاقت تلك الأحكام، مما أدى إلى حصول الجمهوريين على ثلاثة مقاعد كان من المحتمل أن تكون من نصيب الديمقراطيين[47].
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في مواجهة هذه الإجراءات، حقق الديمقراطيون مكاسبهم في المحكمة. في ولاية كارولينا الشمالية، حيث أُلغي نظام ترشيح حزبي كان من شأنه أن يمنح الجمهوريين ما يصل إلى 11 مقعدًا من أصل 14 مقعدًا. وانتخبت خريطة الاستبدال سبعة جمهوريين وسبعة ديمقراطيين[48]. أيضًا في ولاية ماريلاند، ألغت محكمة الولاية خريطة اقترحها الديمقراطيون، لكنها وافقت على خريطة بديلة من الجمعية العامة. ومن خلال هذا الحل الوسط انتخب سبعة ديمقراطيين، على الأقل واحد أكثر مما اقترحته المحاكاة الحاسوبية كنتيجة حزبية محايدة[49].
مستقبل الديمقراطية الأمريكية
تمر الديمقراطية الأمريكية بحالة من التعثر ارتباطًا بجملة من الظروف والمتغيرات التي تراكمت على مدار العقود الماضية، وتمثل عمليات التلاعب الحزبي في تقسيم الدوائر الانتخابية أحد التحديات التي تواجهها الديمقراطية الأمريكية في الوقت الراهن نظرًا لما يترتب عليها من تداعيات سلبية تؤثر على مرتكزات أساسية في العملية الديمقراطية مثل المساواة التمثيلية للناخبين وحقهم في التصويت وخاصة الأقليات. هذا فضلاً عن تهديدها للشرعية الديمقراطية، "فالعملية الديمقراطية التي تمحو أو تقلل من تأثير دائرة الاقتراع إلى ما بعد نقطة معينة يمكن أن تهدد قابلية العملية بأكملها في المستقبل من خلال حث الخاسرين في الانتخابات على التساؤل عن قيمة استمرار مشاركتهم" وهو ما أكده Stuart Chinn في إطار رؤيته حول القضية من منظور مفهوم "النزاهة الإجرائية" وفقًا للنظرية الديمقراطية[50].
ويرتكز جوهر الإشكالية هنا أنه نتيجة لعمليات التلاعب الحزبي في تقسيم الدوائر الانتخابية تفقد العملية الديمقراطية معناها بحيث يصبح شاغلو المناصب هم من يختار الناخبين وليس العكس، وهو ما يقلل بطبيعة الحال من النزاهة للعملية الديمقراطية.
وفي إطار ما تم استعراضه من بيانات ترتبط بعمليات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وفقًا لمخطط انتخابات 2022 ومقارنتها ببيانات مخطط انتخابات 2020، بالإضافة إلى النتائج الأولية لانتخابات التجديد النصفي 2022، فقد برزت بعض الملاحظات الأساسية حول الفرص والتحديات التي يواجهها مستقبل الديمقراطية الأمريكية في الفترة الراهنة في ضوء ظاهرة الـ Gerrymandering، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
الفرص:
1- تفعيل دور المحاكم الفيدرالية واللجان المستقلة: لوحظ خلال عمليات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لمخطط انتخابات 2022 ملمح إيجابي تمثل في تفعيل دور المحاكم الفيدرالية في الفصل في الدعاوى المتعلقة بعمليات التلاعب الحزبي، وانعكس ذلك بشكل واضح في ولاية ماريلاند، وكذلك ويسكونسن، وفيرجينيا، وولاية كارولينا الشمالية، وأوهايو، وبنسلفانيا. هذا بالإضافة إلى تفعيل دور اللجان المستقلة لرسم خرائط الدوائر الانتخابية، والتي كان لها دور فعال في إحداث التوازن في تلك الدوائر وتحييد الأدوار الحزبية وتحيزاتها في رسم الدوائر لصالحها، وانعكس ذلك بشكل واضح في كل من ولاية كاليفورنيا، ومين، وولاية رود آيلاند، وأريزونا.
2- فعالية تقسيم الدوائر كآلية لإعادة التوازن وليس فقط للتلاعب الحزبي: على الرغم من أن عملية إعادة تقسيم الدوائر واختلالها في شكل التلاعب في الدوائر الانتخابية قد يُنظر إليه على أنه تمرين حزبي يمكن للفاعلين فيه التلاعب دون رادع لصالح الحزب، وفقًا للميول السياسية لشاغلي المناصب الحزبيين، إلا أنه ثبت خلال مخطط انتخابات 2022 أن عمليات تقسيم الدوائر القائمة على التشتيت أو التعبئة كانت فعالة في إعادة التوازن لتلك الدوائر بحيث تتوازن الدائرة مع عدد سكانها وجعلها أكثر تنافسية من الناحية الانتخابية. وانعكس ذلك بشكل واضح في ولاية فيرجينيا وويسكونسن وماريلاند وإلينوي. ويرجع هذا التطور الإيجابي للدور الفعال للجان المستقلة وكذلك المحاكم الفيدرالية.
3- احتمالية التعاون بين الحزبين حول عملية إعادة تقسيم الدوائر: على الرغم من كون هذا الملمح ليس جديدًا حيث جرت العادة خلال العقود الماضية على التعاون بين الحزبين في تقسيم الدوائر في بعض الولايات لتأمين دوائر شاغلي المناصب التابعين للحزبين، وذلك على حساب معيار التنافس الانتخابي والناخبين. بينما خلال مخطط انتخابات 2022 لوحظ وجود حالة للتعاون بين الحزبين لإحداث التوازن في الدوائر الانتخابية، وانعكس ذلك بشكل واضح خلال تقسيم الدوائر في ولاية أريزونا حيث كان ضمان وجود مناطق تنافسية تحت خريطة أريزونا الجديدة شرطًا أساسيًا لجعل العضوين الديمقراطيين في اللجنة يصوتان لصالحها، والتي تلقى استحسان الجمهوريين.
التحديات:
1- تزايد حالة الاستقطاب الحزبي: يعد الاستقطاب الحزبي الحادث في الفترة الراهنة خاصة في اعقاب الانتخابات الرئاسية السابقة، وحالة الرفض من جانب الحزب الجمهوري لنتائج الانتخابات التي فاز خلالها المرشح الديمقراطي بايدن ووصف الرئيس السابق ترامب لها بأنها "مسروقة"، أحد التحديات التي تلقي بظلالها على المشهد الديمقراطي الأمريكي في عمومه، وخاصة عمليات التلاعب الحزبي التي تتأثر بدورها بهذه الاستقطابات الحزبية، وهو ما انعكس بشكل واضح في العديد من عمليات تقسيم الدوائر الانتخابية للولايات التي يسيطر فيها الحزب الجمهوري على الهيئات التشريعية.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما أوضحه كل من المفكرين مان وأورنستين حول مسألة الاستقطاب الحزبي بأنه أصبح يمثل "السمة المركزية والأكثر إشكالية للسياسة الأمريكية المعاصرة، وأن الأحزاب السياسية اليوم موحدة داخليًا وتتميز أيديولوجيًا أكثر مما كانت عليه منذ أكثر من قرن"[51]. وهو ما يتقاطع أيضًا مع ما أكده أبراموفيتز حول صعود "التحزب السلبي"، وهو الحزبية المدفوعة بمشاعر سلبية قوية تجاه المعارضين[52].
وبالتالي من المحتمل أن يؤدي استمرار الاتجاه نحو المزيد من الاستقطاب الحزبي، إلى التأثير السلبي على الدور الفعال للجان المواطنين المستقلة المسئولة عن رسم الخرائط المتوازنة في بعض الولايات، ومن ثم وصولها إلى حالة الجمود السياسي، لا سيما إذا اعتقدت الجماعات والأحزاب السياسية غير الراضية أن بإمكانها الحصول على صفقة أفضل من المحاكم أو عملية المبادرة الذاتية بإحداث التغيير عبر سيطرتها في المجالس التشريعية للولايات.
أيضًا بات هذا التهديد تنسحب آثاره على مشهد التماسك الحزبي للأحزاب الرئيسة، على غرار الحزب الجمهوري، الذي أدت حالة الاستقطاب التي يعانيها في صفوف أعضائه إلى تجميد انتخاب زعيم أغلبيته مكارثي رئيسًا لمجلس النواب، خلال 14 جولة تصويتية، وهو ما لم يحدث منذ عقود حيث كانت المرة الأولى في 1855، واستغرقت 133 جولة على مدار شهرين[53]، على نحو كان من شأنه تعطيل عمل مجلس النواب بتشكيله الجديد، وهو ما يترتب عليه تعطيل تشكيل اللجان أو تطوير التشريعات أو المشاركة في جلسات الإحاطة، ومن ثم، التأثير على مشهد العملية الديمقراطية التي سيفقد خلالها الناخب الثقة في العملية برمتها، ويعزف عن المشاركة، حيث سيرى أن صوته لم يعد كافيًا ليعكس تفضيلاته في العملية السياسية.
2- الخطر المتزايد للتقنيات التكنولوجية المستخدمة في رسم خرائط الدوائر الانتخابية: تصاعد مؤخرًا خلال العقد الأخير خطر استخدام التقنيات التكنولوجيا في تفاقم ظاهرة التلاعب الحزبي في تقسيم الدوائر الحزبية، حيث في ظل الشعور بعدم التقيد بالضرورات الأخلاقية للنظام أو بنصوصه الدستورية، وجد الخبراء التكنولوجيون، الذين يلجأ إليهم السياسيون، وسيلة جديدة لتسهيل تجاهل حكم القانون، حيث لم تسهل هذه التقنيات التكنولوجية الجديدة الدقة في معالجة البيانات السكانية فحسب، بل سمحت أيضًا بدمج ومعالجة كميات هائلة من البيانات السياسية[54]. وبالتالي، إذا أعطيت الجوانب السياسية وزنًا متساويًا لمعيار السكان المنصوص عليه، فإن إساءة استخدام تقسيم المقاطعة قد تفاقمت بسبب إساءة استخدام التكنولوجيا الدقيقة.
3- المعارضة الحزبية لدور المحاكم في رسم خرائط الدوائر الانتخابية: على الرغم من الدور الفعال الذي لعبته المحاكم الفيدرالية في إحداث التوازن لعمليات رسم خرائط الدوائر الانتخابية، سواء كان ذلك من خلال رفض الخرائط التي تقدمها الهيئات التشريعية وتعكس تلاعبًا حزبيًا ينتهك مبادئ الحماية والمساواة التمثيلية أو القيام برسم الخرائط في حالة فشل الهيئات التشريعية في التوصل لخريطة مقبولة لجميع الأطراف.
إلا أن هذا الدور مهدد بالتعطيل في ظل حالة عدم الرضاء الحزبي الذي يرى في هذا الدور في بعض الأحيان مضر بمصالحه الحزبية، وانعكس ذلك في بعض الولايات خلال مخطط الانتخابات 2022، فعلى سبيل المثال، في ولاية كارولينا الشمالية، حيث طلب الجمهوريون في الهيئة التشريعية للولاية من المحكمة العليا الأمريكية مراجعة عملية إعادة تقسيم الدوائر بالولاية، بحجة أن محاكم الولاية تجاوزت صلاحياتها عندما رفضت خريطة أقرها المجلس التشريعي، والتي كان يراها الجمهوريون مفيدة لمصالحه. أيضًا في ولاية بنسلفانيا، حيث عارض الجمهوريون حق المحكمة العليا في بنسلفانيا في تعيين المقاطعات، واصفين إياه بأنه "غير دستوري".
إجمالاً، يمكن القول بأنه على الرغم من الأثر السلبي الذي تحدثه عمليات التلاعب الحزبي في تقسيم الدوائر الانتخابية للولايات على الديمقراطية الأمريكية والتسبب في تراجعها، إلا أن ذلك لن يقود إلى حالة الانهيار الكامل للنظام الديمقراطي الأمريكي، خاصة إذا ما نظرنا إلى درجات الاستجابة التي شكلها النظام القضائي هناك من تدخل لإعادة التوازن والحد من آثار عمليات التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية على الشرعية الديمقراطية، هذا فضلاً عن الاتجاه لتشكيل لجان مستقلة للقيام بهذه العملية لتحييد التحيز الحزبي، وهو ما كان له أثره الإيجابي على مخطط الدوائر الانتخابية لعام 2022، حيث عكس عددًا متساويًا تقريبًا من الدوائر التي تميل إلى الديمقراطيين والجمهوريين، وذلك في خروج عن النمط المستمر منذ عقود في السياسة الأمريكية، وفي الأخير انعكس ذلك في نتائج الانتخابات التي أتت بنسب تمثيل متوازنة – نسبيًا – لكلا الحزبين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الحالة المرتبطة بأثر عمليات التلاعب الحزبي على العملية الديمقراطية تتفاوت وفقًا لظروف السياق السياسي الناشئة فيه، فبالنظر إلى العقود القديمة سنجد أن تقسيم الدوائر الحزبية كانت سمة ثابتة للسياسة الأمريكية خلال فترات طويلة من تاريخها ولم تكن تشكل مصدر قلق أو تهديد –على غرار الوضع الراهن– للديمقراطية الأمريكية. إلا أن تصاعد حالة الاستقطاب الحزبي التي باتت تمثل السمة الرئيسة للسياسة الأمريكية المعاصرة هو ما يشكل تحديًا حقيقيًا للديمقراطية الأمريكية نظرًا لما تلعبه من دور في التأثير السلبي على كامل مشهد العملية الديمقراطية بما فيها التأثير على تفاقم عمليات التلاعب الحزبي وتهديد الشرعية الديمقراطية، وهو ما ينذر بتداعيات وخيمة في المستقبل على حالة الديمقراطية الأمريكية إذا ما استمرت هذه الحالة من الاستقطاب.
[25] A Potential Rarity in American Politics: A Fair Congressional Map, Ibid.
[44] 2020’s Crossover Districts, Center for Politics, Ibid.
[50] Chinn, Stuart, Procedural Integrity and Partisan Gerrymandering (March 2, 2020). 58 Houston Law Review 597 (2021), Access Date: November 19, 2022. Retrieved From:
https://ssrn.com/abstract=3547573
[51] Kaiser, Robert G., ‘It’s Even Worse Than It Looks: How the American Constitutional System Collided With The New Politics of Extremism’ by Thomas E. Mann and Norman J. Ornstein, Washington Post, April 30, 2012. Access Date: November 21, 2022. Retrieved From:
https://wapo.st/3EzJ4JA
[53] Kevin McCarthy is elected House speaker after 15 votes and days of negotiations, Ibid.