تميزت السياسة الخارجية المصرية طوال الفترة الماضية بتنامي نشاطها في المحافل الإقليمية والدولية، والذي عادة ما يستدل عليه بتعدد الزيارات الرسمية التي يقوم بها الرئيس عبدالفتاح السيسي باعتباره الصانع الرئيسي لتوجهات السياسة الخارجية للدولة، والسيد سامح شكري وزير الخارجية الذي من خلال جهاز الدبلوماسية المصرية يصنع السياسات التي تنفذ تلك التوجهات. وهذا النشاط المتنامي للدبلوماسية المصرية كان كفيلاً بحضور ومشاركة مصر في عديد من المناقشات متعددة الأطراف حول القضايا ذات الأهمية في مرحلة امتازت بتغير موازين القوى في الشرق الأوسط وتغير معنى الريادة الاقليمية والتأثير الإقليمي، فضلاً عن تحول موازين القوى في العالم.
لكن يبدو أن العام الجديد 2023 سيشهد انتقال السياسة الخارجية لمصر من مرحلة النشاط المتنامي إلى مرحلة التأثير النوعي في عدد من القضايا على نحو يؤسس، في حال اكتمال هذا الانتقال، لمكانة جديدة لمصر في إقليم الشرق الأوسط، ويعيد تعريف أهميتها بالنسبة للقوى الكبرى المهتمة بشئون هذا الإقليم.
ويمهد لهذا الانتقال ستة تطورات شهدتها السياسة الخارجية المصرية خلال الفترة الماضية: الأول، إعلان الرئيس السيسي في نوفمبر 2022 خلال قمة COP27 بشكل واضح وصريح دعوته لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية وعن استعداده للعب دور في ذلك، حيث صرح خلال القمة قائلاً: "أنادي بكم ومعكم إن سمحتم لي بذلك من أجل أن تتوقف هذه الحرب (..)، أنا مستعد للعمل من أجل إنهاء هذه الحرب ليس بهدف البحث عن دور"، وهو ما يمثل موقفاً متمايزاً يعكس مساعي مصر منذ بدء الحرب لتبني موقف متوازن منها وتجنب تأييد أي من طرفي الصراع وذلك بسبب ارتباطها بمصالح متشابكة مع روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين، وذلك فضلاً عن انهماك الحكومة في احتواء الآثار السلبية للحرب على الوضع الداخلي خاصة الاقتصادي.
الثاني، إعلان استضافة مصر للمحادثات الروسية-الأمريكية بخصوص معاهدة "نيوستارت" المعنية بضبط سباق التسلح النووي بين موسكو وواشنطن، والتي كان مخططاً انعقادها خلال الفترة 29 نوفمبر - 6 ديسمبر 2022. ورغم أن هذه المحادثات لم تنعقد في ميعادها بسبب إعلان روسيا تأجيلها، إلا أن اختيار القاهرة يفيد بوجود انطباع ما لدى موسكو وواشنطن حول حياد مصر وإمكانية لعبها دور المضيف للمحادثات، وهو ما من شأنه أن يضفي بعداً آخر لطبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في تخفيف حدة الشد والجذب بين روسيا والولايات المتحدة والذي زادت شدته منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير 2022.
الثالث، يرتبط بعدد من السياسات الداخلية التي تبنتها الحكومة المصرية استكمالاً لتأسيس "الجمهورية الجديدة"، حيث أعلنت مصر عن وثيقة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في 2021، وهو ما بعث برسالة واضحة للمجتمع الدولي باكتساب هذا الملف أولوية في سياسات الدولة، ويتابع تنفيذ هذه الاستراتيجية من مختلف الجهات الحكومية اللجنة الوطنية الدائمة لحقوق الإنسان، وأصدرت هذه اللجنة تقرير المتابعة الأول لتنفيذ الاستراتيجية في ديسمبر 2022. كما تم تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي والتي تعمل بشكلٍ حثيث على إطلاق سراح عدد من المحبوسين في قضايا الرأي. فضلاً عن ذلك، دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي، منذ أبريل 2022، لتنظيم "حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني"، بهدف إشراك مختلف القوى والأحزاب السياسية في صياغة وتحديد أولويات العمل في الدولة خلال المرحلة المقبلة.
هذه الإجراءات في مجملها تؤسس للبعد السياسي الذي ترتكن إليه الجمهورية الجديدة والذي يقوم على أساس إتاحة الفرصة للجميع للمشاركة في إطار دستور 2014، كما أنه يسهم بشكل ما في معالجة عدد من القضايا الخلافية.
الرابع، انفتاح مصر على تطبيع العلاقات مع قطر وتركيا وتجاوز الخلافات التي أدت لأزمات دبلوماسية بينها، على نحو يسمح باحتفاظها بقنوات اتصال مفتوحة مع هاتين الدولتين اللتين تعدان حليفتين رئيسيتين لواشنطن في المنطقة، وهو ما قد يعزز من التقدير الأمريكي لما يمكن أن تقوم به مصر من أدوار إقليمية في المنطقة خلال الفترة المقبلة.
الخامس، دور مصر في تحقيق الأمن البحري في الممرات الرئيسية في الشرق الأوسط، حيث انضمت مصر لتحالف "القوات البحرية المشتركة" Combined Maritime Forces في 2021، ومنذ ذلك الحين اقتصر دورها على المشاركة فيما ينفذ من تدريبات ومناورات وعمليات ذات صلة بمهمة هذا التحالف التي تتمثل في مكافحة تهريب المخدرات والقرصنة وتشجيع التعاون الإقليمي وتأمين الملاحة ضد أي تهديدات نابعة من الفاعلين من غير الدول.
وفي 12 ديسمبر 2022، أعلن التحالف عن تولي مصر قيادة قوات المهام المشتركة Combined Task Force (CTF) 153 التي استحدثت في إطار هذا التحالف منذ 17 أبريل 2022، ووفق بيان التحالف تعد هذه هي المرة الأولى التي تتولى فيها مصر قيادة أي من قوات المهام المشتركة في إطار التحالف منذ انضمامها له في 2021. وتعنى قوات CTF 153 بتأمين الممر الملاحي للبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.
السادس، مساهمة مصر في مشاريع إعادة الإعمار والتنمية في عدة دول مجاورة، حيث شهد العام 2021 تنفيذ الحكومة من خلال القطاع الخاص مشاريع إعادة الإعمار في قطاع غزة، كما شهدنا منذ أيام الافتتاح الرسمي لسد "جوليوس نيريري" في تنزانيا والذي نفذه التحالف المصري لشركتي المقاولون العرب والسويدي إليكتريك، فضلاً عن الإعلان، في نوفمبر 2022، عن تنفيذ نسخة أفريقية من مبادرة حياة كريمة في عدد من الدول الأفريقية من خلال مبادرة "حياة كريمة لأفريقيا صامدة أمام التغيرّات المناخية". وهذا التطور يكشف عن اتجاه مصر للاعتماد على قدرات القطاع الخاص في التغلب على محدودية الموارد الاقتصادية الحكومية والتي ظلت عائقاً لسنوات يحول دون تبني سياسات خارجية ذات طابع تنموي.
تكشف هذه التطورات الست في مجملها عن ثلاثة مرتكزات رئيسية يرتكن إليها ما يمكن أن تمارسه السياسة الخارجية المصرية من تأثير نوعي خلال الفترة المقبلة. ينصرف المرتكز الأول إلى إدراك مصر للتغير في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط وعدم واقعية تفرد دولة بعينها بقيادة المنطقة، ومرونتها في تقبل تقاسم وتشارك التأثير مع القوى الإقليمية الأخرى على نحو يسمح لها بتأثير نوعي في قضايا جزئية في المنطقة.
ويتعلق المرتكز الثاني بعدم اقتصار السياسة الخارجية للدولة على النشاط الدبلوماسي في صورته التقليدية كما كان الوضع لسنوات طويلة، واتجاه مصر لاستخدام أدوات اقتصادية تعتمد بشكل كبير على قدرات القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني التنموية من أجل التحرك في مساحات جديدة للتأثير كانت بعيدة عن السياسات المصرية مثل السياسات التنموية وسياسات إعادة الإعمار وغيرها.
ويتعلق المرتكز الأخير بتخليق الأفكار التي تكتسب أهميتها في تحديد مساحات التأثير الممكنة والتي هي كفيلة بفتح مساحات جديدة للسياسة الخارجية للدولة تستطيع من خلالها أن تعزز أهميتها بالنسبة لعديد من القضايا التي يهتم بها المجتمع الدولي.
وبقدر استدامة هذه المرتكزات الثلاثة خلال الأعوام المقبلة، سيتحدد مستوى التأثير الذي تمارسه مصر في القضايا الإقليمية والدولية، وستتحدد أيضاً طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه بدعم من القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالشرق الأوسط.