شأنها شأن غيرها من المفاهيم الاجتماعية، لا يوجد تعريف محدد متفق عليه لماهية "الثقافة". وقد حصرت إحدى الدراسات (Kroeber and Kluckhohn, 1952) أكثر من 160 تعريفا للثقافة. على سبيل المثال، عرفها تايلور (في سنة 1887)، بأنها "ذلك البناء المعقد الذي يشتمل على المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والعرف، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان باعتباره عضو في مجتمع." من ذلك أيضا التعريف الذي قدمه كلوخون وكيلي (Kluckhohn and Kelly, 1945)، والذي يشير إلى "جميع الأنماط المعيشية التي تشكلت عبر التاريخ، بشكل صريح أو ضمني، وبشكل عقلاني أو غير عقلاني، والقائمة في مرحلة زمنية محددة، والتي تشكل دليلا محتملا للسلوك الإنساني". كما عرفها هيرسكوفيتس (Herskovits, 1955) على أنها "ذلك الجزء من البيئة التي صنعها الإنسان". وعرفها هوبيل (Hoebel, 1960) على أنها "مجموعة السمات السلوكية المكتسبة، والتي يتشاركها أعضاء مجتمع ما". كذلك، يعرفها داونز (Downs, 1971) على أنها "الخريطة الذهنية التي تشكل دليلا لعلاقاتنا مع المحيطين بنا وغيرهم". ويعرفها هوفستيد (Hofstede, 1980) على أنها "المجموعة التفاعلية من الخصائص المشتركة التي تؤثر على استجابة جماعة ما للبيئة المحيطة". وقدم هوفستيد تعريفا آخر للثقافة على أنها "البرمجة الجماعية للعقل، والتي تميز مجموعة من الأفراد عن غيرها". وفي تعريف آخر، قدمه تربسترا ودافيد (Terpstra and David, 1985)، هي: "مجموعة من الرموز المُتعَلَمة، والمشتركة، والمُقْنِعة، والمترابطة، والتي يوفر معناها مجموعة من التوجهات لأعضاء المجتمع. هذه التوجهات مجتمعة توفر حلولًا للمشكلات التي يجب على المجتمعات حلها إذا أرادت أن تظل قابلة للحياة." ويلخص البعض الثقافة بأنها "مجموعة من القيم، والمعتقدات، والسلوكيات، والعادات، والمواقف التي تميز مجتمع ما، وتقدم لأعضائه حلولا لمشكلات التكيف الخارجي والتكامل الداخلي".

كذلك، تعددت مستويات دراسة والتمييز بين الثقافات؛ فظهر التمييز بين الثقافة الغربية مقابل الثقافة الشرقية، كما أُجريت العديد من الدراسات حول الثقافات الوطنية. كذلك اهتمت دراسات أخرى بالثقافات المحلية وتمييزها عن الثقافة الوطنية. ويقع في قلب ثقافة المجتمع مجموعة القيم Values، والتي تجسد أكثر من غيرها ثقافة المجتمع.

هناك مجموعة من القيم الأساسية المكونة لمنظومة الثقافة الصينية. وحتى مع وجود قدر من التباين بين منظومة الثقافة في كل من هونج كونج وتايوان من ناحية، والصين الأم من ناحية أخرى، لكن تظل هناك مجموعة من القيم المركزية المشتركة التي تجمع بين الصينيين بصرف النظر عن وجودهم الجغرافي. هذه القيم تشكلت عبر آلاف السنين، ولعبت اللغة الصينية دورا كبيرا في ضمان بقائها وانتقالها من جيل إلى آخر.

وتتكون الثقافة الصينية المعاصرة من ثلاثة مصادر رئيسية: الثقافة التقليدية، والأيديولوجية الشيوعية، بجانب بعض القيم الغربية التي دخلت حديثا على المجتمع الصيني. وتشمل الثقافة الصينية التقليدية مجموعة من المدارس الفكرية المختلفة والمتنافسة أحيانًا، وتحديدا الكونفوشيوسية، والطاوية، والبوذية، بالإضافة إلى مجموعة من الثقافات المحلية.

وتأتي الكونفوشيوسية في مقدمة مصادر الثقافة الصينية التقليدية، والتي لا تزال توفر الأساس لقواعد السلوك الفردي والجماعي في الصين. وتنصرف الكونفوشيوسية إلى العقيدة السلوكية والأخلاقية المستندة إلى تعاليم كونفوشيوس فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية، والأبنية الاجتماعية، والسلوك المثالي، وأخلاقيات العمل. وتتلخص تعاليم كونفوشيوس الأساسية في فضائل خمس، هي: الإنسانية، والبر، واللياقة، والحكمة، والإخلاص. وحدد كونفوشيوس كذلك خمس علاقات إنسانية أساسية ومبادئ تحكم هذه العلاقات. الأولى، هي العلاقة بين السيد والتابع Sovereign and Subjects، وتحكمها قيمة الولاء والواجب، الثانية هي العلاقة بين الأب والابن، وتحكمها قيمة الحب والطاعة، الثالثة هي العلاقة بين الزوج والزوجة وتحكمها قيمة الالتزام والخضوع، والعلاقة بين الأخ الأكبر والأخ الأصغر وتحكمها قيم السن والخبرة والقدوة Seniority and modelling subject، وأخيرا العلاقة بين الأصدقاء وتحكمها قيمة الثقة المتبادلة.

ويلاحظ أنه من بين هذه العلاقات الإنسانية الأساسية الخمس، أن ثلاث منها تقع ضمن العلاقات الأسرية، ما يشير بالتالي إلى الأهمية الكبيرة لموقع الأسرة داخل البناء الاجتماعي في الصين، مقابل نمطين من العلاقات غير الأسرية (الأولى، والخامسة)، الأمر الذي يشير إلى أن العلاقات والقيم الأبوية تؤثر بالتأكيد على غيرها من العلاقات؛ السياسية والإدارية. وقد انشغلت العديد من الدراسات بمسح منظومة القيم الصينية الرئيسية، منها مشروع:

“Chinese Values and the Search for Culture-Free Dimensions of Culture… The Chinese Cultural Connection”.

والذي نشر في يونيو 1987. وقد حصرت الدراسة (40) قيمة أساسية لدى المجتمع الصيني استقرت عبر التاريخ. وعملت دراسات أخرى على تطوير هذا المسح، فأضافت إليه (31) قيمة أخرى، ليصبح إجمالي القيم الصينية الرئيسية (71) قيمة، موزعة على ثماني فئات أساسية، هي القيم الوطنية (أبرزها: حب الوطن، والشعور بالتفوق الثقافي، واحترام التقاليد، وتحمل المشقات، وحب المعرفة، وأولوية التقييم من قبل القادة قبل القانون)، والعلاقات بين الأشخاص (أبرزها: الجدارة بالثقة، والتسامح، والرحمة، والنظر إلى الناس باعتبارهم أُناس صالحين، والمجاملة، واحترام الطقوس الاجتماعية، ورد التحية والمحاباة والهدايا)، والعلاقات داخل الأسرة (أبرزها: طاعة الوالدين، واحترام العلاقات الهرمية، والولاء لرب الأسرة، والشعور بالانتماء، والتضامن والجماعية، والوصول إلى التوافق والحلول الوسط، وتجنب المواجهة)، وعلاقات العمل (أبرزها: العمل الشاق، والمثابرة، والحذر، والادخار، والقدرة على التكيف)، والعلاقات داخل مجال الأعمال (أبرزها: تقدير الثروة، وعدم التنافس، وعدم الجري وراء الربح كقيمة عليا، والاعتماد على التشبيك والعلاقات الشخصية المباشرة، والاهتمام بالعلاقات طويلة الأمد وليس المكسب السريع)، والسمات الشخصية (أبرزها: التزام الفضيلة، والاستقامة، والنزاهة، والإخلاص، والشعور بالخجل، والتربية الذاتية، والثبات والاستقرار، والسيطرة على الرغبات، والالتزام بالواجبات تجاه الأسرة والأمة، والبرجماتية بمعنى سرعة التصرف حسب الموقف، والرضا عما تم تحقيقه في الحياة)، والقيم الحاكمة لعلاقة الإنسان بالوقت (أبرزها: تقدير الماضي past time orientation، والاستمرارية؛ بمعنى النظر إلى حركة الوقت باعتبارها حركة دائرية وليس خطا مستقيما، والالتزام بالرؤية بعيدة المدى)، وأخيرا العلاقة بين الإنسان والبيئة (وأبرزها الانسجام بين الإنسان والبيئة). ولا تتسم جميع القيم الصينية بالانسجام والتوافق فيما بينها، بعض هذه القيم تتناقض مع قيم أخرى داخل المنظومة القيمية.

انطلاقا من الموقع المهم للصين داخل النظام العالمي، والتحولات الجارية المتسارعة على قمة هذا النظام، يصبح فهم الثقافة الصينية شرطا ضروريا ليس فقط لفهم الصين من الداخل، لكن لفهم نموذج التنمية الصينية، وفهم السلوك الخارجي للصين، بما يساهم في فهم السياسة الخارجية الصينية، وفهم النظام العالمي حالة الانتقال إلى نظام متعدد الأطراف تمثل الصين طرفا رئيسا فيه. في هذا السياق، أجرى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية مشروعا بحثيا، بالتعاون مع الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية CSCEC، لدراسة الثقافة الصينية، حاول من خلاله الإجابة على التساؤلات البحثية التالية:

1- ما هي الملامح الأساسية للثقافة الصينية؟ وما هو موقع القيم الأساسية في هذه الثقافة؟ وما هي مصادر هذه القيم، وما هي التحولات الأساسية التي طرأت عليها خلال العقود الأخيرة؟  

2- ما هي العلاقة بين الثقافة الصينية من ناحية، والنموذج التنموي الصيني، من ناحية أخرى؟ وإلى أي حد لعبت الثقافة الصينية دورا في تحفيز التنمية الصينية؟ وكيف انعكست عملية التنمية على الثقافة الصينية؟

3- ما هو تأثير الثقافة الصينية على السلوك الخارجي الصيني؟

4- ما هو موقع الثقافة الصينية في القوة الناعمة الصينية؟ وكيف تم المزج بين الثقافة الصينية ومفهوم القوة الناعمة؟ وما هو موقف الصناعة الثقافية الصينية؟ وما هي التحديات التي تواجه القوة الناعمة الصينية من هذه الزاوية؟

5- ما هي التأثيرات المتوقعة للثقافة الصينية على النظام العالمي في حالة تحول الصين إلى قوة عالمية؟

المنظور الحضاري في الثقافة الصينية... المجتمعي والإنساني

تطرح قضية القيم بشكل عام، وما تتضمنه الثقافة الصينية بشكل خاص من سمات، الكثير من الدلالات والمعاني حول العلاقة بين القيم الإنسانية والقيم المجتمعية، وانعكاساتها على صياغة الخصوصية الثقافية. ويمكن الإشارة هنا إلى عدد من الدلالات التي تطرحها الثقافة الصينية بتقاطعاتها الحضارية وأبعادها الكلية؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نذكر منها:

القضية الأول، ترتبط بقدرة الثقافة وواقعها الحضاري على تأكيد الطابع الإنساني (العالمي) للقيم الثقافية، وقدرتها على تعزيز دور الإنسان في البناء والتعمير، واستكشاف المعارف، وترسيخ فلسفة الحياة، والارتقاء بكرامة الإنسان وحماية حريته الذاتية، وتحقيق العدالة والتضامن. فإذا كان القرن الواحد والعشرين هو قرن تجسيد الكثير من الأفكار الكبرى والإيديولوجيات التي برزت خلال القرن التاسع عشر، وانعكاسا واضحا لما أظهرته الحداثة وما بعدها والتطور المعاصر للرأسمالية العالمية، وتغليب الثقافة الاستهلاكية، فإنه شهد أيضا الكثير من الاختلالات في علاقة الإنسان بالكون والطبيعة وبذاته وبتفاعلاته الإنسانية، وما أفرزته هذه التفاعلات من تنامي لحالة الاغتراب وضعف الهويات أمام الهوية والثقافة الغربية وأنماطها المعيشية، وصعود أجيال معولمة تعبر بوضوح عن توجهاتها الفكرية ورؤيتها للعالم وللعلاقات والتفاعلات المجتمعية بأشكال مغايرة، تعبر عن فجوات جيلية حادة، فإنه (القرن الواحد والعشرون) يشهد كذلك مرحلة جديدة من الصراع والتنافس بين القوى الكبرى، سيكون التنافس الثقافي والقيمي أحد أبعاد ومجالات هذا التنافس/ الصراع. كما ستمثل الثقافة أحد أبرز مقومات بناء القوة والمكانة الدولية، مع توظيف كبير للأدوات التكنولوجية والمعرفية والاجتماعية. 

القضية الثانية، تتعلق بقدرة الثقافات الكبرى على الاستمرار ونشر منظومة قيمها وثقافتها؛ فهذه الثقافات شأنها شأن الكيانات الحية تحتاج للروافد المغذية القادرة على بقائها. وأول هذه الروافد هو استنادها إلى المنظور الإنساني ووحدة الإنسانية، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام والتساؤل حول عمليات التصنيف الثقافي على أساس هيراركي، ومحاولة فرض نموذج ثقافي كوني أيا كان مضمونة وسماته وخصائصه من منظور الاستعلاء الحضاري، وليس من منطلق قبول التنوع والتعدد الثقافي.

هذا التحدي القديم والراهن والمستقبلي، يظل دائما مرتهن بالقدرة على تجاوز فكرة "الاستعلاء الحضاري"، والقبول بالتعدد الثقافي، وتفعيل مقومات الحوار والتواصل بين الحضارات، وتنمية الإدراك بمتطلبات التعايش بين الثقافات المتعددة، بعيدا عما فرضته الكثير من الأفكار والمعاني التي طرحها العديد من مفكري وباحثي الشرق والغرب، وإن كانت اللحظة الراهنة وطبيعة وسرعة التحولات في الأفكار والقيم مع تنامي وسائل الاتصال وما فرضته العولمة الثقافية الغربية من واقع وتحديات ومخاوف من تأثيراتها على هوية وخصوصية المجتمعات النامية والأسيوية، يظل تحديا وتهديدا حقيقيا.

القضية الثالثة، ترتبط بالمنظور الحضاري للثقافات وعلاقته بصياغة الهوية الذاتية الجماعية للأفراد والمجتمعات ومسار الافتخار والاعتزاز. تلك النتيجة تبدو عاكسه لجملة من التحديات التي تفرضها حالة التنوع الثقافي من ناحية، وحالة الهيمنة والسيطرة التي فرضتها ثقافة العولمة، ومن قبلها الحداثة وما بعدها من ناحية ثانية. فقد فرضت تحولات العولمة مزيدا من الاضطراب والتوتر، والتنافس والصراع بين تلك الثقافات إلى الحد الذي جعل صمويل هنتنجتون يطرح فكرة صدام الحضارات لأسباب أيديولوجية وسياسية. كما يثير فرانسيس فوكوياما بأطروحته حول "نهاية التاريخ"، الكثير من النقاش والجدل حول فكرة "الاستعلاء الحضاري"، وموقع التنوع الثقافي منها وعلاقاتها بما طرحه المفكر الفرنسي روجيه جارودى من إمكانية تعظيم القواسم المشتركة بين الحضارات من خلال "حوار الحضارات"، وأن التواصل الحضاري وبناء الثقافات المشتركة أمر ممكن.

القضية الرابعة، ترتبط بتعدد مداخل فهم الثقافة ومحاولة وضع تعريف واحد حاكم لها، وهو ما ينسحب بالتبعية على محاولة الاتفاق حول ماهية الثقافة الصينية، وهي وإن كانت مسألة صعبة بالنسبة لتعريف الثقافة بشكل عام، فإنها تصبح أكثر صعوبة في حالة الثقافة الصينية. في هذا السياق، يصبح المدخل الأهم هو الوقوف على الملامح الرئيسية لما تحمله هذه الثقافة من معتقدات ومعرفة وقيم وعادات وتقاليد، والتي تعبر عن ما يمكن وصفه بـ"العقل الجمعي" للمجتمع الصيني، والتي تمنح هذا المجتمع سمات وخصائص تميزه عن المجتمعات الأخرى. وتتجلى تلك النظرة بوضوح في خريطة القيم والتي أمكن تجميعها في ثمان مستويات أو فئات عامة، يتفرع عنها 71 قيمة ثقافية أساسية لدى الشعب الصيني.

القضية الخامسة، ترتبط بالإستراتيجية والرؤية الوطنية الصينية؛ ذلك أن الفلسفة الكونفوشيوسية تشير بوضوح إلى مدى تجذر القيم الثقافية، وعمق الارتباط بتلك الفلسفة التي ترتكز على الالتزامات والعلاقات الاجتماعية القائمة على الانسجام والتعاون، والولاء، والمعاملة بالمثل، والصبر، وتجنب المخاطر، وإدراك كل فرد لمكانته في المجتمع. وهنا تجدر الإشارة إلى الإطار الحاكم للثقافة التقليدية في الإستراتيجية الوطنية الكبرى، وسبل تحفيز الروح الوطنية والمحافظة على الجوهر الثقافي، استنادا إلى أفكار المؤسسين من المفكرين الصينيين وتاريخ الصين وثقافتها وخصوصيتها. مع الأخذ في الاعتبار شمولية وتكامل محاور ومكونات إستراتيجية التنمية السلمية الصينية ومقتضيات تنفيذها، ولذا يتم التميز بين ما يمكن اعتباره جوهري وحاكم وبين ما تقتضيه متطلبات التطبيق. نجد، على سبيل المثال، أن المنظور الأخلاقي والقيمى للإستراتيجية الوطنية على المستويين الداخلي والخارجي يتوافق مع جوهر المنظور الثقافي الصيني؛ فالعلاقة بين إستراتيجية الصين الكبرى وثقافتها هي العلاقة بين الجوهر والتطبيق. وكون الإثنان لا ينفصلان.

من هنا تأتى أهمية طرح الثقافة الصينية ومنظومتها القيمية، ليس بحكم الصعود الصيني، ولا بحكم امتلاكها أحد أقدم الحضارات في التاريخ البشرى، ولكن لما تمثله هذه الثقافة من واقع حضاري وقيمي يختلف على النموذج الحضاري الغربي الذي يغلب عليه قيم المادة، والفردية، والميكنة، والاستناد إلى الكم. ومن ثم، فإن المشروع البحثي ركز في هذا البعد على محاولة الإجابة على سؤال رئيسي: كيف ساهمت منظومة القيم الصينية الرئيسية في صياغة حضارتها وقدرتها على استعادة دورة نهوضها العالمى؟ كما ركز هذا الفصل على تناول الروافد المغذية للعقل الجمعي الصيني، انطلاقا من أهمية الإدراك المجتمعي، وتفهم طبيعة التكوين وخصوصية الواقع الحضاري، وقدرته على صياغة منظومته القيمية الحاكمة للثقافة، وبنائه الفكري والأيدلوجي، وبناء التوافقات المجتمعية خاصة مع التحولات والتغييرات المجتمعية على مستوى الفكر والسلوك التي تفرضها العولمة ومتطلبات الانفتاح الاقتصادي، وذلك من خلال تناول ثلاث محاور رئيسية: أولها، روافد تشكيل وتغذية الثقافة الصينية عبر العصور التاريخية. ثانيها، هيكل القيم الحاكمة وتطور المنظور المجتمعي لها. ثالثها، تأثير التحولات المجتمعية والدولية على منظومة القيم وانعكاساتها على البنيان المجتمعي الصيني.

وتذهب الدراسة الى التأكيد على أهمية تحليل العلاقات بين الثقافة وبناء القوة في المجتمع، مع تحديد دور الثقافة في المجتمع من جانب، وصياغة تلك العلاقات في إطار درجة كبيرة من الخصوصية التي لا تتعارض مع المشاركة والانفتاح على العالم من جانب ثان، والتي تبدو واضحة في التجربة الصينية النهضوية، وعاكسة لنموذج تنموي ثقافي يخالف النموذج الغربي.

وتشير العديد من الدراسات إلى متغيرات عدة خلال العقود الثلاثة الماضية كان لها تأثيرها على التكوين الثقافي والاجتماعي الصيني ومردودة المجتمعي، وإن كان معظم هذه الدراسات ركز فى غالبيته على طبيعة وحجم المكون الاقتصادي، وكونه شكل قوة الدفع الكبيرة لعملية التطور أو التحول، وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن يجب الأخذ في الاعتبار طبيعة إدراك القيادة الصينية ودرجة تقبل وتفاعل المجتمع مع هذا التحول، وما عكسه قرار الانفتاح من مرونة وصياغة لنموذج يعبر عن الجمع والمزواجة بين مقتضيات التوافق مع المتغيرات الدولية، خاصة الاقتصادية، وبين ما يحمله القرار من تأكيد على خصوصية الطابع والثقافة والقيم الصينية في أبعاده الاجتماعية. بمعنى أدق، إن خصوصية النموذج التنموى الصينى تشير بوضوح إلى أهمية وتكامل عناصر المكونات الثقافية والسياسية والاقتصادية في تفهم هذا التحول وما يطرح النموذج من أفعال وردود أفعال تنعكس بالتبعية على مغذيات الثقافة وروافدها والوزن النسبى لكل رافد من هذه الروافد، فمدخلات الانفتاح الاقتصادي تؤثر في الثقافة وتعكس الثقافة أيضا.

الثقافة... والقوة الناعمة للصين

لم يتوقف نجاح الصين خلال الأربعة عقود الماضية على القوة الصلبة مثلما كان سائدا في العلاقات الدولية. لكن الصين امتلكت قوتها الناعمة المؤثرة، التي جعلتها موضع اهتمام في شتى أنحاء العالم. وتنوعت مصادر القوة الناعمة لدى الصين، ما بين التقليدي، والمعاصر، والرقمي. ومع تحقيق نقلة نوعية كبيرة في سياق القوة الناعمة الرقمية، دعمت الصين مكانتها الدولية خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين.

ووفقا لإسهام جوزف ناى فإن مصادر القوة الناعمة ثلاثة، هي: الثقافة القابلة للانتشار خارج الحدود، والقيم السياسية كنموذج ملهم، وسياسة خارجية ناجحة في رسم صورة ايجابية للدولة. بدأ "ناي" في مطلع 1991 في بلورة مفهوم القوة الناعمة، ثم عاد لتطويره  تزامنا مع الاستخدام المفرط للقوة العسكرية الأمريكية في حالتي أفغانستان (2001) والعراق (2003)، ثم اضطر إلى إعادة النظر في المفهوم مرة أخرى على خلفية الحرب الروسية- الأوكرانية.

ورغم  الإسهام المهم الذي قدمه "ناي"، غير أنه لم يكن أول من عبر عن المعنى العام المقصود فى مفهوم القوة الناعمة. فقد طُرح هذا المعنى فى سياق أفكار كان هدفها تطوير الماركسية من منظور نقدى. لكن هذه الأفكار، التى عبرت عن المعنى المتضمن فى مفهوم القوة الناعمة، ركزت على الأوضاع الداخلية فى الدول، وليس على العلاقات الدولية التى كانت الدافع وراء اهتمام جوزيف ناي ببلورة هذا المفهوم.

وكان ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو أول من شرعا فى تأسيس نظرية نقدية كانت جديدة فى حينها، وقدما فيها إسهامات أهمها -فيما يتعلق بأصول فكرة القوة الناعمة- دمج التحليل الثقافى والاجتماعى القائم على البحث التجريبى فى الفلسفة الماركسية. كما انتبه "أنطونيو جرامشي" خلال مراجعته النقدية الماركسية، إلى أن النظام الرأسمالي استخدم مؤسسات تعليمية وثقافية لترسيخ قيم تجعله مقبولا في المجتمع. وهكذا، ظل الاهتمام بالثقافة وتأثيرها في سياق تفسير قدرة النظام الرأسمالي على التطور والاستمرار. وفي حين كانت الثقافة أحد أهم عناصر القوة الناعمة، التى كتب عنها ناى في 2004، فإنه بعد قرابة 20 عاما  في ظل انتشار الثقافة الرقمية وزيادة تأثيرها، أصبحت القوة الناعمة في ثوبها الحالي تحدد بمستوى الرقمية وتطورها.

وتتميز الثقافة التقليدية والمعاصرة بكونهما كل ما سبق ظهور الثقافة الرقمية. وفي معظم المجتمعات ثمة علاقة وثيقة بين الثقافة التقليدية التي تكونت من أفكار وفلسفات وتقاليد على مدى قرون طويلة، وبين الثقافة المعاصرة التي تختلف من مجتمع لآخر. وكقاعدة عامة يكتسب بعض القيم الاجتماعية وأنماط الحياة فى هذا المجتمع أو ذاك أهميته فى تشكيل القوة الناعمة من جاذبيته فى مجتمعات أخرى. ويشمل ذلك كل ما يتعلق بحياة الناس فى مجتمع محدد، أى كيف يعيشون، وماذا يأكلون ويشربون ويلبسون، وكيف يعملون ويديرون العلاقات بينهم أفرادًا وجماعات.

وفي الحالة الصينية، تعد الثقافة المجتمعية وأنماط الحياة المرتبطة بها، من أكثر الثقافات التي تَشغل القيم والتقاليد الموروثة فيها مساحة عريضة، خاصة في ظل العزلة التي ارتبطت بالموقع الجغرافي، والصورة النمطية لدى الصينيين عن الآخر، والتي استمرت قرونا حاجزا ثقافيا. ويعود الفضل في تشكيل الثقافة المجتمعية في الصين لتعاليم كونفوشيوس، والتي  عملت مرشدا في  في سبيل استعادة  الوحدة والتضامن وروح الأمة، عبر استدعاء أفضل ما في داخل الإنسان الصيني. وتتلخص إسهامات كونفوشيوس الجوهرية في إرساء قيمة احترام التجربة التاريخية، وإعلاء شأن الأخلاق، واحترام العمل والروح العملية.

وعندما نتأمل هذه العناصر الأساسية فى أفكار كونفوشيوس، نجد فيها تعبيرًا مبكرًا جدًا عن بعض ما يتضمنه معنى القوة الناعمة؛ فعندما سئل عن مقومات إدارة الدولة، أجاب بتوفر الغذاء والعتاد العسكري، وثقة الناس في من يحكم. فعاد تلميذه فسأل: إذا أردنا أن نحذف واحدًا من هذه المقومات الثلاثة، فبم تنصح؟ فأجاب: (نحذف ما يكفى من العتاد العسكرى). ونجد فى بدايات تجربة الصين الحديثة، ولفترة غير قصيرة، تطبيقًا لهذا التصور حين كان التركيز على توجيه الموارد الأساسية نحو التنمية والبناء ومحاربة الفقر، ووضع الأساس للقوة الاقتصادية بدرجة أكبر من القوة العسكرية، التى لم تُهمل ولكنها لم تحظ بالأولوية لفترة من الوقت، حيث ازداد الاهتمام بها بعد الاطمئنان إلى أن الاقتصاد وصل إلى المستوى الذى خُطط له، وأنه يتطور بشكل مطرد فى الاتجاه الذى يمكن أن يجعله الأقوى فى العالم.

وقد تسبب عامل اللغة في حجب الكثير من الأعمال الثقافية الإبداعية  الصينية عن العالم خلال القرن الماضي. فقد عُرف مثلاً على نطاق واسع أن الصينيين ابتكروا بعض النظريات والآلات الموسيقية. ومن أهم الآلات التى ابتكروها آلة "البيسبا"، وهى عبارة عن عود رباعى، وآلة "السونا" وهى الطراز الصينى لآلة "البوق" أو "الكورنت" أو "الترومبون" فى الغرب. ولكن يعتقد بعض الدارسين أن آلة "الآرهو" الوترية تُعد أهم ما ابتكره الصينيون من جواهر فنية، وهى تشبه آلة "الكمان" الغربية، ولكنها كانت سابقة عليها وربما ساهمت فى التعريف بالعزف على الأوتار، إذ يعود تاريخ ابتكارها إلى القرن السابع الميلادى. فلم يُعرف الكمان فى الغرب، وتحديدًا فى بعض مدن شمال إيطاليا، إلا فى القرن السادس عشر. ويُعتقد أن فنانى مدينتى البندقية وجنوه اهتدوا إلى فكرة العزف الوترى بواسطة الكمان عن طريق العلاقات التجارية التى توسعت بين أوروبا وآسيا فى ذلك الوقت عبر طريق الحرير القديم

ويُنسب أيضا لكونفوشيوس وعيه بأهمية الموسيقي والتي كانت تستخدم في الشعائر الدينية، إذ كان يرى أن البشر يكونوا أكثر سعادة وقدرة على العمل حين توجد موسيقى مرتبطة بالتقاليد والأعراف. تأسيسا على ذلك تطورت الموسيقي في الصين وأصبح لموسيقيها حضورا في أوروبا، مثل عازف البيانو المشهور عالميا "لى يوندى" والموسيقار "لانج لانج". كما أصبح حضور السينما الصينية في المهرجانات الدولية أمرا معتادا، والتي أكدت على حضورها القوى بحصول الفيلم الصينى "الذرة الحمراء" على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 1987، وصولا إلى حصول فيلم المخرجة الشابة كلوى تشاو (أرض الترحال Nomad Land) على جوائز أفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل ممثلة، فى مهرجان أوسكار عام 2021. وكانت الثقافة الصينية حاضرة بقوة فى الكلمة التى ألقتها فى حفل توزيع الجوائز، إذ اختصرت فلسفتها فى الحياة بكلمات موجزة مستمدة من فلسفة التاو الصينية عن الإنسان الذى يحب الخير بفطرته.

لقد غيرت شبكة الانترنت الكثير في الحياة البشرية، وتبعتها نوعا جديدا من الثقافة الرقمية، تلك المفتوحة بلا أطر ولا حدود. ولما كانت أدوات الثقافة الرقمية الجديدة مقرونة بامتلاك الهواتف وأجهزة الحاسوب المحمولة، فقد بدأ يتضاءل تأثير الإعلام التقليدي، خاصة عند جيل Z. وقد حققت الصين تقدمًا كبيرًا، بل اختراقًا مثيرًا، فى عالم الثورة الرقمية فى فترة وجيزة مقارنة بالدول التى سبقتها فى هذا المجال، فصارت المنافس الأول للولايات المتحدة فى هذا المجال، وأصبحت المنصات العشر الأكبر فى مجال التواصل الاجتماعي مملوكة لشركات أمريكية أو صينية وفقًا لإحصاءات عام 2022.

ولا تتوقف الصين في مجال الرقمية على المواقع التواصل الاجتماعي، فقد شهدت الصين تطورا تدريجيا في إنتاج التكنولوجيا الجديدة منذ التسعينات؛ ففي العقد الأخير حقق عدد متزايد من الشركات الصينية تقدما كبيرا اعتمادا على مطورين ومبدعين، إما تلقوا تعليمهم في الجامعات الصينية أو في الخارج. بدأت بعد ذلك الشركات الصينية تنافس نظيرتها الأمريكية بل وتتفوق على بعضها. كذك، حققت الشركات الصينية على المستوى العالمي اختراقات ساهمت في تعزيز ودعم قوة الصين الناعمة الرقمية، مثل مجموعة "تينسنت"، ومجموعة "بايت داتس"، ومجموعة "تشيانج جيلي".

وفي المجمل ترتكز القوة الناعمة الصينية الرقمية على  ثلاث مرتكزات أساسية، هي: الأول، تقنية الجيل الخامس G5، حيث تمتلك الصين شركتين رائدتين في هذا المجال، هما "هواوي"، وZTE. وقد عبر عن القلق الأمريكي من امتلاك الصين هذه التقنية فرضها عقوبات على هاتين الشركتين الصينيتين، اللتين حققتا أكبر تقدم فى مجال هذه التقنية.

الثاني، تطبيق تيك توك؛ والذي حقق انتشارًا واسعًا خلال فترة وجيزة. فقد أصبح متاحًا فى أنحاء العالم منذ أغسطس 2018، بعيد إطلاق نسخته الصينية- الإقليمية (دوين)، إذ وصل عدد مستخدمى التطبيق إلى أكثر من مليار شخص (1.023 مليار) شهريًا، فى حين أن عدد مستخدمى أكبر منافسيه وهو تطبيق يوتيوب بلغ حوالى 2.5 مليار شخص فى مطلع عام 2022 برغم أنه موجود منذ عام 2005، أى قبل 13 عامًا على إطلاق "تيك توك" على المستوى العالمى وفقًا لتقرير "النظرة العامة العالمية الرقمية" لعام 2022. ويعنى هذا أن نمو تطبيق تيك توك أسرع بكثير

الثالث، التجارة الالكترونية، وهى أحد مخرجات الثورة الرقمية. وتجدر الإشارة هنا أن الصين تمتلك عددا من منصات التجارة الإليكترونية، أبرزها على "بابا تى مول" T-MALL التى تعمل فى مجال تجارة التجزئة، والوساطة بين الشركات والمستهلكين، وعلى "بابا تاوباو" Taobao التى تُعد سوقًا تجارية يجرى التعامل فيها بين المستهلكين أنفسهم، وعلي إكسبرس Ali Express التى تضم شركات صينية صغيرة تقدم منتجاتها للمشترين فى العالم عبر الإنترنت باستخدام 16 منصة تغطى معظم بلدان العالم، و"على بابا كلاود" Ali Baba Cloud التى تقدم خدمات الحوسبة السحابية، ومعالجة بيانات التجارة الإلكترونية، فضلاً عن المنصات الترفيهية التى تقدم خدمات حجز تذاكر الحفلات الموسيقية والمسرحيات والفعاليات الرياضية، وتحميل الألعاب وغيرها.

الثقافة والنموذج التنموي الصيني

تناول هذا الفصل كيفية تأثير العوامل الثقافية على نمط التنمية الصيني سعيا نحو تخطى التعميمات والتحليلات الاستاتيكية حول دور الثقافة في نمط التنمية الآسيوي بوجه عام، إلى صورة أكثر تركيبا لتأثير عناصر الثقافة الصينية، بعد تدقيق ما يعنيه ذلك على التنمية في المراحل المختلفة، والخصوصية التي تمثلها الصين في هذا السياق، بما في ذلك الاختلافات الثقافية بين بعض المناطق والأقاليم، وكيف تمارس تلك المتغيرات الثقافية تأثيرها على التنمية عبر قنوات غير مباشرة من خلال تأثيرها على عملية بناء الدولة، ونمط الحكم، وآليات النظام الإداري على سبيل المثال. كما يقدم الفصل إشارات متى كان ذلك ضروريا إلى الاختلافات بين الأدبيات الغربية والأدبيات الصينية في هذا السياق، حيث تركز الأخيرة على بلورة ما يعرف بنموذج "التنمية السلمية".

على هذه الخلفية، تقدم الدراسة مقدمة مفاهيمية حول المقصود بالمتغيرات الثقافية وتأثيرها على التنمية، مع العرض النقدي للأدبيات التي تتناول هذا الدور سلبا وإيجابا، بالتركيز على تلك الخاصة بالنمط الآسيوي للتنمية وعلاقته بقيم الأسرة والعمل الجماعي، وهو التعميم الذي ساد مع الصعود الاقتصادي والتنموي لما سمى بالنمور الآسيوية، وتعزز مع النجاح الاقتصادي الصيني. ويهدف هذا المدخل إلى الاشتباك مع حدود قدرة المدخل الثقافي على تفسير وفهم النموذج التنموي الآسيوي، وأبرز الرؤى المؤيدة والناقدة للتفسيرات الثقافية للتنمية.

 ففي حين ركزت بعض الدراسات على المنظور الثقافي وجادلت بقدرته على تفسير التجربة التنموية الآسيوية معتبرة أن الاختلافات بين المؤسسات والكيانات الاقتصادية واختلاف السلوك على مستوى الأفراد، عمالاً ومديرين، يرجع إلى عوامل ثقافية مشتركة، ذهبت دراسات أخرى إلى تقليص دور العامل الثقافي، أو على الأقل إلى أنه يمارس دوره عبر قنوات متشعبة بصورة أكثر تركيبا مما توحى به الحكمة الشائعة.

على مستوى الصين فإن الصورة أكثر تركيبا؛ فقد سادت اتجاهات قوية في بعض مراحل انطلاق التجربة التنموية، تعزى عقبات عملية التنمية إلى الثقافة التقليدية، كما أن تنوع التركيب البشرى والجغرافي للدولة، وتطور مراحل النموذج التنموي بها يستعصي على التنميط والتعميمات.

ويتناول هذا الفصل الاتجاهات المتجاذبة حول المتغير الثقافي، وكيف تطور دوره في تشكيل عناصر البيئة المؤسسية، والتأثير على قواعد وعلاقات العمل، عبر تحليل القيم الثقافية الصينية والمصادر الأيديولوجية والدينية، وعلى رأسها الكونفوشية. وهو الاتجاه نفسه الذي يعزو عدم تصنيف الاقتصاد الصيني بشكل كامل كاقتصاد رأسمالي أو شيوعي إلى الخصائص الثقافية الصينية التي أنتجت في الصين ما يعرف بـ "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، أو رأسمالية السوق الاشتراكي أو غيرها من المسميات الهجين لنمط التنمية الصينية بخصائصه المختلفة.

واستعرض الفصل الأدبيات التي تتشكك حول عمق تأثير المتغير الثقافي على التنمية، ثم تنتقل إلى تناول بدرجة أكبر من التفصيل للمداخل التي تتبنى التأثيرات الإيجابية لدور الثقافة في التنمية الاقتصادية، واعتبارها مدخلاً أساسيا لفهم النموذج التنموي الآسيوي بشكل عام والصيني بشكل خاص.

في هذا السياق، ركزت الدراسة على الثقافة الصينية التقليدية، وتطوراتها مرورا بالثورة الثقافية، استعراضا لعناصر الاستمرار والانقطاع والتغيير، وخصائصها وسماتها، والمصادر الأيديولوجية والفكرية، وبخاصة تأثير الكونفوشية، والطاوية، والبوذية، وكيف سمحت تلك الروافد المتنوعة باتباع العناصر الثقافية بشكل انتقائي ويتسم بالمرونة، على الرغم من أن هذه التعاليم والقيم قد تتنافس بل وتتعارض فيما بينها.

وتركز العديد من الأدبيات بشكل خاص على دور الكونفوشية في تبلور الطبقات الاجتماعية الصينية، وتشكيل سلوك أو الأعمال فيما بعد، وإضفاء البعد الأخلاقي على الممارسات التجارية والاقتصادية، فضلاً عن تأثيرها على أنماط الاستهلاك. ومقابل الأطروحات التي أشارت إلى دور الثقافة الصينية في دفع التجربة التنموية الصينية.

وتخلص الدراسة إلى أنه، ورغم الاعتراف بالتأثيرات القوية للنظم المؤسسية والإدارية المرتبطة بطبيعة النظام السياسي الصيني وأيديولوجيته، فإن العوامل الثقافية قد مارست تأثيرها على تلك النظم المؤسسية، عبر قدرتها على التأثير على العلاقات الاجتماعية وأنماط المعيشة، والسلوك، والمعتقدات، وتوجهات الأفراد داخل وخارج أماكن العمل.

 كذلك تعرضت الدراسة إلى ثقافة الفاعلين الاقتصاديين المختلفين مثل ثقافة الأعمال، والثقافة في إطار الشركات والمؤسسات الاقتصادية، ودراسة مدى تغيرها أو ثباتها ما بين الحفاظ على القيم الصينية التقليدية التي كانت تتخذ طابعاً شبه أبوي، وبين التأثر بالتأثيرات والتفاعلات الأجنبية والمتغيرات الجيلية. وفى هذا الإطار، ترصد الدراسة تأثيرات الزمن والتفاعلات مع العناصر الثقافية الواردة، خاصة من خلال تأثير تدفق الاستثمار الأجنبي إلى الصين، وما يحمله من حمولة ثقافية، على القيم الثقافية والسلوك الإداري الصيني. وتشير بعض الدلائل إلى أن هذا العامل ساهم في تخفيف أثر الموروثات الثقافية التقليدية. كذلك، يرصد الفصل كيف أحدثت التنمية بدورها بعض التأثيرات في الثقافة الصينية، بمعنى أن التأثير لم يكن في اتجاه واحد.

بعبارة أخرى، فإن الفصل يقدم تحليلا متجاوزا للثنائيات الحدية في بحث علاقة الثقافية بالتنمية في الصين، والتي تتجاذب حول ما كون الثقافة مصدرا أساسيا أو ثانويا للتأثير على التنمية، وتحاجج ما إذا شكل الموروث الثقافي والقيمي عناصرا إيجابية أو سلبية في هذا الإطار، إلى بحث مسارات وعناصر هذا التأثير في تجلياته ومراحله المختلفة وصولا إلى المرحلة الراهنة من تطور النموذج التنموي الصيني.

تأثير الثقافة الصينية التقليدية على الدبلوماسية الصينية

لا شك في أن دولة مثل الصين بمرجعيتها الأيديولوجية الثابتة وتكوينها الاجتماعي والعرقي والديموغرافي، وتاريخها الممتد منذ خمسة آلاف عام، تؤثر ثقافتها التقليدية على السياسة الخارجية الصينية، ويظهر تأثيرها الواضح في: الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية للصين، وأثر المبادئ الإرشادية، وشمولية ذلك التأثير. ومن الواضح أنه توجد علاقة بين الثقافة الصينية التقليدية والسياسة الخارجية الصينية، حيث تحمل هذه السياسة دائما وفي كل المراحل خصائص الصين بشكل واضح.

وخلال تعبيره عن دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الطابع الصيني، برع شي جين بينغ في معالجة العلاقات الدولية المعاصرة باستخدام الثقافة الصينية التقليدية المتميزة. حيث كان دائم الاقتباس لعباراتٍ مثل: "الأقرباء والجيران يتمنون الخير لبعضهم بعضًا"، و"الجار الجيد لا يُشترى بكنوز الدنيا"، و"لو صار الأخوة على قلب واحد لانفتحت أمامهم أبواب الثروة"، وغيرها من المقولات؛ ليعبر عن المفاهيم الدبلوماسية مع الدول المحيطة، المتمثلة في القرب والصدق والكرم وتقبل الآخر، واقتبس مقولات مثل: "القوي لا يظلم الضعيف، والغني لا يهزأ بالفقير"، و"الدولة رغم قوتها، تفنى إذا ما أحبت الحروب"، وغيرها من المقولات؛ ليعلن أن جينات القومية الصينية ليس بها ثقافة احتلال الآخرين ولا الهيمنة على العالم.

النظام الثقافي الصيني المحلي هو نظام متكامل يكاد يكون أقرب للدين منه لمفهوم الثقافة فقط، وهو مصطلح يختلف عن العلوم والمعارف الأجنبية حول "الثقافة". ويشبه ذلك على سبيل المثال: الاختلاف بين الطب الصيني والطب الغربي، أو الاختلاف بين الرسم الصيني والرسم الزيتي؛ لذا يعد علم الثقافة الصينية مفهوما يختلف لدى الصينيين عن مفهوم العالم للثقافات.

علاوة على ذلك، يمكن تصنيف محتويات الثقافة الصينية أيضا من حيث الزمان والجودة، فهناك ثقافات قديمة تقابلها ثقافات معاصرة، وثقافات كلاسيكية تقابلها ثقافات رائجة. ويشير مصطلح علم الثقافة الصينية إلى الثقافة الصينية التقليدية التي نشأت قبل فترة حركة الثقافة الجديدة في العصر الحديث، أي الإنجازات الثقافية التي تحققت في تاريخ الصين القديمة. ومن ثم، فإن علم الثقافة الصينية هو مفهوم تمييزي ومفهوم زمني أيضًا.

ويشير علم الثقافة الصينية المتوارث من الماضي ويمتد أثره للمستقبل، بصورة خاصة، إلى المحتويات الثقافية المنتقاة والتي تتحلى بالقيم المتوارثة والمغزى الواقعي، لذا فإن علم الثقافة الصينية الرائج اليوم، يتمثل في الأجزاء المميزة من الثقافة الصينية التقليدية والتي تشمل كل تفاصيل حياة الصينيين.

يقول الرئيس الصيني شي جين بينغ معبرا عن أهمية الثقافة: "إن حلم الصين لن يتحقق بدون توارث الحضارة وتطويرها وتطوير الثقافة وازدهارها. ونظرا لأن حلم الصين يجمع بين الحضارة المادية والحضارة الروحية، وأن تطوير الروح الصينية جزء لا يتجزأ من حلم الصين، فإن نهضة الثقافة الصينية التقليدية الممتازة التي تمثل الروح الصينية وتبني صورة الصين وتنشر صوتها هي خطوة مهمة لتحقيق النهضة والصعود والازدهار في الحاضر والمستقبل، إذ إن الثقافة هي الروح الجوهرية الدائمة للأمة وتمثل علامة القوة الناعمة للدولة أمام العالم."

وتشير القيم الجوهرية إلى القيم المعيارية والمبادئ الإرشادية ذات القبول الواسع والدرجة العالية من التوافق بين أفراد المجتمع. وتشير القيم الصينية المعاصرة بشكل عام إلى القيم المقبولة لدى المجتمع ككل، والقيم التي تعلي من شأنها الأمة، والقيم التي تتوافق مع تيار العصر. فهي المعيار الأخلاقي للدولة والإرشاد للسلوك الجماعي وهي تعكس الروح القومية.

ويأتي تأثير الثقافة الصينية التقليدية على العلاقات الخارجية على مستويات عديدة وفي مجالات مختلفة. فمن منظور المبادئ الأساسية لشؤون الصين الخارجية: تعد المبادئ الخمسة للتعايش السلمي هي المبادئ الأساسية لشؤون الصين الخارجية، وتنفذ الصين تلك المبادئ بحيوية والتزام، وتمسكت بها على مدى عقود في علاقاتها مع الدول المختلفة. وأثبتت الوقائع أن الصين تتمسك بها لمواجهة التغيرات المفاجئة للعلاقات الدولية. وهي ليست فقط مجرد مبادئ أساسية لشؤون الصين الخارجية، بل أصبحت معيارا للعلاقات الدولية المقبولة والمبادئ الأساسية للقانون الدولي.

وفيما يتعلق بتأثير الثقافة الصينية على السياسة الخارجية الصينية حديثا، يمكن القول إن الهدف الأساسي الواضح من السياسة الخارجية التي تتبعها الصين هو حماية استقلالها وسيادتها ووحدة أراضيها، وخلق بيئة دولية جيدة تهدف إلى الإصلاح والانفتاح والعصرنة، وحماية السلام العالمي والتقدم المستمر في التنمية المشتركة. ويرتبط الهدف الأساسي من السياسة الخارجية الصينية ارتباطًا وثيقًا بمشكلات العصر ومصالح الدولة وخصائص المجتمع الاشتراكي وعناصر أخرى، لكن له علاقة أيضا بتأثير الثقافة التقليدية الصينية.

وتدعو السياسة الخارجية الصينية إلى التنمية الشاملة للعلاقات، أي الاتصال بجميع دول العالم والحفاظ على علاقات جيدة معها، ومعارضة الهيمنة في كل الجوانب. وفي الوقت نفسه انفتحت الصين على العالم الخارجي، ليس فقط الدول الرأسمالية بل وعلى الدول الاشتراكية والدول المتقدمة والدول النامية. وتتوسع الصين في المشاركة في الأنشطة الاقتصادية متعددة الأطراف في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية. وتكمن الفائدة الأكبر من التطوير الشامل للعلاقات والانفتاح على الخارج في استيعاب نقاط القوة والانتباه لنقاط الضعف، وأخذ زمام المبادرة. وترتبط شمولية السياسة الخارجية للصين بدرجة ما بالثقافة الصينية التقليدية.

وفي مسيرة التحديث الذي تبنيها الصين، فقد ورثت وطورت بشكل كبير تقاليد وجوهر البحث عن الحقيقة. ويتجلى ذلك في السياسة الخارجية وخصوصا في الانفتاح على العالم الخارجي، إيمانًا منها بأن كل دولة لها مزاياها ونقاط قوتها الخاصة، وكلها جزء من تقدم الحضارات الإنسانية في العالم.

ومن الطبيعي أن تتأثر السياسة الخارجية للصين بشكل أساسي بمصالح الدولة، لكن للثقافة الصينية التقليدية تأثير إيجابي لا يمكن تجاهله على السياسة الخارجية الصينية. وبذلك يمكن رؤية الرابط بين هذه الثقافة والسياسة الخارجية الصينية، التي تحمل خصائص الصين.

وثقافة "التناغم" واحدة من خصائص الثقافة الصينية التقليدية، ورمز "التناغم" في شكله القديم كان يتكون في جزئه الأيسر من رمز الآلة الموسيقية، ويتكون في جزئه الأيمن من رمز الصوت، وهذا يعني أن ثقافة التناغم الصينية تنبع من الآداب والموسيقى. ومع تطورها تدريجيا أصبح الرمز معبرا عن حالة تناسق (تناغم) السماء والأرض والإنسان التي يسعى إليها البشر، وأصبحت إحدى القيم الأساسية التي يتطلع إليها الفلاسفة التقليديون.

وتلجأ بعض الدول والأمم إلى الحروب وتدعو إلى حل النزاعات باستخدام الأسلحة، ومن وجهة نظر أعمق، فالسبب الأساسي هو أن ثقافاتهم التقليدية تفتقر إلى الرغبة في الإلزام الأخلاقي والمحاسبة. وعلى الجانب الآخر، فقد شددت الصين على العلاقة الوثيقة بين مكارم الأخلاق والوصول للسلام، وهكذا نشأ "الحب العالمي".

واستطاعت ثقافة "التناغم" أن تصبح أحد المصادر النظرية الرئيسية للثقافة الدبلوماسية في الصين الحديثة، بالإضافة إلى تأثيرها بطريقة غير مباشرة؛ فموقف الحزب الشيوعي الصيني من الثقافة التقليدية كان الأساس.

وتتمتع الثقافة الصينية التقليدية بشعور قوي بالسلام ومعاداة الحروب، وكانت منذ القدم تطبق سياسة حسن الجوار والانسجام بين الأمم المختلفة، ولهذا لم يرغب معظم حكام الصين مطلقا في التوسع والاستعمار، بل رأوا التوسع عبئا عليهم، فقد رفض أباطرة هان وتانغ وتشنغ وغيرهم مطالب ضم الأراضي والشعوب إليهم. وتطبيق الصين لحسن الجوار في علاقاتها الخارجية هو إظهار لثقافة "التناغم" الصينية التقليدية.